الجمعة، 11 ديسمبر 2020

البصر والبصيرة

 

خاطرة الجمعة /269


الجمعة 11 ديسمبر 2020م

(البصر والبصيرة)

 

جرت وقائع هذه القصة بين بعض العرب المقيمين بالمملكة المتحدة عام 2007م، يقول كاتبها:

دخلنا إلى أحد المطاعم العربية في لندن قبيل الغروب لتناول العشاء، جلسنا وجاء النادل لأخذ الطلبات، استأذنتُ من الضيوف لدقائق ثم عدتُ؛ فسألني أحدهم، قال: أين ذهبتَ دكتور لقد تأخرتَ علينا كثيراً أين كنت؟

قلتُ: أعتذر؛ كنت أصلي.

قال مبتسماً: هل مازلت تُصلي؟ يا أخي أنت صاحب فكرٍ قديم!

قلتُ مبتسماً: قديم؟! لماذا؟ وهل الله موجودٌ فقط في الدول العربية؟ ألا يوجد الله في لندن؟

قال: دكتور، أريد أن أسألك بعض الأسئلة ولكن أرجوك تحملني قليلاً برحابة صدرك المعهودة.

قلتُ: بكل سرورٍ، ولكن لديّ شرطٌ واحدٌ فقط.

قال: تفضل.

قلتُ: بعد أن تنتهي من أسئلتك، عليك أن تعترف بالنصر أو الهزيمة، موافق؟

قال: اتفقنا، وهذا وعدٌ مني.

قلتُ: لنبدأ المناظرة؛ تفضل.

قال: منذ متى وأنتَ تصلي؟

قلتُ: تعلمتها منذ أن كنتُ في السابعة من عمري، وأتقنتها وأنا في التاسعة من عمري، ولم أفارقها قط، ولن أفارقها إن شاء الله تعالى.

قال: وماذا لو أنك بعد الوفاة اكتشفتَ بأنه لا توجد جنةٌ ولا توجد نارٌ ولا ثوابٌ ولا عقابٌ، فماذا ستفعل؟

قلتُ: سأتحملك، وأُكمل المناظرة معك حسب فرضيتك؛ فلنفرض أنه لا توجد جنةٌ ولا توجد نارٌ، ولا يوجد ثوابٌ ولا عقابٌ، لن أفعل أي شيءٍ لأنني أصلاً كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- "إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، ولكن عبدتك لأنك أهلٌ للعبادة".

قال: وصلاتك التي واظبتَ عليها لعشرات السنين، ثم تجد أن من صلى ومن لم يصلِ سواء، ولا يوجد شيءٌ اسمه سقر؟

قلتُ: لن أندم عليها لأنها لم تأخذ مني سوى دقائق في اليوم، وسأعتبرها رياضةً جسديةً.

قال: وصومك، لا سيما وأنت في لندن، والصوم هنا يصل في بعض الأيام إلى أكثر من 18 ساعة في اليوم؟

قلتُ: سأعتبر صومي رياضةً روحيةً فهو ترويضٌ نفسيٌ وروحيٌ من الطراز الرفيع، وكذلك فيه منفعةٌ صحيةٌ كبيرةٌ أفادتني في حياتي، وتوجد تقارير دولية من جهاتٍ ليست إسلاميةً أصلاً أكدت أن الامتناع عن الطعام لفترةٍ فيه منفعةٌ كبيرةٌ للجسد.

قال: هل جربتَ شرب الخمر؟

قلتُ: لم أذق طعمه أبداً.

قال مستغرباً: أبداً؟!

قلتُ: أبداً.

قال: وماذا تقول عن حرمانك لنفسك في هذه الحياة من لذة الخمر ومتعته ومتعة جلوسه بعد أن تكتشف صدق فرضيتي؟

قلتُ: أكون قد منعتُ وحصنتُ نفسي من ضرر الخمر الذي هو أكثر من نفعه؛ فكم من مريضٍ بسبب الخمور، وكم من مدمرٍ لبيته وعياله من أثر الخمور، وانظر أيضاً إلى التقارير الدولية من جهاتٍ غير إسلاميةٍ تحذر من آثار الخمور وآثار الإدمان عليها.

قال: والذهاب للحج والعمرة بعد أن تكتشف بعد الوفاة أنه لا يوجد شيءٌ من هذا، وأن الله غير موجودٍ أصلاً.

قلتُ: سأسير حسب فرضيتك ووعدتك بأن أتحمل أسئلتك، سأعتبر الذهاب إلى الحج والعمرة سفرةً جميلةً شعرتُ فيها بمتعةٍ روحيةٍ راقيةٍ ساهمت في غسل وتنقية الروح كما تساهم سفراتٌ أنت قمتَ بها من أجل قضاء وقتٍ جميلٍ لطرد ضغوط العمل وقتل الروتين وساهمت في إنعاش الروح.

ظل ينظر إلى وجهي لثوانٍ صامتاً، ثم قال: شكراً لأنك تحملتني برحابة صدر، أسئلتي انتهت، وأعترف لكَ بالهزيمة.

قلتُ: ماذا تعتقد شعوري بعد أن اعترفتَ أنتَ بالهزيمة؟

قال: بالتأكيد أنت الآن سعيدٌ جداً.

قلتُ: لا أبداً؛ على العكس تماماً، أنا حزينٌ جداً.

قال مستغرباً: حزين؟! لماذا؟!

قلتُ: الآن جاء دوري لأن أسألك.

قال تفضل:

قلتُ: ليست لدي أسئلةٌ عديدةٌ مثلك، لكن هو سؤالٌ واحدٌ فقط لا غير وبسيط جداً.

قال: ما هو؟

قلتُ: بيّنتُ لك بأنني لن أخسر شيئاً في حال حصلت فرضيتك أنت، أما سؤالي الوحيد والبسيط هو: ماذا لو عكسنا فرضيتك؛ وأنك بعد الوفاة اكتشفتَ أن الله تعالى موجودٌ فعلاً، وأن جميع المشاهد التي وصفها الله تعالى في القرآن الكريم موجودةٌ حقاً؟ ماذا أنتَ فاعلٌ حينها؟

ظل ينظر إلى عينيّ، ولم ينبس ببنت شفة، وأطال النظر إليّ صامتاً، وقاطعنا النادل الذي أوصل الطعام إلى مائدتنا؛ فقلتُ له: لن أطلب الإجابة الآن، حضر الطعام، لنأكل وعندما تكون إجابتك جاهزةً من فضلك أخبرني بها.

أنهينا الطعام ولم أحصل منه على إجابةٍ، ولم أحرجه وقتها بطلبها، وغادرنا المطعم بصورةٍ طبيعيةٍ جداً.

بعد شهرٍ اتصل بي طالباً مني اللقاء في ذات المطعم؛ التقينا وتصافحنا، وإذا به يطوقني بين ذراعيه واضعاً رأسه على كتفي وأجهش بالبكاء. وضعتُ ذراعيّ على ظهره وقلتُ له: ماذا بك؟

قال: جئتُ لأشكرك، ودعوتك إلى هنا لأقول لك جوابي، لقد رجعتُ إلى الصلاة بعد أن قطعتها لأكثر من عشرين عاماً؛ كانت أجراس كلماتك ترن في ذهني ولم تتوقف، لم أذق طعم النوم، لقد أثرتَ بركاناً في روحي وفي نفسي وفي جسدي، وصدقني شعرتُ بأنني إنسانٌ آخر، وأن روحاً جديدةً بدأت تسري في هذا الجسد مع راحة ضميرٍ لا مثيل لها.

قلتُ له: ربما تلك الأجراس أيقظتْ بصيرتك بعد أن خذلك بصرك.

قال: هو ذاك تماماً، فعلاً أيقظتْ بصيرتي بعد أن خذلني بصري، شكراً لك من القلب أخي الحبيب.

 

أحبتي في الله .. كأن هذه القصة هي تفصيلٌ لموقفٍ مرَّ به أحد الدعاة؛ حين سأله ملحدٌ: "ما شعورك لو متَ واكتشفتَ أن الآخرة كذب؟! فقال: ليس أسوأ من شعورك إذا متَ واكتشفتَ أن الآخرة حقيقة"!

ما لفت انتباهي في هذه القصة العبارة

التي انتهت بها: "ربما تلك الأجراس أيقظتْ بصيرتك بعد أن خذلك بصرك"،

فهل هناك فرق بين (البصر والبصيرة)؟

 

يقول أهل الاختصاص إن البصر هو أحد الحواس الخمس التي ندرك بها العالم من حولنا، والإبصار هو رؤية الأشياء وإدراكها والتعرف عليها بواسطة العين التي هي أداة النظر؛ يقول تعالى: ﴿رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ . وكم رأينا من عيونٍ تدور في مَحجرها وتتجه نحو الشيء المنظور إليه لكنها لا تراه؛ إذ عملية الإبصار لم تتم؛ يقول تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾، فالأمر يبدأ بالنظر ثم يتبعه البصر وينتهي بالرؤية. أما في مشهد البعث والحشر، حينما يقف المشرك بين يدي الله فإنه يرى الحقيقة التي لا مفرّ منها رأيَ العين؛ إذ كان بصره مغطىً بغشاوةٍ في الحياة الدنيا؛ يقول تعالى: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ تم كشفها يوم الحساب؛ يقول تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾.

 

وعن (البصر والبصيرة) يقولون إن البصر -وأداته العين- يريك ظاهر الأشياء، والبصيرة -وأداتها القلب- تريك حقائق الأشياء؛ ففي اللحظة التي تتحقق فيها البصيرة لا تكون العين هي التي تُبصر، وإنما يكون القلب هو الذي يدرك. يمكنا القول إذن إن البصر هو للآفاق أما البصيرة فهي للأعماق؛ فيكون نظر القلب أصدق من نظر العين، فبالعين نرى الأشياء التي تقع تحت نظرنا فنميّزها تمييزاً أوّلياً قد يكون فيه التباسٌ وغموض، لا يرفعه إلا ضوءٌ يكشف لنا حقيقة الأشياء، هذا الضوء هو البصيرة، وهي هامةٌ حتى قيل إن الشيء الأسوأ من العمى، هو أن يمتلك الإنسان البصر ويفتقد البصيرة.

 

وعن (البصر والبصيرة) يقول أحد العلماء إن البصيرة، هي قدرة القلب على إدراك الأشياء وسبر أغوارها، وهي القدرة على الرؤية الصحيحة المتشكّلة من عقل الانسان وثقافته وتربيته وتجربته ودينه. وقد يكون الإنسان صاحب بصرٍ قويٍ لكنه ذو بصيرةٍ ضعيفةٍ؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾. وكما أنّنا لا نستطيع أن نبصر في الظلام -حيث تتشابه الأشياء فلا يمكن تمييز بعضها عن بعض- فكذلك إذا فقدنا البصيرة؛ فإنّنا نتورّط في التشخيص الخاطئ للأشخاص وللأمور. وهذا هو الفرق بين إنسانٍ صاحب بصيرةٍ، وآخر يفتقدها. إن عمل البصيرة في قلب المؤمن كعمل كشاف ضوءٍ منيرٍ في وسط ظلمةٍ حالكةٍ، فهي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، ولا يراها كما زُينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس لذوي الأنفس الضعيفة. فالبصيرة نورٌ ربانيٌ يهتدي به المؤمن؛ يقول تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾.

 

وعن أعمى البصيرة قال الشاعر:

يُمسي ويصبحُ في عَشواءَ يخبِطها

أعمى البَصيرةِ والآمالُ تَزرَعُه

يَغترُ بالدَهرِ مَسروراً بصحبتهِ

وقد تيقّنَ أنَّ الدَّهرَ يَصرَعُه

ويجمعُ المالَ حِرصاً لا يفارقُه

وقد درى أنه للغَيرِ يَجْمعُه

تراه يشفقُ مِن تَضييعِ درهمِه

وليسَ يشفِقُ مِن دِيِنٍ يُضيِّعُه

وأسوأُ الناسِ تدبيراً لعاقبِةٍ

مَن أنفقَ العُمرَ فيما ليسَ ينفعُه

 

أحبتي .. بالعين ننظر وبالدماغ نبصر ونرى، لكننا بالقلب وحده تكون لدينا بصيرة، ولا يعوض فقد البصر سوي البصيرة، فاللهم نسألك تمام حفظ البصر وكمال سلامة البصيرة.

 

https://cutt.ly/6hIdECh