الجمعة، 21 يوليو 2023

تصحيح النية

 خاطرة الجمعة /405

الجمعة 21 يوليو 2023م

(تصحيح النية)

 

هذه القصة حدثت في فلسطين قبل أكثر من مائة سنة. يقول راويها إنه سمعها من صديقٍ فلسطينيٍ حدثت لجده، وتداولها الأبناء والأحفاد. يقول الجد وكان مُزارعاً:

دخل موعد شراء البذور للُمزارعين في فلسطين ولم يكن لديّ من المال ما أشتري به بذوراً؛ فسافرتُ من قريتي إلى القُدس حيث سمعتُ بأن هناك رجلاً من الأغنياء الصالحين يُقرض المُحتاجين قرضاً حسناً إلى أجل. زرته في بيته، وكانت خزانة المال بجانبه، فقلت له: "أريد أن أقترض منك مائة دينارٍ ذهبيٍ لأشتري بها بذوراً للزرع، ولك عليّ عهدٌ أن أردها لك كاملةً بعد الحصاد والبيع بإذن الله"؛ فأخذ الرجل من الخزانة كيساً به مائة دينارٍ ذهبيٍ، معصوباً بشريطٍ أحمر من رأسه، وقال لي: "تفضل يا أخي"، قلتُ له: "ألا تُكاتبني على دَينك؟ ألا تستشهد عليّ أحداً؟"، فأجاب: "أنا يا أخي لا أستكتب على إقراضي لأحدٍ إلا بالله، ولا أستشهد على إقراضي لأحدٍ إلا الله، والله خير الشاهدين بيني وبينك".

خرجتُ من عنده وكانت نيتي سليمة بأني سأشتري البذور وأزرع وأحصد وأبيع وأرد له كامل ماله بالكمال والتمام، ولكني بعد أن صرتُ على الطريق قال لي شيطان نفسي: "هذا الرجل لا يعرفك، وأنت من قريةٍ بعيدةٍ جداً عن مكانه، ولم يُكاتبك على دَينه، ولم يستشهد عليك أحداً، والمبلغ كبيرٌ، فتصرف بالمال كما شئتَ" فتغيرت نيتي من الخير للشر. وقد كنتُ جائعاً، ففتحتُ كيس المال، وأخذتُ منه ديناراً ذهبياً، وأغلقتُ الكيس بالشريط الأحمر، وذهبتُ إلى السوق، واشتريتُ بجزءٍ من الدينار الذهبي طعاماً، وأرجعتُ باقيه إلى جيبي، وقفلتُ راجعاً باتجاه قريتي. جلستُ تحت ظل شجرة برتقالٍ، ووضعتُ كيس النقود بجانبي، والطعام أمامي، وبدأتُ آكل طعامي الذي اشتريت. وكانت الغربان تكثر في تلك المنطقة نظراً لكثرة الزروع والثمار، فلمح غرابٌ الشريط الأحمر الذي رُبط به كيس الدنانير، فظنه قطعة لحمٍ حمراء، فانقض على الكيس وخطفه من جانبي وحلّق به سابحاً في السماء عالياً، جريتُ خلفه حتى دخل وسط الأحياء السكنية لمدينة القدس الشريفة واختفى نهائياً؛ فعدتُ إلى مكان طعامي تحت شجرة البرتقال، وبكيتُ كثيراً، وندمتُ كثيراً، وحزنتُ كثيراً، ومرغتُ وجهي في التراب ندماً وأسفاً وناجيتُ ربي مباشرةً وبدون تردد قائلاً: "اللهم إنك كنتَ تعلم صدق نيتي فسهّلتَ أمري، وعلمتَ الآن سوء نيتي فجازيتني، اللهم إني أُشهدك بأني سأشتري بذوراً بما بقي من الدينار الذهبي الذي في جيبي، وأني سأوفي كامل دَيني إلى أخي الذي أقرضني في وقته".

ثم ذهبتُ إلى السوق واشتريتُ بذوراً بالمبلغ الذي تبقى لديّ من الدينار الذهبي ورجعتُ إلى قريتي البعيدة، زرعتُ البذور في مزرعتي، وكانت صغيرة المساحة، فبارك الله في زرعي وأنبت في كل سنبلةٍ مائة حبةٍ، ونقّى زرعي، بقدرته سبحانه، من جميع الحشرات والآفات؛ فحصدتُ الزرع وبعتُ ثلثي الحصاد بأكثر من مائتي دينارٍ ذهبي، وأبقيتُ ثلث الحصاد لبذور السنة التالية، وتجهزتُ للسفر لإرجاع الدَين لصاحبه. وبعد سفرٍ طويلٍ، دققتُ الباب على صاحب المال، وعندما فتح لي الباب عرفني وعانقني عناقاً شديداً وهو يبكي ويقول: "حمداً لله على سلامتك يا أخي ظننتك ميتاً!"، دخلنا المنزل وأنا مُستغربٌ من عناقه وبكائه وشدة ترحيبه بي، فسألته: "يا أخي لماذا فعلتَ ما فعلتَ وأنا قد جئتك على موعدي لسداد دَينك؟"، قال لي صاحب المال مُتعجباً: "بعد أن فارقتنا بساعاتٍ كانت زوجتي تنشر الغسيل على سطح المنزل، فإذا بغُرابٍ يُسقط كيساً من رجليه على سطح بيتنا، وعندما أحضرت لي زوجتي الكيس فإذا هو نفس كيس المال الذي أعطيتك إياه، وبعد أن فتحته وعددتُ ما فيه من دنانير وجدته ناقصاً ديناراً واحداً، فقلتُ في نفسي بأن قُطاع طريقٍ قد قتلوك وأخذوا الكيس، وحصل عليه ذلك الغراب، ولا أعلم كيف حصل عليه؟! فالحمد لله على سلامتك يا أخي، فهلا أخبرتني ما كان من أمرك؟"، فأخبرته بقصتي بصدقٍ، ومددتُ إليه كيساً به مائة دينارٍ ذهبيٍ سداداً لدَيني، فقال لي صاحب المال: "مالي صار معي، ولا ينقصه سوى دينارٍ واحدٍ، وأنا يا أخي أهبُك هذا الكيس الذي فيه تسعةٌ وتسعون ديناراً هديةً لك على سلامتك، ومكافأةً لك على صدقك وأمانتك وحُسن وفائك، ولا تتردد مُستقبلاً في زيارتي لأية حاجةٍ في نفسك، اعتبرني أخاً لك لم تلده أُمك".

 

يقول راوي القصة:

حينما كانت نية الجد المُزارع حسنةً؛ سهّل الله له الحصول على المال. ثم عندما تغيرت نيته للشر؛ سلب الغُراب منه المال. ثم بعد (تصحيح النية) وتغييرها للخير؛ زرع وحصد وباع وفتح الله له ما يَعْدِل سداد دَينه وزيادة. ووهبه الله تسعةً وتسعين ديناراً مُكافأةً له على صدقه وأمانته ووفائه؛ وصدق الله العظيم حين قال: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ ٱللَّهَ سميعٌ عليمٌ﴾.

 

أحبتي في الله.. النية محلها القلب، وهي ركنٌ أساسيٌ في جميع الأعمال والعبادات.

وردت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تشير إلى النية وتربط بينها وبين الإخلاص في العمل؛ من بين هذه الآيات الكريمة قوله تعالى: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ﴾. وقوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾. وقوله تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾.

وعن النية قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْه ِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ].

وعن أجر وثواب النية قال عليه الصلاة والسلام فيما يَروي عن ربه عَزَّ وَجَلَّ: [إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً]. وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غزوة تبوك: [إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لأَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ هَبَطْتُمْ وَادِيًا، إِلاَّ وَهُمْ مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا].

 

يقول العُلماء إن النية ارادةٌ ورغبةٌ داخل الإنسان تتواجد في القلب، وتُمثل ما بداخل الإنسان من مشاعر ورغباتٍ حقيقية. وقيل إنها العزم. وقيل إنها الإرادة المتوجهة نحو الفعل. وقيل إنها مطلق القصد إلى الفعل. ويُشترط فيها أن تكون خارجةً من قلب الإنسان ومن مكنون نفسه، وأن لا يتم الإعلان عنها إلى أن يتم فعلها؛ فالنية لا يعلمها إلا صاحبها، اما بالنسبة للآخرين فيجب أن تتحول إلى فعلٍ أولاً.

 

وعن (تصحيح النية) حتى يرتبط العمل بالإخلاص يقول تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ﴾، ويقول تعالى: ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ويُستفاد من ذلك أن لكل عملٍ صالحٍ رُكنين لا يُقبَل عند الله إلا بهما: أولهما: إخلاص النية بأن يكون المقصود بالعمل وجه الله وحده دون سواه، وثانيهما: موافقة العمل لسُنة النبي صلى الله عليه وسلم. بالرُكن الأول تتحقق صحة الباطن، وبالثاني تتحقق صحة الظاهر.

 

أحبتي.. قال الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: [منِ التمسَ رضا اللَّهِ بسَخطِ النَّاسِ كفاهُ اللَّهُ مؤنةَ النَّاسِ، ومنِ التمسَ رضا النَّاسِ بسخطِ اللَّهِ وَكلَهُ اللَّهُ إلى النَّاسِ]. وعلى كلٍ منا أن يُبادر إلى (تصحيح النية)؛ فكثيرٌ منا يكتفي بأن تكون نيته في العمل إرضاء رؤسائه، أو كسب رضا الزبائن والمتعاملين، أو السعي لنيل ترقيةٍ أو علاوةٍ، وفي علاقاته الشخصية تكون نيته قاصرةً على إسعاد زوجته أو تربية أبنائه أفضل تربيةٍ ممكنةٍ أو التعامل بلطفٍ مع جيرانه وأصدقائه. نفعل ذلك، ولا حرج فيه، لكننا نغفل أن تكون نيتنا هي رضا الله سُبحانه وتعالى أولاً، ثم رضا من هُم دونه. علينا إذن أن نُسارع إلى (تصحيح النية) حتى تكون نيتنا دائماً وقبل كل شيءٍ هي رضا الله عزَّ وجلَّ؛ فإذا رضي الله عنا حقق لنا كل ما نسعى إليه من رضا الآخرين أو تحقيق مصالح دُنيوية، بل ويُثيبنا سُبحانه في الآخرة خير الثواب تفضلاً منه وتكرماً.

اللهم اجعل نيات أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، فلا نعمل نفاقاً ولا رياءً ولا سمعةً ولا فخراً، ولا لرضا أي مخلوقٍ كان، وإنما تكون أعمالنا كلها خالصةً لك وحدك، لا شريك لك، نرجو بها رضاك.

https://bit.ly/44xzSld