الجمعة، 23 سبتمبر 2022

الشكوى لغير الله

 


خاطرة الجمعة /362

الجمعة 23 سبتمبر 2022م

(الشكوى لغير الله)

 

يُحكى أنه كانت هناك فتاةٌ يتيمةٌ ليس لها أحدٌ في الدنيا -بعد الله سُبحانه وتعالى- سوى أمها. تزوجها ابن عمها وكان ظالماً لها، شديد الظُلم لها؛ فقد كان هو وأهله يُسيئون مُعاملتها، ويُعاملونها كخادمةٍ تعمل ليل نهار، ومع هذا لم تكن تسلم من الأذية والسب والشتم والضرب في كثيرٍ من الأحيان. وكانت كلما ضاقت بها الدنيا تلجأ لأدفأ مكانٍ وهو حُضن أمها؛ فتحتضنها وتشكو لها كل ما يحصل، ثم تبكيان سوياً، ثم تعود إلى زوجها. والأم ضعيفةٌ مُقعدةٌ، لا حول لها ولا قوة، تُشارك ابنتها ألمها بالبكاء معها. استمر هذا الأمر عشر سنواتٍ، وكل يومٍ يسوء الوضع ويزداد ظلم زوجها لها، حتى قَرُبَ انتهاء أجل الأم وحان وقت رحيلها إلي بارئها؛ فبكت البنت وانهارت -وأمها في سكرات الموت- وقالت لها: "أمي لمن أشكو بعد رحيلك؟ لمن أحكي مأساتي؟ أمي لا تتركيني وحيدة"، فقالت لها الأم: "ابنتي إنْ مِتُ وضاقت بك السُبل تعالي إلى هُنا، إلى بيت أمك، افرشي سجادتك واسجدي لله واحكِ له كل ما يُعكر صفوك، واشكِ له همك وبثي إليه حزنك".

ماتت الأم، ومر أسبوعٌ وضاقت الدنيا على البنت؛ فأخذت سجادتها وجرةً بها ماءٌ للوضوء، وذهبت إلى بيت أمها، وعملت بنصيحتها فأحست براحةٍ شديدةٍ. واستمر الأمر هكذا لمدة شهرٍ؛ كل أسبوعٍ تأخذ جرة الماء وتذهب إلى بيت أمها تمكث ساعاتٍ ثم تعود وهي مُبتسمةٌ؛ فلاحظ أهل زوجها هذا فأدخلوا الشيطان بينها وبين زوجها؛ وقالوا له: "من المؤكد أن زوجتك تخونك فهي تذهب كل أسبوعٍ إلى بيت أمها ومعها الماء وهي مُتكدرةٌ ثم تعود بعد ساعاتٍ والماء فارغٌ وهي مُبتسمة"، فقرر أن يُراقب زوجته، وذهب قبل الموعد إلى بيت أمها واختبأ في مكانٍ هو يراها وهي لا تراه، فذهبت الزوجة كالعادة، وكان قد مرّ على وفاة أمها شهرٌ، فتوضأت ثم صلّت وانفجرت باكيةً وهي ساجدةٌ، وبثت حزنها وشكت إلى ربها همومها وما يؤلم قلبها وبما يصدر عن أهل زوجها، وتدعو لزوجها بالهداية، وتتوسل إلى الله أن يُصلح لها زوجها لأنها تُحبه رغم كل شيءٍ، وظلت تبكي وتبكي، وهو يسمع ويبكي معها مُتأثراً بما يرى ويسمع، حتى أنهت صلاتها، وإذا بها ترى زوجها يبكي ويحتضنها ويعتذر لها ويعدها بأن يُعوضها عن كل ما سببه هو وأهله لها طوال السنوات الماضية. وبشّرها بأن الله استجاب لدعائها. في تلك الليلة لم يعودا إلى بيت أهله وناما في بيت أمها، وهي نائمةٌ رأت شخصاً في المنام يقول لها: "عشر سنواتٍ تشتكين لأقرب الناس إليكِ وما نفعك شيءٌ، وشهرٌ واحدٌ فقط اشتكيتِ لله؛ فغيّر الله حالك من حالٍ إلى حال". سبحانك ربنا ما أرحمك.

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن الإنسان في هذه الدنيا لا يخلو من مصائب؛ هذا مُبتلىً بفقد قريبٍ، وهذا مُبتلىً بموت حبيبٍ، وهذا مُبتلىً بذهاب مالٍ، وهذا مُبتلىً بمرضٍ، وهذا مُبتلىً في زوجته، أو أولاده، أو رزقه، وغير ذلك من أنواع الابتلاء. وعند الابتلاء تكثر الشكوى. إن الشكوى إلى الله والتضرع له وسؤاله إزالة ما أصاب العبد من حزنٍ وضُرٍ مشروعةٌ؛ ويدل على هذا ما حكى الله عن يعقوب عليه السلام أنه قال: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾، وأخبر عن أيوب عليه الصلاة والسلام أنه قال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. وقال تعالى في شأن خولة بنت ثعلبة ـرضي الله عنهاـ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾. ويُمنع التشكي الذي يدل على التضجر من قضاء الله والتسخط من قدره؛ فعدم الرضى بالقدر حرامٌ، وأما الدعاء بإزالة الضرر فلا حرج فيه.

ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: [اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك].

ولقد اشتكى النبي عليه الصلاة والسلام إلى الله يوم بدرٍ إذ نظر إلى المُشركين وهم ألفٌ، وأصحابه ثلاثمائةٌ وبضعة عشر رجلاً، فاستقبل القبلة ومدّ يديه ودعا ربه: [اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هذِه العِصَابَةَ مِن أَهْلِ الإسْلَامِ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ]، فما زال يشكو إلى ربه حتى أنزل الله الفرج: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾.

 

ويقع البعض في خطيئة (الشكوى لغير الله) إذا هُم ظنوا أن أحداً من البشر -حياً أو ميتاً- قادرٌ على أن ينفعهم أو يضرهم كما ينفع الله ويضر، أو إذا هُم يتسخطون من قضاء الله وقدره؛ فنجد الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه؛ فإنه لو عرف قدر ربه لما شكاه، ولو عرف ضعف الناس لما شكا إليهم. لقد رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجلٍ فاقته وحاجته فقال له: "يا هذا، والله ما زدتَ على أن شكوتَ مَن يرحمك إلى مَن لا يرحمك". أن تشكو الله إلى الناس فهذا قمة الجهل، لأن الله هو أرحم الراحمين، وبيده كل شيءٍ؛ فلماذا الشكوى لغيره سُبحانه وهو القائل: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؟

قال النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن نزلَت بهِ فاقةٌ فأنزلَها بالنَّاسِ لم تُسَدَّ فاقتُهُ. ومَن نزلَت بهِ فاقةٌ فأنزلَها باللَّهِ فيوشِكُ اللَّهُ لَه برزقٍ عاجلٍ أو آجلٍ].

وقال صلى الله عليه وسلم: [يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ].

 

قال بعض السلف: من شكا من مُصيبةٍ نزلت به إلى غير الله لم يجد في قلبه حلاوةً لطاعة الله، كل من علّق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه، أو يرزقوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر مسألته. والشكاية إلى الله تُحقق العبودية؛ لأن الله سُبحانه وتعالى يُريد العبد خالصاً له، سائلاً له مُلّحاً عليه، لاجئاً إليه مُعتمداً عليه، مُنيباً إليه، مُتضرعاً، تائباً، ذاكراً، داعياً، ولا يمكن أن يكون العبد هكذا حتى يظهر عليه من حاله، أو من لسانه التضرع إلى بارئه، ولا يزال العبد يتضرع إلى الله ويشكو إليه حتى يشعر بلذةٍ تُنسيه ألم البلاء الذي شكا منه، وهذا سرٌ عظيمٌ، ومرتبةٌ عاليةٌ، طوبى لمن بلغها، لا يزال المُبتلى يتضرع إلى الله، ويشكو إليه حتى يشعر بلذةٍ تُنسيه ألم البلاء. وأحب ما إلى الله انكسار قلب عبده بين يديه، وتذلله له، وإظهار ضعفه، وعجزه، مع التضرع والتمسكن وإبداء الفاقة، فرحمة الله أقرب إلى هذا القلب، والله يبتلي عبده ليسمع تضرعه؛ فالله يحب صوت المُلّحين في الدعاء، ويُحب أنين المشتكين إليه.

 

إن (الشكوى لغير الله) مذلةٌ وجهلٌ وعجزٌ؛ قال الشاعر:

إن الوقوفَ على الأبوابِ حرمانُ

والعجزُ أنْ يرجو الإنسانَ إنسانُ

متى تؤمل مَخلوقاً وتقصدهُ

إن كانَ عندكَ بالرحمنِ إيمانُ

ثِقْ بالذي هو يُعطي ذا ويمنعُ ذا

في كلِ يومٍ له في خَلقهِ شانُ

وقال آخر:

وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابْنِ آدَمَ إِنَّمَا

تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لَا يَرْحَمُ

وقال ثالثٌ:

مَنْ يَسألُ الناسَ يَحْرِموهُ

وَسائِلُ الله لا يَخيبُ

 

إن سائل الله -عزَّ وجلَّ- عزيزٌ مُجابٌ، أما سائل الناس فمطرودٌ ذليل؛ فلو شكوتَ إلى مؤمنٍ أشفق عليك، لكنه ضعيفٌ ولا يملك لا لنفسه ولا لك شيئاً، ولو شكوتَ إلى كافرٍ شمت بك، وفرح لما أنت فيه من هَمٍ وغمٍ وضيق؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: [تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ].

 

يقول العلماء إن هناك فرقاً دقيقاً بين الإخبار بالحال، وبين (الشكوى لغير الله) إلى المخلوق؛ فالإخبار بالحال هو أن يسأل المُبتلى شخصاً قادراً على فعل شيءٍ له؛ كالطبيب يصف له دواءً، والمدير يرفع عنه غُبناً. أما الشكوى إلى الله سُبحانه وتعالى، فهي محمودةٌ بل إن المرء يُثاب عليها؛ ففيها استعطافٌ وتملقٌ واسترحامٌ لرب العزة.

إن سؤال المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله شركٌ، أما إذا كان الإخبار عن الحال لمن يُمكن له أن يُساعد في إزالة ضررٍ، أو حل مُشكلةٍ على نحوٍ ليس فيه تسخطٌ على القدر، ولا جزعٌ من المكتوب، فلا بأس به.

 

 أحبتي.. يقول أحد العارفين: على الإنسان عند وقوع البلاء ألا يشكو إلا إلى الله؛ يُناجيه، يُخاطبه، يعتذر، يستغفر، يُعلن توبته، "اللهم اقبل توبتي، اللهم آمن روعتي، اللهم أقِلّ عثرتي، اللهم اغفر زلتي". عليه أن يكون في مُناجاةٍ مع الله؛ يسأله، يعتذر له، يطلب السماح منه، يُعبّر عن ضعفه أمامه، يُظهر محبته له، يُحاور الله ولا يُحاور أحداً من الناس، وبقدر ما يتذلل لله بقدر ما يكون عزيزاً على الناس، إن فعل ذلك وجد الله -عزَّ وجلَّ- ينتظره ليسعده، ليكرمه، ليرحمه. فعلينا جميعاً أن نتجنب (الشكوى لغير الله)؛ إلا فيما هو من مقدور البشر، ومع الاعتقاد الجازم واليقين الكامل بأن الله هو وحده ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وهو ﴿اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ وهو ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ وهو ﴿رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ وهو -دون غيره- الذي يُسبب الأسباب، بيده مقادير كل شيءٍ، وهو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. إنه -سُبحانه وتعالى ينتظرنا لنشتكي له وندعوه فيستجيب دعاءنا، ويُعطينا سؤلنا، بل ويُدهشنا بعطائه؛ أوليس هو سُبحانه ﴿الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾؟ بلى، ورزقه لا يقتصر على المال فقط بل يمتد ليشمل كل خيرٍ نتمناه لأنفسنا.

اللهم اجعلنا ممن يعرفك في الرخاء قبل الشدة، ومن الذين لا يدعون إلاك، ولا يطلبون إلا منك، ولا يخضعون إلا لك.

 

https://bit.ly/3f2wzgT