الجمعة، 29 سبتمبر 2017

تبينوا

الجمعة 29 سبتمبر 2017م

خاطرة الجمعة /١٠٢
(تبينوا)

يُروى أن طبيباً جراحاً دخل إلى المستشفى على عجلٍ بعد أن تم استدعاؤه لإجراء عمليةٍ فوريةٍ لأحد المرضى، وقبل أن يدخل غرفة العمليات واجهه والد المريض وصرخ في وجهه: "لِمَ التأخر؟ إن حياة ابني في خطر، أليس لديك إحساس؟"، فابتسم الطبيب ابتسامةً فاترةً وقال: "أرجو أن تهدأ وتدعني أقوم بعملي"، فرد الأب: "ما أبردك يا أخي! لو كانت حياة ابنك على المحك هل كنت ستهدأ؟ ما أسهل موعظة الآخرين". تركه الطبيب ودخل غرفة العمليات، ثم خرج بعد ساعتين على عجلٍ وقال لوالد المريض: "لقد نجحت العملية، والحمد لله، وابنك بخيرٍ، واعذرني فأنا على موعدٍ آخر" ثم غادر فوراً دون أن يعطي والد المريض فرصةً لأي سؤالٍ أو تعليق. ولما خرجت الممرضة سألها الأب: "ما بال هذا الطبيب المغرور؟" فقالت: "لقد تُوفي ولده في حادث سيارة، ومع ذلك فقد لبى الاستدعاء عندما علم بالحالة الحرجة لولدك، وبعد أن أنقذ حياة ولدك كان عليه أن يُسرع ليحضر دفن ولده".

وهذا شخصٌ مرضت ابنته وعندما ذهب بها إلى المستشفى كتب له الأطباء العديد من الأدوية التي لم يقدر على شرائها لغلاء ثمنها فاتصل بأخيه على الهاتف المحمول وطلب منه أن يحضر له مئتي جنيه في البيت للضرورة، فأجاب الأخ طلبه قائلاً: "أعطني من الوقت ساعةً لأحضر لك المال". وبينما الأب ينتظر اتصل بأخيه ليتأكد من حضوره لكنه وجد هاتفه مغلقاً، حاول أكثر من مرة لكن النتيجة لم تتغير. أخذ يحدث نفسه كيف يخذلني أخي ويتهرب مني، لن أسامحه على فعلته. وبينما هو في قمة الحزن والغضب من موقف أخيه دق جرس الباب، فتح الباب والغضب يسيطر عليه، فوجد أخاه على الباب مقدماً له المال قائلاً: "أعتذر عن تأخري فلم أستطع بيع هاتفي المحمول بالسرعة التي توقعتها".

ويُروى كذلك أن رسّاماً عجوزاً كان يعيش في قريةٍ صغيرةٍ وكان يرسم لوحاتٍ غايةً في الجمال ويبيعها بسعرٍ جيّد، أتاه فقيرٌ من أهل القرية في يومٍ من الأيام وقال له: "أنت تكسب مالاً كثيراً من أعمالك، فلماذا لا تساعد فقراء القرية؟! انظر لجزار القرية الذي لا يملك مالاً كثيراً ومع ذلك يوزّع كل يوم قطعاً من اللحم المجّانية على الفقراء، وانظر إلى خبّاز القرية برغم أنه رجلٌ فقيرٌ ذو عيال إلا أنه يعطي الفقراء خبزاً مجانياً كل يوم". لم يردّ عليه الرسام وابتسم بهدوء،
خرج الفقير منزعجاً من عند الرسّام وأشاع في القرية بأنّ الرسام ثريٌ يكتنز الأموال لكنّه بخيلٌ جداً ولا يساعد الفقراء؛ فنقم عليه أهل القرية وقاطعوه وهجروه. وبعد مدّةٍ مرض الرسّام العجوز ولم يُعره أحدٌ من أبناء القرية اهتماماً، ثم مات وحيداً. مرّت الأيّام ولاحظ أهل القرية بأنّ الجزار لم يعد يرسل للفقراء لحماً مجّانياً، وكذلك الخباز صار لا يمنح الفقراء خبزاً مجانياً، وعندما سألوهما عن سبب توقّفهما، قالا: "كان الرسّام العجوز يعطينا كل شهرٍ مبلغاً من المال لنعطي الفقراء اللحم والخبز، وبعد أن مات توقّف ذلك كله!".

هناك أناسٌ لهم قلوبٌ تتألم ولا تتكلم، وهناك أناسٌ يبادرون إلى فعل الخير لكن ظروفاً قد تمنعهم أو تؤخرهم، وهناك أناسٌ لا يريدون إظهار أعمالهم والمجاهرة بها؛ فلا تتسرعوا في الحكم على غيركم و(تبينوا)، فأنتم لا تعلمون ظروف الناس، ومن منا يعلم الغيب؟!.

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الإسلام يدعو إلى عدم التسرع وإلى التبين والتثبت، فهو خلقٌ رفيعٌ من أخلاق الإسلام، أمر به رب العالمين، وحثت عليه سنّة سيد المرسلين؛ ففيه حفظٌ للأرواح، وصيانةٌ للدّماء، وحمايةٌ لحقوق الأفراد والجماعات، وقطعٌ لدابر الفتنة والصراعات، به يُعرف الحق من الباطل فيما يُروج من أخبارٍ وإشاعات؛ فما أحوجنا إلى هذا الخلق الكريم؛ في زمنٍ تُرمى فيه التهم جزافاً، وتُنقل فيه الإشاعات دون تثبتٍ ولا تبين.
والتبين علمٌ يحصل بعد التباسٍ وغموض. يقال: تَبيّنَ في الأمر والرأي: أي تثبّت وتأنّى فيه، ولم يَعجَل.
أما التثبت فهو التحري والتأكد من صحة الخبر قبل قوله أو نقله أو نشره.
فالمراد بالتبيّن والتثبّت هو التأني والتريّث والبحث عن صحة الخبر، وعدم العجلة في نقله أو بناء الحكم عليه قبل تيقن صحته. فالتثبت من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش. ومنهج (تبينوا) فضيلةٌ، بخلاف النقل عن الناس بتسرعٍ ومن غير تثبّتٍ فهو رذيلةٌ تورد صاحبها الندامة.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، في قراءة الجمهور ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾، وفي قراءةٍ أخرى: ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾، من التثبّت، وهو الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر. إن في هذه الآية بياناً لمنهج التعامل مع الأخبار، كيف نتلقاها، وكيف نتصرف عند سماعها، وفيها الأمر بالتأني وعدم التسرع بالعمل بمقتضى ما يُتلقى من أخبارٍ­ تأتي من شخصٍ أو جهةٍ ­حتى يتم التأكد من صحتها، وإلا كان الندم للاستعجال في اتخاذ المواقف، وللتسرع في ردود الفعل مما يُضطر معه المرء إلى الاعتذار. وقديماً قالوا: «إياك وما يُعتذر منه». 
قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: [التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ]، التأني من اللّه أي التثبت في الأمور مما يحبه الله ويأمر به لما فيه من وقايةٍ للعبد من الزلل والخطأ. والعجلة من الشيطان أي من إغوائه ووساوسه. قال ابن القيم: "إنما كانت العجلة من الشيطان لأنها خفةٌ وطيشٌ وحِدةٌ في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور وتمنع الخيور".
ولخص أحد علمائنا الأفاضل هذا الأمر بقوله: "تبين الأمر والتثبت منه منهجٌ علميٌ أصيلٌ، ينطق به كتاب ربنا، من شأنه أن يبني العقلية المسلمة المتفحصة الناقدة"، وأضاف أن هذا المنهج "يحمي المرء من تصديق كل ما يُنقل إليه، إنه منهجٌ نما وتطور مع اهتمام المسلمين بالحديث النبوي الشريف، يصلح لأن يعمم على جميع المجالات التي تعتمد في فلسفتها على تلقي الأخبار لإصدار الأحكام والقرارات بناءً عليها".
وقال حكيمٌ للتأكيد على أهمية منهج (تبينوا): "إياك والعجلة، فإنّ العرب كانت تكنّيها أمّ الندامة؛ لأنّ صاحبها يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكّر، ويقطع قبل أن يقدّر، ويحمد قبل أن يجرّب، ويذمّ قبل أن يخبر، ولن يصحب هذه الصفة أحدٌ إلّا صحب الندامة، واعتزل السلامة".
والتحري في صحة خبرٍ لا يعني بالضرورة تكذيب من نقله، خاصةً إذا كان من أهل العدالة والديانة، وإنما يعني الاحتياط لما قد يُبنى عليه من مواقف سيئةٍ بجهالةٍ. ولو لم يكن التسرع وعدم التثبت على درجةٍ عظيمةٍ من الخطورة والأهمية في إضعاف روح الموالاة بين المؤمنين لما أكد الباري عز وجل على ذلك في كتابه الكريم وحثت عليه السنة المشرفة.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْۗ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: [كفى بالمرء إثماً، أن يُحدّث بكل ما سمع]. ويُستفاد من الآية الكريمة ومن الحديث الشريف أن للتبين بعداً آخر لا يقل أهميةً عن التأكد من صدق وصحة ما يصلنا من أخبار ، ألا وهو الحرص على التزام الحكمة وتبين هل من المناسب إذاعة أو إشاعة الخبر أم لا حتى لو تأكدنا من صحته وصدقه ودقته، فهي دعوةٌ إذن لوزن الأمور بميزان المصلحة: الخاصة منها والعامة، وتغليب الحكمة فيما يُنقل ويُعمم ويُنشر من الأخبار أو الأقوال.

أحبتي .. أعجبني استنباط أحد علمائنا الأجلاء من آيات سورة النمل، حيث لاحظ أن سليمان عليه السلام قال للهدهد عندما أخبره عن ملكة سبأ: ﴿سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ أي سنبحث في الأمر لعلك تكون قد كذبت، أو أخطأت، أو وهمت، لعل في الأمر التباساً أو غموضاً. واستطرد موجهاً نصيحةً قيمةً: يا ليت الناس اتخذوا هذا شعاراً لهم، كلما جاءنا رجلٌ يقول: فلانٌ قال، وفلانٌ فعل، وفلانٌ متهم، وفلانةٌ وقع لها كذا أو وقع منها كذا، لو أجبنا كل واحدٍ يسعى بين الناس بالقيل والقال بهذه الكلمة: سننظر، سنبحث، سنتأكد، لقطعنا الطريق على أصحاب النميمة والوشايات الكاذبة الذين يسعون بين الناس بالفساد والإفساد، ولانتهت أكثر الخصومات والنزاعات بين الناس، لأن معظم النزاعات والخصومات التي تقع بين الناس مبنيةٌ على إشاعاتٍ تتناقلها الألسن دون تثبتٍ ولا تبين، فتَنتُج عنها الكراهية والقطيعة والخصومات.
ومع إضافة البعد الخاص بتبين المصلحة والتزام الحكمة فيما ننقل وننشر ونذيع من حقائق يكون قد اكتمل لدينا منهج (تبينوا)، فهلا انتبهنا لهذا المنهج واهتممنا به دراسةً وتدريساً وتطبيقاً؟ وهلا استفدنا منه وعملنا به في بيوتنا مع أبنائنا وفي مجتمعنا ومع غيرنا؟".
اللهم اجعلنا من الذين هديت ف(تبينوا)
من كل ما يسمعون ويقرأون ويشاهدون ليتأكدوا ويتثبتوا ويكونوا من الموقنين بدلاً من التسرع الذي قد يجعلهم من النادمين. وأنعم علينا بالحكمة لنتبين ما يمكن أن يُقال، ومتى يُقال، ولمن يُقال، وكيف يُقال.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/Gy8RB2