الجمعة، 29 أبريل 2016

نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ

29 أبريل، 2016م
خاطرة الجمعة /٢٩

(نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ)

رغم أن دموعي عزيزة، إذا بها تنساب ساخنة على وجنتي وأنا أستمع في صلاة المغرب لصوته الهادئ الرخيم يقرأ في الركعة الأولى ما تيسر من سورة الشورى ويصل إلى قوله تعالى: ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ  مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ﴾ .. استمعت لهذه الآية منه كما لو كنت أستمع إليها لأول مرة .. لامست شغاف قلبي .. حركت مشاعري .. أحسست أن الله سبحانه وتعالى يخاطبني أنا شخصياً بها .. ويا له من إحساس .. ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم﴾ .. يا إلهي كم نحن مذنبون .. يا ربي كم نحن مقصرون .. يا الله يا عَفُّو يا كريم تدعونا في كل وقت فلماذا لا نستجيب؟ .. لماذا لا نسارع بالعودة إليك، والتوبة من معاصينا، وأنت، كما أخبرنا الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، تبْسُطُ يَدَك بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَتبْسُطُ يَدَك بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ؟ .. أين نحن من هذه الرحمة؟، ومن هذا الكرم والإحسان؟ .. ماذا ننتظر؟ هل ننتظر ﴿أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾؟
تدفقت هذه المعاني إلى نفسي وعقلي .. واستمرت في تتابعها مقرونةً بإحساس طاغٍ بالتقصير في حق الله سبحانه وتعالى .. تقصير في العبادات .. تقصير في المعاملات .. وتقصير حتى فيما لا يكلف درهماً ولا ديناراً؛ ألا وهو التقصير في شكر الله عز وجل على نعمه وأفضاله وآلائه.
قرأ هذه الآية بصوته العذب الرقيق فإذا بها تفجر في داخلي بركاناً من الأحاسيس وتؤجج فورة عارمة من الغضب .. أحاسيس بالذنب والتقصير والندم، والغضب من نفسي اللاهية الغافلة المسوفة .. فمهما فعلت أظل مقصراً في حقوق ربي.
معذرةً .. مع تدفق مشاعري وأحاسيسي نسيت أن أخبركم من هو عمر .. إنه شاب ورع أنعم الله عليه بحب المساجد .. قلبه معلق بها .. تراه حريصاً على ألا تفوته الركعة الأولى من كل صلاة .. يسبقنا دائماً إلى المسجد ندخل بعد الأذان فنراه جالساً معه مصحفه يقرأ فيه ويحفظ منه .. نحييه فيرد التحية بأدب جم .. إذا تحدثت إليه لا تكاد تسمع صوته وهو يرد عليك بحياء يندر أن ترى مثيلاً له .. عمر هذا الذي أتحدث عنه ما زال طالباً بالصف الثاني الثانوي .. قد يراه البعض صغيراً .. أما أنا فأراه كبيراً .. أكبر من كثيرٍ ممن أعرفهم أعمارهم تزيد عن عمره لكنه يكبرهم جميعاً بتعلق قلبه بالمساجد وحبه لدين الله .. لا أراه إلا مجتهداً دؤوباً يسعى نحو كل مفيد بهمةٍ لا تمل ولا تعرف الكلل .. كم من مرة شاهدته يسرع الخطى فأسأله: "إلى أين العزم؟"، فيخبرني أنه ذاهب للصلاة في مسجد آخر حيث توجد محاضرة بعد الصلاة.
أما في رمضان فكنت إذا شاهدته عائداً من صلاة التراويح من مسجد بعيد عنا، أسأله: "لماذا ذلك المسجد؟"، فيجيبني: "صوت الإمام جميل، وهو يقرأ جزءاً كاملاً كل ليلة" .. ثم ما أكثر ما جمعتنا صلاة التهجد وقيام الليل .. ولا أنسى كم كان مصراً على الاعتكاف في المسجد في العشر الأواخر.
أتذكر حينما بدأ يكتب على الفيس بوك نصائح بسيطة وواضحة للشباب بلغة عامية سهلة ليفهموها .. الآن أصبحت كتاباته أكثر نضجاً وأكثر تواتراً حتى أننا اتفقنا على ضرورة أن يجمعها كلها ربما أراد أن يصدرها مطبوعة على ورق أو منسوخة إلكترونياً على أقراص حاسوبية مدمجة ..
كم من مرة أذن فيها للصلاة في مسجدنا؟ وكم من مرة أقام لنا الصلاة؟ .. لا أنسى حينما وقف يؤذن لأول مرة الأذان الثاني لصلاة الجمعة بعد أن صعد الخطيب إلى المنبر والمسجد يعج بعشرات المصلين؟ إنه موقف ليس بالسهل على الكبار .. لقد أشفقت عليه يومها، لكنه كان أقوى من شفقتي عليه وكان أكثر ثقة بنفسه مما كنت أحسب.
تعرفت على عمر قبل عدة سنوات، كان ما يزال في الصف الثاني الإعدادي، وكنت أتعجب من حرصه على أداء صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد يومياً، وليس في أيام الامتحانات فقط كما يفعل بعض الشباب، رغم أنه كان يأتي وحده ماشياً في الظلام الحالك .. بارك الله فيه.
ما كل هذا الحماس؟ .. وما كل هذا الحب لدين الله؟ .. كم أغبط عمر على ما هو فيه .. ولا أخفيكم سراً إذا أخبرتكم بأني كلما أراه أقرأ بيني وبين نفسي المعوذتين، وأطلب من الله سبحانه وتعالى أن يحميه ويحرسه ويقيه شر عيون الناس وشر حسدهم .. إنه شاب (نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ) فهو يذكرني دائماً بحديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه: [سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ...] وفيه: [... وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ... ].
قراءته في صلاة المغرب جعلتني أتذكر كل ما سبق .. وجعلتني أتذكر أول إمامة له من عدة أشهر وكانت في صلاة عشاء .. كم كنت فخوراً به يومها، كتبت له ذلك على الفيس بوك .. وهاهو اليوم يضيف إلى رصيده نقاطاً جديدة وثمينة بأداء متقن ومؤثر .. فكم من مصلٍ خلفه دعى لك ..
أحبتي في الله .. سألني أحد الشباب من أقاربي: "ذنوبي كثيرة وعبادتي قليلة، لا أواظب على الصلاة، أصوم رمضان عادة لا عبادة فأنام طول اليوم وأسهر الليل في متابعة المسلسلات والمسابقات، وغير ذلك .. فهل لي من توبة؟"، قلت له: "الحمد لله الذي هدانا للإيمان وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، بارك الله فيك، أبشر أخي العزيز بقبول الله توبتك شرط أن تكون مخلصاً فيها النية عاقداً العزم على ألا تعود لطريق الباطل والضلال مرة أخرى، يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، ويقول عز وجل:﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وقال تعالى:﴿ إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾، فهل لاحظت عزيزي أن رحمة الله وفضله لا تتوقفان عند مجرد العفو والغفران بل تتعدى ذلك إلى تبديل السيئات حسنات، فأي فضل أكبر من ذلك؟".
أحبتي .. بشروا ولا تنفروا .. يسروا ولا تعسروا .. وكونوا خير قدوة للشباب .. وانتبهوا إلى أن شبابنا مستهدف .. احرصوا على أن توفروا لهم بيئة إيمانية صالحة في البيت والمدرسة ومن خلال وسائل الإعلام .. حتى يكون كل شاب من شبابنا قد (نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ) بحق .. وادعوا مخلصين لعمر وأمثاله من الشباب أن يحفظهم الله ويبارك فيهم ويثبتهم ويزيدهم من فضله؛ فهم أملنا في جيل جديد يصلح ما قد فسد.. ويعيد بناء مجتمعاتنا على أسس إسلامية صحيحة: لا إفراط فيها، ولا تفريط .. لا تشدد ولا تطرف بها، ولا تهاون ولا تخاذل .. لا انعزال معها عن عالمٍ نحن جزء منه، ولا ذوبان في ثقافات الآخرين .. فسبحان الحكيم الخبير الذي يصف أمة الإسلام ويقول عنها:﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://goo.gl/9Q0nbI