الجمعة، 3 أغسطس 2018

ليس كل ما يلمع ذهباً


الجمعة 3 أغسطس 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٦
(ليس كل ما يلمع ذهباً)

بعد الانتهاء من دفن جارنا، رحمه الله، وقفت مع ابنه الشاب نقرأ الفاتحة قبل مغادرتنا المقبرة .. وكانت المفاجأة ...
إذ سمعنا صوت أذانٍ يأتينا من جوف القبر!
نظرت إلى ابن جارنا متعجباً، ونظر إليّ وحاجباه مرفوعان من شدة دهشته ..
لم يصدق كلانا ما يسمع ..
وضعت أذني على الأرض لأتأكد من مصدر الصوت ..
تأكدت بالفعل أنه أذانٌ صادرٌ من داخل القبر .. شيءٌ أغرب من الخيال!
نادينا الناس القريبين منا ..
استمعوا معنا إلى صوت الأذان؛ وتعالت صيحاتهم بالشهادة: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" ..
زاد عدد الناس وامتلأت المقبرة بأصوات التكبير: "الله أكبر" .. "الله أكبر" ..
لا بد أن للمرحوم جارنا مكانةً عاليةً في السماء؛ حتى تستقبله الملائكة بالأذان .. ولولا أن كان معنا أكثر من عشرين شخصاً لاعتبرت نفسي أتخيل ما حدث، أو أنه قد أصابني مسٌ من جنونٍ ..
بكى بعض الناس خشوعاً وانكساراً أمام معجزةٍ كانوا عليها شاهدين.. وآخرون بكوا ندماً لأنهم لم يكونوا يعرفون منزلة هذا الرجل ومكانته بين أهل السماء وهو حيٌ ..
رحمك الله يا جارنا .. يبدو أنك كنت ولياً من أولياء الله الصالحين .. حرمتنا من بركاتك يا شيخنا ..
ونحن في هذه اللحظات التي لا تكاد تُصدق، وصل حفار المقبرة راكضاً لاهثاً بعد أن سمع بالخبر ..
لم ينطق الحفار ببنت شفةٍ .. بدأ على الفور يحفر لفتح القبر من جديد ..
تجمع كل الموجودين حول القبر مرةً أخرى؛ ربما يرون النور الذي سيخرج منه! .. أو يشاهدون بأم أعينهم معجزة خروج جارنا حياً من قبره!
ها هو الحفار قد نزل سريعاً إلى القبر ..
أنظارنا متعلقةٌ به لنرى ماذا سيحدث .. وقفنا جميعاً .. أنفاسنا تكاد تتوقف .. ساد صمتٌ مطبقٌ لا نكاد نسمع سوى صوت ضربات قلوبنا تخفق بشدة .. وقفنا كأن على رؤوسنا الطير ..
ماذا سنرى يا تُرى؟ ..
ها نحن جميعاً ننتظر خروج الحفار بفارغ الصبر .. في انتظار معجزةٍ جديدةٍ من المرحوم جارنا الذي استقبلته الملائكة بالأذان!
أما أنا فقد تملكتني فكرةٌ واحدةٌ، استحوذت على تفكيري؛ أخذتني بعيداً بعيداً عن المكان، وغادرت بي حدود الزمان؛ فوجدتني أتصور المرحوم جارنا وقد صار ولياً من أولياء الله الصالحين، له ضريحٌ مدفونٌ فيه، وله احتفالٌ سنويٌ بمولده يواظب الناس على حضوره كل عامٍ، ويحرص التجار على تحويله من احتفالٍ بشخصيةٍ دينيةٍ وقورةٍ إلى فرصةٍ متجددةٍ للبيع والشراء، وكأن الوليّ الذي يحتفلون بمولده شريكٌ لهم في الأرباح والمغانم!
وسيكون منزلنا في قلب الحدث مرةً كل عام .. زحامٌ وضجيجٌ وهرجٌ ومرجٌ وسهرٌ حتى الفجر ومشاحناتٌ ومشاجراتٌ وأطفالٌ يتوهون ونصابون يبيعون الوهم للسذج وبيعٌ وشراءٌ و .. و.. و .. إنه المولد إذن بكل تفاصيله، وعلينا أن نتحمل؛ فهذه ضريبة كوننا جيران الولي صاحب الكرامات!
لم يعيدني من شطط أفكاري إلى عالم الواقع، حيث يتزاحم الناس ويتزايد عددهم، واقفين في انتظار معجزةٍ يخرج بها الحفار، سوى خروجه من القبر .. اشرأبت له الأعناق، وتعلقت به الأبصار، وساد الصمت في انتظار ما يخبرنا به .. لو رميتَ وقتها إبرةً على الأرض لسمعت صوتها يرن في الأذان ..
خرج الحفار، وكانت المفاجأة التي ألجمت الجميع، وجعلتهم يضربون كفاً بكفٍ، ويقولون: "سبحان الله"!
خرج الحفار من القبر، وقف وهو مندهشٌ من كثرة الناس الذين تجمعوا، وإذا به ممسكٌ بيده هاتفه المتنقل الذي كان قد سقط منه داخل القبر أثناء الدفن!
واتضح للجميع أن الأذان الذي سمعناه لم يكن من الملائكة كما ظننا، وإنما كان من برنامج أذانٍ مثبتٍ على هاتف الحفار!!! ....

أحبتي في الله .. هذه قصةٌ من نسج الخيال استوحيتها من موقفٍ حقيقيٍ حدث بالفعل، قرأته منشوراً على مواقع الإنترنت ..
انتهت القصة لكن تداعيات الموقف لم تتوقف في ذهني؛ تساءلت بيني وبين نفسي: ماذا لو لم يرجع الحفار ويستخرج هاتفه المفقود؟ أيبقى الناس على ظنهم بأن الملائكة هي التي كانت تؤذن لجارنا؟! أيتحول إلى واقعٍ ما كنت أفكر فيه بأن المرحوم جارنا هو وليٌ من أولياء الله الصالحين يُقام له ضريحٌ ويصير له احتفالٌ سنويٌ بمولده؟
وإذا حدث هذا بالفعل، ألا يكون ذلك دليلاً عملياً على أن (ليس كل ما يلمع ذهباً)؟ وكم من شيئٍ كان للمعانه بريقٌ ظنه الناس ذهباً وهو من أرخص المواد؟ وكم من الناس يظهر بوجه ملاكٍ وهو في حقيقته شيطانٌ مريد؟!

(ليس كل ما يلمع ذهباً) هذا مثلٌ إنجليزيٌ يرجع أصله إلى الكاتب الشهير ويليام شكسبير، فهو أول من استخدم هذه العبارة في مسرحيته ”تاجر البندقية” التي نشرها عام 1605م، كانت الجملة الأصلية التي ذكرها شكسبير في مسرحيته تقول: ”كل هذه المعادن ليست ذهباً”، ثم تم تغيير كلمة المعادن واُستخدمت بدلاً منها كلمة لمعان لتصبح المقولة: ‏"All that glitters is not gold"


في حياتنا اليومية، كم نرى من أشخاصٍ يلبسون أحسن الثياب، ويتحدثون بكلمات منمقة، ويقسمون بالله لنصدقهم، يظهرون لنا في صورة أشجع الناس وأقوى الناس وأحن الناس ليكسبوا ثقتنا .. وهم في حقيقة الأمر كذابون جبناء ضعفاء النفوس وأكثر الناس وحشيةً وغدراً، كما أنهم خونةٌ يحنثون بالقسم لا أمان لهم .. هم فقط يجيدون التمثيل .. يلعبون على مشاعر الناس؛ فيُظهرون لهم ما يلمع كالذهب فيصدقهم البسطاء والسذج والغافلون والمغيبون والمغرر بهم .. أما ما تخفيه صدورهم من كبرٍ وحقدٍ وعداوةٍ وبغضٍ لو خالطت قطرةٌ منه ماء البحر لأفسدته.

يقول علماء الشريعة أنه من الخطأ أن ننجرف وراء المظاهر التي غالباً ما تكون خادعةً ومزيفةً، ونكتفي بها عند الحكم على الأشخاص وتقييمهم. ننبهر أحياناً بأناسٍ غير أهلٍ للانبهار أو الإعجاب أو مجرد النظر إليهم أصلاً، حيث يبهرنا بريق حديثهم، وزيف حضورهم، وجمال مظهرهم، ونتصور خطأً أنهم يعانقون الكمال والمثالية، ولا عيوب ولا أخطاء لهم، وكأنهم ملائكةٌ أطهارٌ أخيارٌ، وليسوا بشراً يصيبون ويخطئون، ولهم مثالب ومساوئ، وغير مُنَزهين أو معصومين .. وما إن نقترب من أحدهم نُفاجأ بأن جمال مظهره خلفه قبح جوهرٍ، وأن حلاوة كلماته يكمن بين حروفها سم ثعبانٍ .. وأنه ممن يقولون ما لا يفعلون، وممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم! وأنهم ممن يقابلون الإحسان بالإساءة .. والحب والإخلاص بالغدر والخيانة .. والطيبة والخير بالخبث والشر!
قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَ‌أَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْ‌هُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّـهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾، وقال أيضاً: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْ‌ضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْ‌ثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾.
من الخطأ إذن أن ننجرف وراء المظاهر .. فكم من وجوهٍ بيضاء ناصعةٍ تعلو قلوباً أشد سواداً وظُلمةً من الليل! وكم من ألسُنٍ تجيد هندسة الكلام وحياكة العبارات الساحرة الرائعة التي تسترقّ الآذان وتطرب لها الأسماع، تكمن وراءها نوايا خبيثةٌ وأخلاقٌ فاسدةٌ وضمائر وقلوبٌ وذممٌ خَرِبةٌ إن لم تكن ميتة! ولأننا لا نمتلك نظاراتٍ سحريةً يمكن بها معرفة بواطن البشر ومكنوناتهم الداخلية، علينا أن نحتاط ونتوخى الحذر عند اختيارنا الأصدقاء، وأن نحكم عقولنا قبل مشاعرنا، ونهتم بجوهر ومخبر الإنسان لا مظهره.

يقول أحدهم، وهو محقٌ، أنه أصبح الآن من الصعب التمييز بين الجيد والسيئ؛ وذلك يرجع لانتشار المظاهر الكاذبة، خاصةً في مواقع التواصل الاجتماعي، وخروج الكثيرين بمظهرٍ مصطنعٍ وحضورٍ مزيفٍ ليعطوا انطباعاً للمُتلقي أنهم ملائكةٌ وليسوا بشراً.

أحبتي .. صحيحٌ أن ما حدث يوم دفن جارنا حدث بغير تخطيطٍ أو قصدٍ، لكن علينا الانتباه إلى أن من بيننا، للأسف، من يخطط عن عمدٍ لأن يُظهر للناس ما قد يظنونه ذهباً يخطف لمعانه أبصارهم، فيما هو سادرٌ في غيه سريع الخطى نحو مقصده ليحقق أهدافاً خبيثةً يخفيها؛ لا يدرك ذلك إلا من أنار الله بصيرته. انتبهوا أحبتي إلى أن (ليس كل ما يلمع ذهباً) وليس كل ما يشع بريقه ماساً ننبهر به ويسحرنا بريقه الساطع. علينا أن ندرك جيداً أن حلو الكلام قد يحتوي على الكثير من السُمِ بالعسل، وعلينا أن نؤمن بأن الأفعال أهم بكثيرٍ من الأقوال، كما علينا أن نحذر مَنْ يدَّعون المثالية وهُم من داخلهم يمتلئون بالكذب والخداع والتلون والخيانة والخُبث والشر.

اللهم لا تجعلنا ممن تخدعهم المظاهر؛ مثل من قالوا حينما رأوا قارون وهو خارج على قومه في زينته: ﴿يا لَيتَ لَنا مِثلَ ما أوتِيَ قارونُ إِنَّهُ لَذو حَظٍّ عَظيمٍ﴾، واجعلنا مثل من قالوا لهم: ﴿وَيلَكُم ثَوابُ اللَّهِ خَيرٌ لِمَن آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا وَلا يُلَقّاها إِلَّا الصّابِرونَ﴾.
اللهم نقِ قلوبنا وأنر بصائرنا واجعلنا ممن أوتوا العلم .. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/CRF2jC