الجمعة، 7 أبريل 2017

المشاؤون في الظلَم

الجمعة 7 إبريل 2017م

خاطرة الجمعة /٧٨
(المشاؤون في الظلَم)

يُحكى أن معلماً كان يتحدث عن صلاة الفجر بأسلوبٍ شيقٍ يتلاءم مع سن تلاميذه الصغار بالصف الثالث الابتدائي؛ فتكلم عن فضل هذه الصلاة وأهميتها، تأثر بحديثه تلميذٌ لم يسبق له أن صلى الفجر، لا هو ولا أحدٌ من أهله. وعندما عاد التلميذ إلى المنزل أخذ يفكر كيف يمكن أن يستيقظ لصلاة الفجر في اليوم التالي. لم يجد حلاً سوى أن يبقى طوال الليل مستيقظاً حتى يتمكن من أداء الصلاة. وبالفعل نفذ ما فكر به. وعندما سمع الأذان. انطلق لأداء الصلاة، لكنه واجه مشكلةً لم يكن قد استعد لها: المسجد بعيد، والطريق إليه مظلمٌ موحش، وصوت الكلاب مرعبٌ مخيف، ولا يستطيع الذهاب وحده؛ فجلس أمام باب بيته يبكي. فجأةً سمع صوت وقع أقدامٍ في الشارع. رفع رأسه يستطلع الأمر فإذا بجارهم الشيخ العجوز يمشي متجهاً إلى المسجد وجهه مضيء كالقمر، فتسلل خلفه بهدوءٍ حتى لا يشعر به فيخبر أهله، فربما عاقبوه لخروجه من البيت بغير إذنٍ وفي هذا الوقت المتأخر من الليل، إنهم يحسبونه نائماً في غرفته على فراشه الدافئ الوثير! استمر الحال على هذا المنوال، إلى أن جاء يومٌ علم فيه الطفل الصغير بوفاة جاره الشيخ العجوز فبكى بحرقةٍ وحرارةٍ استغرب لها والده فسأله: "يا بني لماذا تبكي على جارنا المتوفى هكذا وهو ليس في سنك لتلعب معه وليس قريبك فتفتقده؟"، نظر الطفل إلى أبيه بعيونٍ دامعةٍ ونظرات حزنٍ وقال له: "أنا لم أفتقده من أجل ما تقول، أنا أفتقده من أجل الصلاة، صلاة الفجر". ثم استطرد وهو يبتلع عبراته: "لماذا يا أبي لا تصلي الفجر؟ لماذا يا أبتي لا تكون مثل ذلك الرجل ومثل الكثير من الرجال الذين رأيتُهم؟". قال الأب: "أين رأيتَهم؟"، فقال الطفل: "في المسجد". قال الأب: "متى؟"، فحكى الطفل حكايته لأبيه، تأثر الأب من ابنه واقشعر جلده وكادت دموعه أن تسقط؛ فاحتضن ابنه، ومنذ ذلك اليوم لم يترك الأب صلاةً إلا وصلاها في المسجد مصطحباً معه ابنه الصغير. هذا الطفل رغم صغر سنه إلا أنه اختار لنفسه أن يكون من (المشائين في الظلَم).

تذكرت هذه القصة ونحن عائدون يوماً من المسجد بعد أداء صلاة الفجر، فإذا بجارٍ لنا خارجٍ من منزله يمشي في اتجاهنا، حيانا، فرددنا تحيته بأحسن منها، وسأله واحدٌ منا، وهو صديقٌ له، عن مقصده، فقال أنه ذاهب إلى العمل، فسأله صديقه: "هل صليت الفجر؟"، رد باقتضاب: "لا، تعلم أني لا أصلي، أدعُ لي الله أن يهديني للصلاة". قال صديقه: "إذن عُد إلى بيتك ولا تذهب للعمل". فتعجب الجار وسأل: "لماذا؟"، رد عليه صديقه: "لأني كما سأدعو لك الله سبحانه وتعالى أن يهديك للصلاة، سأدعوه أن يرزقك"!
هكذا بعض الناس .. يسعون إلى رزقهم وينسون الرازق فلا يسعون إليه، يحرصون على مواعيد العمل لا يتأخرون عنها دقيقةً واحدةً ولا يهتمون بمواعيد الصلاة، وإذا اهتموا صلوها في غير أوقاتها! ومن الناس من يسهرون إلى قبل وقت صلاة الفجر بقليلٍ يشاهدون مباراةً أو فيلماً ثم يغلقون التلفاز ويدخلون إلى مخادعهم للنوم وهم يسمعون مكبرات الصوت من المساجد القريبة وصوت المؤذن ينادي من خلالها بأن الصلاة خيرٌ من النوم!

أحبتي في الله .. لعظم صلاة الفجر أقسم الله سبحانه وتعالى بوقتها فقال: ﴿وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾. وقال تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾.
وعدَّد أحد الصالحين الفوائد من صلاة الفجر فرأى أنها عشر فوائد:
الفائدة الأولى: الدخول في ذمَّة الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن صلَّى الصبح، فهو في ذمة الله].
 الفائدة الثانية: أجر قيام الليل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلَّى الليلَ كلَّه].
الفائدة الثالثة: براءةٌ من النفاق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما، لأتَوهما ولو حبواً، ولقد هممتُ أن آمُرَ المؤذِّن فيُقيم، ثم آخُذَ شُعلاً من النار، فأحرِّقَ على من لا يخرج إلى الصلاة بعد].
 الفائدة الرابعة: النور التام يوم القيامة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [بشِّرِ المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة].
الفائدة الخامسة: شهود الملائكة له وثناؤهم عليه عند الله سبحانه وتعالى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل، وملائكةٌ بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرُجُ الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربُّهم - وهو أعلم بهم -: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون، وأتيناهم وهم يصلون].
الفائدة السادسة: أجر حجةٍ وعمرةٍ إذا ذكر الله سبحانه وتعالى حتى تطلع الشمس؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن صلى الغداة في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجةٍ وعمرةٍ تامةٍ، تامةٍ، تامة].
الفائدة السابعة: غنيمةٌ لا تعدلها غنائم الدنيا؛ عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثًا قِبَلَ نجدٍ، فغنموا غنائم كثيرة، فأسرعوا الرجعة، فقال رجلٌ ممن لم يخرج: ما رأينا بعثًا أسرع رجعةً، ولا أفضل غنيمةً من هذا البعث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ألا أدلُّكم على قومٍ أفضل غنيمةً، وأسرع رجعة؟ قومٍ شهدوا الصبح، ثم جلسوا يذكرون الله حتى طلعت عليهم الشمس، فأولئك أسرع رجعةً، وأفضل غنيمةً].
الفائدة الثامنة: فضل اغتنام سنة الفجر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها].
الفائدة التاسعة: النجاة من النار، والبشارة بدخول الجنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لن يلج النارَ أحدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها].
الفائدة العاشرة: الفوز برؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة (وهي أعظم الفوائد)؛ عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: [أمَا إنكم سترَون ربَّكم كما ترَون هذا القمر، لا تُضَامُّون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا].

أما من يقولون أنه يصعب عليهم الاستيقاظ لصلاة الفجر، فإني أسوق إليهم هذه القصة عن جنود من الكتيبة الصينية التي شاركت في حرب الخليج بشمال المملكة العربية السعودية، أسلم عددٌ منهم وكانت المشكلة التي واجهتهم هي الاستيقاظ لصلاة الفجر؛ فعندما علم قادتهم بتجمعهم في خيمةٍ واحدة ليتناوبوا السهر كي لا تفوتهم صلاة الفجر فرقوهم بين الخيام، فأخذ كلٌ منهم ساعته المنبهة معه لكنها صودرت منه، وكلما وجدوا طريقةً للاستيقاظ قبيل الفجر لأداء الصلاة في وقتها حاربهم هؤلاء القادة وسدوا عليهم المنافذ والأبواب، لكنهم توصلوا، بفضل الله ثم بإخلاصهم وإصرارهم على أن يكونوا من (المشائين في الظلَم)، لطريقةٍ رائعةٍ للاستيقاظ! اتفقوا على أن يشرب كل واحدٍ منهم كمياتٍ كبيرةً من الماء قبيل النوم لكي يستيقظ للذهاب للخلاء ومن ثم ينظر إلى ساعته ويعلم كم بقي من الزمن لصلاة الفجر فإن قارب الوقت انتظر وصلى وإلا شرب كميةً أخرى من الماء، ومع تكرار التجربة مراراً قدَّر هؤلاء الكميات المناسبة التي تجعلهم يستيقظون في وقتٍ يكاد يقترب من وقت الفجر، وصار كلٌ منهم يؤدي صلاة الفجر في وقتها! هؤلاء حديثو العهد بالإسلام بلغ حبه في قلوبهم هذه الدرجة، فأين نحن من هؤلاء؟

يعتقد النائم عن صلاة الفجر أنه سيأخذ القدر الكافي من الراحة وما علم المسكين بقدر راحة تلك القلوب التي فازت بالوقوف لدقائق بين يدي علام الغيوب. إذا كنت تنام متى شئت وتقوم متى شئت دون أي مراعاة للصلاة في وقتها فستبقى في دائرة الأحزان، مادامت الصلاة ليست في دائرة اهتمامك. الغريب أن بعض الآباء والأمهات يختلقون أعذاراً لأبنائهم فلا يوقظونهم لصلاة الفجر بحجة أنهم لم يأخذوا قسطاً من الراحة أو أنهم يجهدون أنفسهم في المذاكرة أو لأي سبب آخر. قالت متصلةٌ بالهاتف لأحد الشيوخ ضيف برنامجٍ دينيٍ في قناةٍ فضائية أنها تحاول أن توقظ ابنها للصلاة ولا يستجيب، سألها الشيخ: "ماذا تفعلين لو شبت نارٌ في البيت؟"، قالت: "أوقظه بكل طريقةٍ ممكنة ولو بإلقاء الماء على وجهه". قال الشيخ: "تخافين عليه من نار الدنيا ولا تخافين عليه من نار الآخرة"!

أحبتي .. أهل الفجر (المشاؤون في الظلَم) فئةٌ موفقةٌ وجوههم مسفرةٌ وجباههم مضيئةٌ مشرقة، وأوقاتهم مباركة، فإن كنت منهم فاحمد الله على فضله، واسأل لنفسك الثبات. وإن لم تكن منهم فادعُ الله مخلصاً أن يجعلك منهم، قل دائماً: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء﴾، واصدُق اللهَ في حرصك، وخُذ بالأسباب المعينة على الاستيقاظ؛ فمَن صَدَق اللهَ، صَدَقه اللهُ وأعانه؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ولا تحرم زوجك وأبناءك هذا الثواب العظيم، والتزم بما أمرك الله به: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾، وكن حنوناً ودوداً رؤوفاً صابراً عليهم. اغرس في نفوس أبنائك حب الله؛ وعلمهم أن الإنسان منا إذا أحب شخصاً حباً صادقاً أحب لقاءه، وأخذ يفكر كل وقته في محبوبه، وكلما اقتربت لحظة اللقاء لم يستطع صبراً على لقائه .. فهل حقاً أولئك الذين يتكاسلون عن صلاة الفجر يحبون الله؟
ما أجمل الفجر؛ فريضته تجعلك في ذمة الله، وسنته خيرٌ من الدنيا وما فيها، وقرآنه مشهود. وما أروع صلاة الفجر مع جماعة المسلمين في المسجد، حين يواظب عليها كل المسلمين؛ حينها فقط يكون النصر ويكون التمكين وتكون الرفعة والعزة، لقد فطن أعداء الإسلام لهذا الأمر فقال قادتهم: "لن تستطيعوا أن تنتصروا علينا حتى يكون عدد المصلين في صلاة الفجر كعدد المصلين في صلاة الجمعة".

أحبتي .. علينا أن ننظم أوقاتنا حسب أوامر ربنا، لا أن ننظم أوامر الله حسب هوانا، وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾، وقال: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾.
اللهم باعد بيننا وبين هوى النفس، واجعلنا من أهل الفجر، من (المشائين في الظلَم)، واجعلنا في ذمتك وحمايتك ورعايتك وعنايتك؛ فكما قال الشاعر:
وإذا العناية لاحظتك عيونها   ***    نم فالمخاوف كلهن أمانُ
فاستمسك بحبل الله معتصماً  *** فإنه الركن إن خانتك أركانُ
اللهم احفظنا بحفظك وكن لنا مُعيناً ومؤيداً وناصراً وكافياً، وتقبل اللهم منا، واجعلنا من أصحاب النور التام يوم القيامة كما وعدتنا إنك لا تخلف الميعاد.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/1aBKsn