الجمعة، 15 ديسمبر 2023

بذرة الخير

 

خاطرة الجمعة /425

الجمعة 15 ديسمبر 2023م

(بذرة الخير)

هذه واقعةٌ لم تحدث على الأرض، وإنما حدثت في الجو! يقول صاحبها: كنتُ عائداً من سفرٍ طويلٍ، وقدَّر الله تعالى أن يكون مكاني في مقعد الطائرة بجوار ثلَّةٍ من الشباب العابث اللاهي الذين تعالت ضحكاتهم، وكثر ضجيجهم، ومن حكمة الله تعالى أن الطائرة كانت ممتلئةً تماماً بالركاب فلم أتمكن من تغيير مقعدي. حاولتُ أن أهرب من هذا المأزق بالفرار إلى النوم، ولكن هيهات هيهات.. فلمَّا ضجرتُ من ذلك الضجيج أخرجتُ مصحفي ورحتُ أقرأ ما تيسر من القرآن الكريم بصوتٍ منخفضٍ، وما هي إلا لحظاتٌ حتى هدأ بعض هؤلاء الشباب، وراح أحدهم يقرأ جريدةً كانت بيده، ومنهم من استسلم للنوم، وفجأةً قال لي واحدٌ منهم بصوتٍ مرتفعٍ، وكان بجواري تماماً: "يكفي، يكفي"، فظننتُ أني قد أثقلتُ عليه برفع الصوت؛ فاعتذرتُ إليه ثم عدتُ للقراءة بصوتٍ هامسٍ لا أُسمِعَ به إلا نفسي؛ فرأيتُه يضم رأسه بين يديه، ثم يتململ في جلسته ويتحرك كثيراً، ثم رفع رأسه إِليَّ وقال بانفعالٍ شديدٍ: "أرجوك يكفي.. يكفي.. لا أستطيع الصبر"، ثم قام من مقعده، وغاب عني فترةً من الزمن ثم عاد ثانيةً وسلَّم عليَّ معتذراً متأسفاً، سكتُ وأنا لا أدري ما الذي يجري! لكنه بعد قليلٍ من الصمت التفت إِليَّ وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وقال لي هامساً: "ثلاث سنواتٍ أو أكثر لم أضع فيها جبهتي على الأرض، ولم أقرأ فيها آيةً واحدةً قط، وها هو ذا شهرٌ كاملٌ قضيته في هذا السفر ما عرفتُ منكراً إلا ولغتُ فيه، ثم رأيتك تقرأ، فاسودَّت الدنيا في وجهي، وانقبض صدري، وأحسستُ بالاختناق، نعم.. أحسستُ أنَّ كل آيةٍ تقرؤها تتنزل على جسدي كالسياط! فقلتُ في نفسي: إلى متى هذه الغفلة؟! وإلى أين أسير في هذا الطريق؟! وماذا بعد كل هذا العبث واللهو؟! ثم ذهبتُ إلى دورة المياه، أتدري لماذا؟! أحسستُ برغبةٍ شديدةٍ في البكاء، ولم أجد مكاناً أستتر فيه عن أعين الناس إلا ذلك المكان". فكلمتُه كلاماً عاماً عن التوبة والإنابة والرجوع إلى الله.. ثم سكت.

عندما هبطت الطائرة على أرض المطار، استوقفني -وكأنه يريد أن يبتعد عن أصحابه- وسألني وعلامات الجدِ باديةً على وجهه: "أتظن أن الله يتوب عليَّ؟!"، فقلتُ له: "إن كنتَ صادقاً في توبتك عازماً على العودة فإن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً"، فقال: "ولكني فعلتُ أشياء عظيمةً.. عظيمةً جداً...!!"، فقلتُ له: "ألم تسمع قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؟"، فرأيته يبتسم ابتسامةَ السعادة، وعيناه مليئتان بالدموع، ثم ودّعني ومضى!

 

أحبتي في الله.. يقول راوي هذه الواقعة: سبحان الله العظيم! إن الإنسان مهما بلغ فساده وغرق في المعاصي فإن في قلبه (بذرة الخير)، إذا استطعنا الوصول إليها، ثم قمنا باستنباتها ورعايتها أثمرت وأينعت بإذن الله تعالى. إن بذرة الخير تظلُّ تُصارع في نفس الإنسان وإن علتها غشاوة الهوى، فإذا أراد الله بعبده خيراً أشرقت في قلبه أنوارُ الهداية، وسلك سبيل المهتدين؛ يقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾.

 

تذكرني هذه الواقعة بقصةٍ أخرى عن (بذرة الخير) التي نمت في قلب إحدى الطالبات؛ تحكي لنا معلمتها هذه القصة فتقول:

قبل سنواتٍ كنتُ أُدَرِّس في مدرسةٍ، وكان لديّ عددٌ من الطالبات اللاتي شغلتهن الحياة وملاهيها عن طاعة الله، لم يكُنَّ سيئاتٍ جداً، لكن كُنَّ بعيداتٍ عن الله، منشغلاتٍ عنه. كنتُ أحاول وأنصح، وأتكلم، وأجتهد كي أؤثر فيهن؛ تأثر البعض، بينما البعض الآخر لم يتأثر كثيراً. بعد سنواتٍ من تركي لتلك المدرسة، فوجئتُ ذات يومٍ باتصالٍ من إحداهن، كانت غير مصدقةٍ أنها حصلت على طريقةٍ للاتصال بي، فقد تعبت المسكينة شهوراً عديدةً لتصل إليّ، جاءني صوتها الفَرِح عالياً: "أستاذة، والله تعبتُ وأنا أسأل؛ رجعتُ لصديقاتي القديمات، وبحثتُ عن أرقامهن، واتصلتُ على إدارة المدرسة، تعبتُ كثيراً حتى عثرتُ عليكِ، لا أصدق أني أكلمك الآن!". كنتُ في شوقٍ لطالبتي التي أذكرها صغيرةً مشاغبةً عابثةً، لم تكن تهتم بكلامي ولا بنصحي كثيراً، تهرب من الحصص، ويستهويها الضحك والحديث مع زميلاتها أثناء الدرس. عرفتُ منها أنها الآن في آخر سنةٍ في الجامعة، ما أسرع ما تمضي السنون! قالت لي بالحرف الواحد: "أستاذة هل تذكرين كلامكِ ونصحكِ لنا؟ هل تذكرين كيف كنتِ تذكرينا بالحساب واليوم الآخر؟ هل تذكرين كيف كنا ننشغل ونضحك؟ هل تصدقين أن كلامك كان يدخل في قلبي؟ لكن شيطان الهوى كان أقوى مني، وكذلك الصديقات. كنتُ أتظاهر أني لا أهتم، ولم يكن عمري يُعينني على أن أتخذ قراراً قوياً وأثبت عليه، لكن الآن بعدما كبرتُ ونضجتُ لا زلتُ حتى هذه اللحظة أسترجع كلامكِ وعباراتكِ، كل شيءٍ بدأ يعود تدريجياً، لا زلتُ أذكر نصائحكِ وأتأثر بها، إني أدعو الله لكِ، فقد تأثرتُ بكِ، وكذلك الكثير من صديقاتي". صُعقتُ من كلامها، لم أصدق لأول وهلةٍ، ولم أدرِ ما أقول. لم أكن أتخيل أن (بذرة الخير) يمكن أن تبقى كل هذه المدة قبل أن تنبت من جديدٍ، سبحان الله! هل يمكن أن يحصل هذا؟ بقدر ما فاجأتني طالبتي الحبيبة بقدر ما أسعدتني وجعلتني أتقد حماساً وعزيمةً لأستمر في هذا الطريق رغم كل ما قد نراه من إعراضٍ أو غفلةٍ كبيرةٍ من الفتيات.

 

إنها (بذرة الخير) في القلوب؛ يقول تعالى لأَسْرى المشركين الذين جاؤوا يحاربون دين الله وينصرون الشِرك والكفر: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ﴾ فكيف بمَن هو مسلمٌ، مِن أبوين مسلمينِ وأسرةٍ مسلمة، ويُقر بوحدانية الله وربوبيته وألوهيته، ويقول: إني مِن المسلمين؟!

 

يقول سبحانه: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ أي: وهدينا الإنسان وأرشدناه إلى طريق الخير والشر، بيّنا له الهُدى من الضلال، والرُشد من الغي. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ أي أن الله تعالى أوجد عباده في الدنيا، وأمرهم، ونهاهم، وابتلاهم بالخير والشر، بالغنى والفقر، والعز والذل، والحياة والموت، فتنةً منه تعالى ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. ويقول أيضاً: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ كنايةً عن (بذرة الخير) وإن بدت لنا صغيرةً أو قليلةً أو بسيطةً؛ ككلمةٍ طيبةٍ، فإن الله سبحانه وتعالى يبارك فيها لتنمو وتُثمر، بل ويستمر ثمرها في كل وقتٍ وحين.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ]، فما بالنا بتبسمنا في وجه إخواننا، وإماطة الأذى عن الطريق، وغير ذلك كثيرٌ مما يجعل بذور الخير فينا تنمو وتُزهر.

 

يقول أهل العلم إن الله قد زرع في دواخلنا الخير نباتاً طيباً، إن أحسنّا سُقياه لن يُزهر إلا خيراً، وعلينا أن نستغل بذور الخير هذه في مساعدة الآخرين والسعي في نفعهم وقضاء حوائجهم، حتى يغمرنا الرضا الروحي والنفسي عندما يرضى عنا الله عزّ وجلّ، وهنيئاً لمن اختاره الله وسخره لأن يسلك طريقاً فيه خيرٌ ومنفعةٌ للآخرين. إن (بذرة الخير) موجودةٌ عند أغلب الناس، لكنها تحتاج إلى من يُحركها من مكامنها، وإلى مَن يسقيها ويُحييها ويُحسِن رعايتها؛ ففي داخلِ كلٍ منا بذرة خيرٍ، إن سُقيت بالحب نمت وأزهرت قلباً مُحباً لطيفاً، وإن لم تُسقَ فإنها لا تموت، تبقى في أعماقنا بانتظار من يسقيها، فإن سقيناها أو سقاها أحدٌ لنا عادت وأزهرت. وهكذا الآخرون، إنهم في انتظارنا لنسقي لهم بذور الخير في قلوبهم.

وللأسرة دورٌ كبيرٌ في غرس (بذرة الخير) في نفوس أطفالها، فتنمو معهم كلما نمت أعمارهم؛ فمن الأطفال من يدخر بعض الدراهم من مصروفه في حصالةٍ يخصصها للصدقات وأعمال الخير، ومنهم من يساعد أمه في تحضير بعض الطعام ويقوم بتوزيعه على المحتاجين، ومنهم من يشتري زجاجات المياه الباردة ويقوم بتوزيعها على عمال النظافة أثناء عملهم وقت الظهيرة، ومنهم من يُعطي من ملابسه الزائدة عن حاجته لليتامى والمساكين خاصةً قبل أن تهل أيام العيد.

 

أحبتي.. أختم باقتباسٍ أعجبني يقول صاحبه: فلننثر (بذرة الخير) أينما كُنا، وحيثما ذهبنا، وكلما استطعنا، ولا نقلق؛ فلا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى متى ستنبت هذه البذرة، ولا نجعل اليأس يتسرب إلى نفوسنا؛ فبذرة الخير، مهما طال عليها الزمن وذبلت نبتتها، لا تموت بإذن الله، وستنبت يوماً من جديد. كل إنسانٍ في قلبه (بذرة الخير) تحتاج إلى سِقاءٍ؛ فابحث أنت عن البذور التي تمتلكها، ولا تكف أبداً عن سقيها. انثر بذورك لترى تلك الأزهار الجميلة تُحيط بك، تُمتِّع بها ناظرك، ويحيا بها قلبك، فما وُجِدْنا على هذه الأرض إلا لكي نزرع الخير ليُثمر الأمل الذي يُبقينا على قيد الحياة. بذورٌ كثيرةٌ نستطيع أن ننثرها هنا وهناك، في كل محيطٍ نكون فيه؛ في العمل، وفي الشارع، في الأسرة، ومع الأصدقاء والأقارب والغرباء، مع الصغير والكبير، ولكل من يحتاج مساعدتنا، إن طلبها، وإن تعفف عن سؤالها، فبذور الخير ليس لها حدودٌ، ولا تنحصر في مكانٍ أو زمانٍ معين، ولا في أشخاصٍ دون غيرهم، هي بذورٌ موجودةٌ لدى الجميع، لا تحتاج إلا إلى إيمانٍ عميقٍ ويقينٍ بالله، وتربةٍ خصبةٍ، ويدٍ حانيةٍ، حتى تؤتي ثمارها.

ثم إن علينا أن نبحث عن (بذرة الخير) الكامنة لدى كل من نتعامل معهم، فنظهرها لهم، ونساعدهم على رعايتها وتنميتها؛ بذلك نحيا جميعاً في مجتمعٍ قويٍ ومتماسكٍ، يشد بعضنا أزر بعض، ويعمل كلٌ منا على إسعاد غيره قدر ما يستطيع. اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

https://bit.ly/41rdrgY