الجمعة، 23 أكتوبر 2020

الاهتمام والتفقد

 

الجمعة ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٠م


خاطرة الجمعة /262

(الاهتمام والتفقد)

 

هذه قصةٌ كتبتها فتاةٌ شابةٌ في دفتر مذكراتها، تألمت بداخلها فترةً طويلةً دون أن تُخبر أحداً من عائلتها. عانت ما عانت في صمتٍ، واشترت فرحة أهلها بمعاناتها. كتبت تقول:

يكاد المرض ينهش بجسدي .. يحاول القضاء على بسمتي .. يحاول القضاء على شبابي .. لم أكمل عامي العشرين إلا وهذا المرض قد افترس جسدي بأكمله .. بدأ الألم بوخزةٍ سريعةٍ بقلبي .. وتوالت الوخزات، وبدأت نوبات الألم. تألمت بصمت، لم يشعر أحدٌ بمرضي الخطير؛ كنتُ أصبر على المرض، أتحمل الألم وأخفيه عن أعينهم؛ لا أريد أن يصيبهم الحزن .. مرت ليالٍ وأنا أبكي وأتأوه بصمت، ومع مرور الأيام، بدأتُ أشعر بأن المرض ينتقل من قلبي إلى بقية أعضاء جسدي النحيل إلى أن وصل لأخمص قدميّ، بدأت الهالات السوداء تتمركز تحت عينيّ، وبدأت الشحوب تغزو محيايّ .. كنتُ مترددةً في الذهاب إلى الطبيب، ولكني وصلتُ لحالةٍ لا أستطيع فيها تحمل الألم.. ذهبتُ وكنتُ متوقعةً ما سأسمعه. أجريتُ الفحوصات المتعبة والمملة.. تقدم إليّ الطبيب والارتباك واضحٌ على محياه .. سألني: "كم عمركِ يا صغيرتي؟"، أجبته: "سأكمل عامي العشرين بعد خمسة أشهر"، فطأطأ رأسه وسكت لبرهة .. "ألن أكمل عامي العشرين يا دكتور" سألته؛ فرَّد بقوله "الأعمار بيد الله" ..

"ولكني أشعر بأني لن أكمله؛ فالمرض قد سيطر على جسدي" قلت له، فسألني: "صغيرتي، منذ متى وأنت تعرفين عن معاناتك ومرضك"؟، أجبت: "منذ سنة"، سأل: "مَن يعلم مِن أهلك"؟، قلت: "لا أحد، سوى دفاتري وكتبي فقط.. نعم، لم أخبر أحداً حتى لا يعيشوا بحزنٍ أبديٍ؛ فأنا أعلم أن والدتي ستحزن كثيراً لفراقي فأنا ابنتها الوحيدة، ولطالما حلمت أن تراني بفستاني الأبيض، وتحمل أطفالي على كتفها، وينادونها جدتي.. ولكن هيهات؛ فأنا أشعر بألمي؛ فلم يبقَ إلا القليل .. ولكني ما زلتُ أقابلها كل صباحٍ بوجهٍ مشرقٍ وأداعبها لأنني لا أريد أن أُشعرها بأي تغيير .. حاولتُ أن أخبر أخي، ولكني وجدته مشغولاً بتجهيزاته لزفافه .. يأتي ليلاً إلى غرفتي منهكاً، يجلس بجانبي على السرير، يُخبرني عن حبه الكبير لزوجة المستقبل، يُخبرني ماذا اشترى لها من هدايا، وعن مفاجأته لها برحلةٍ لمدة شهرٍ لأستراليا، يخبرني عن شوقه لهذا اليوم الذي لم يبقَ عليه إلا خمسة أشهر، فكيف أخبره بمرضي وهو بغاية السعادة؛ أتود مني أن أقتل فرحته؟ أما والدي؛ فأنا ظللتُ طوال عمري أخجل منه، رغم أنني دائماً أختلس النظرات إليه؛ فأنا أحبه كثيراً وأعتبره قدوتي .. كنتُ أحلم بفتى أحلامٍ يشبه والدي .. هل علمتَ الآن يا دكتور لماذا لم أخبرهم؟ حتى لا يعيشوا الحزن.. فلو أخبرتهم؛ لما جهز أخي لزفافه، ولما رأيتُ السعادة تشع من عيني والدتي ووالدي، رغم مرور ثلاثين عاماً على زفافهما إلا أن الحب ما زال يحيط بينهما.. دكتور.. ها أنت الوحيد بعد الله الذي يعلم بمرضي، لذا سأترك معك هذا الصندوق به وصيةٌ صغيرةٌ أتمنى أن تسلمها لوالدتي يوم وفاتي".

"صغيرتي؛ ما هذا الكلام؟ الله قادرٌ على كل شيء".

"اطمئن إيماني بالله كبير، ولولا هذا الإيمان لما استطعتُ أن أصبر هكذا على المرض، ولكن العمر ينتهي وأود أن أكتب كلماتٍ لوالدتي تقرأها بعد وفاتي، هل تعدني بذلك"؟

"حسناً، أعطني الصندوق، ولا تنسي تناول الأدوية".

"متى أمرّ عليك"؟

"تعالي بعد أسبوعين، وإن شعرتِ بتعبٍ فاتصلي بي فوراً".

"حسناً، إلى اللقاء .. شكرا لك يا دكتور".

عُدتُ إلى منزلي .. انفردتُ بنفسي في غرفتي.. تناولتُ أدويتي .. واستلقيتُ على السرير لآخذ قسطاً من الراحة..

ومرت الساعات .. تلو الساعات .. وكانت آخر اللحظات..

وفُتحت الوصية .. قرأها الدكتور وهو يبكي ..قرأها والكل يبكي معه.. قرأ كلمات تلك الشابة.. كتبتها بخطٍ جميل .. كتبت لوالدتها: "أحبكِ والدتي؛ كنتِ صديقتي .. أختي .. والدتي، اعذريني لأن مرضي كان السر الوحيد الذي أخفيته عنكِ، لم أقوَ أن أخبركِ أني مصابةٌ بالسرطان، لم أقوَ أن تسهري معي وترين نوبات ألمي، لم أقوَ أن أقتل الابتسامة من على محياك الجميل.. والدتي، أتعلمين أني كنتُ أحسدك على أمر ما؟ سأخبرك إياه الآن.. حسدتك مراراً على عشق والدي لكِ .. فلم أرَ بحياتي قصة حبٍ تضاهي حبكما .. وكنتُ أحلم بشابٍ يأخذني بين ذراعيه ويحيطني بالحب ثلاثين عاماً وأكثر.. ولكن شاء الله ألا أكمل عامي العشرين .. والدتي، لا تبكِ على وفاتي.

أخي الحبيب، كم أحببتك وأحببتُ مغامراتنا معاً .. وكم كنتُ سعيدةً عندما أكون معك وصديقاتي يُطلن النظر إليك

معجباتٍ بك.. لا أريدك أن تؤجل زواجك ولكن لي طلبٌ بسيطٌ إن رزقك الله بطفلةٍ فسمها باسمي «شوق».

والدي، فخري وعزتي .. فرحي وسروري .. لو تعلم مقدار احترامي لك .. مقدار الحب الكبير الذي يُكنه قلبي لك..

والدي أنت مثال الأب الرائع .. لن أوصيك على والدتي؛ لأنني أعلم ما بينكما من حبٍ صادق.

دكتوري، أشكرك من أعماق قلبي لكتمانك سري.

لا تنسوني جميعكم من الدعاء.. أحبكم.. كنتُ أريد أن تروني أبتسم في اللحظة الأخيرة.. ولكن ها أنا أموت وحدي".

 

أحبتي في الله .. رحم الله «شوق»، وصبَّر أهلها على فراقها.

لن أناقش إن كان ما فعلته -بإخفاء أمر مرضها عن أسرتها- صواباً أم لا .. وهل خفف بالفعل من حزنهم عليها بعد وفاتها؟ أم أنه زاد من ندمهم على أنهم لو كانوا يتفقدونها ويطمئنون على أحوالها ما تركوها تواجه مرضها وحدها وما كانوا فقدوها بهذه السرعة؟

قدر الله وما شاء فعل، لكن ما استرعى انتباهي أكثر هو عدم تفقد الوالدين لأحوال ابنتهما طوال فترة إصابتها بهذا المرض الخبيث، ومعاناتها وصبرها على أوجاعه وآلامه ألم يلاحظ أحد الوالدين أي تغيرٍ طرأ عليها؟ ألم يحس أحدهما بضعفها وهزالها؟ وعند وصل الأمر إلى شحوب وجهها ألم يلاحظ أيٌ منهما ذلك؟ وإذا كان الأب كالعادة مشغولاً خارج البيت -وهذا ليس بعذر- أين كانت الأم؟

 

الأمر المهم إذن هو (الاهتمام والتفقد)، وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية ذلك في الآية الكريمة عن سيدنا سليمان حينما: ﴿تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾. كما وردت إشارةٌ أخرى عن (الاهتمام والتفقد) في القرآن الكريم بصيغة أخرى هي "التحسس"؛ ففي قصة سيدنا يوسف قال يعقوب عليه السلام لبنيه: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ أي: احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما؛ إذ فقد يعقوب ابنَه يُوسُفَ طفلاً لِسنينَ طويلة، ثُم فقدَ ابنَه الآخر، ولمْ ييأْسْ من تفقدهما والبَحث عنهما.

 

يقول أهل العلم إن تَفَقُّدُ الشخصِ هو السؤال عنه، ومعرفة سبب غِيابه، ومَآل حاله، وتقديم يد العون له إذا احتَاج، وهو خُلُقٌ كريم يدْعو إليه الإسلامُ، وتحمله النفوس الطيِّبة، وكان من شمائل أخلاق النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه: "يَتفَقَّد أصحابَه، ويسأل الناسَ عمَّا في الناس"؛ فهذا هو صلى الله عليه وسلم افتَقَد ثابت بن قيس، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أنا أعلم لك عِلمَه، فأتاه فوجَدَه جالسًا في بيته مُنكِّسًا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال ثابت: شرٌّ؛ كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقد حبط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل فأخبَرَه أنه قال كذا وكذا، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: [اذهب إليه فقل له: إنَّك لستَ من أهل النار، ولكن من أهل الجنة].

كما تَفَقُّد صلَّى الله عليه وسلَّم امرأةً سوداء كانت تَقُمُّ المسجد "أي تجمع قمامته"؛ فسأل عنها الصحابة، فقالوا: ماتت، قال: [أفلا كنتم آذنتموني؟] "أي أعْلمتُموني بموتها"، فكأنهم صَغَّروا أمرها، فقال: [دُلُّوني على قبرها]، فدلُّوه فصلَّى عليها.

وورد في الأثر: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، وهو للزجر وليس للتكفير.

 

وهذا شخصٌ سكن في حيٍ جديدٍ وأراد أن يتعرف على جيرانه القريبين ويتفقدهم فسأل عنهم في المسجد؛ فقال بعضهم: أما هؤلاء فلا نراهم يصلون في المسجد، وفيهم، وفيهم! فقام بزيارتهم، فوجد أحدهم في فترة نقاهةٍ من عملية زراعة كِلية، والآخر مصابٌ بحساسيةٍ شديدةٍ في الصدر، والثالث يعاني من مرض في القلب ونصحه الأطباء بلزوم البيت. لولا (الاهتمام والتفقد) ما كان ليكسب ثواب زيارتهم والسؤال عنهم، وثواب تعديل وتغيير نظرة الآخرين لهم بعد أن أطلع الآخرين على ما هم فيه وما لهم من أعذار، فضلاً عن ثواب كل مساعدةٍ ومعاونةٍ استطاع أن يقدمها لهم.

 

يقول أحد العلماء إن تفقُّد أحوال الناس يفتح باباً واسِعاً على الإنسان لِجَمْعِ الحسنات ومَحْوِ السيئات؛ فإنَّه يعني: عيادة المريض، والإحسان إلى المحتاج، والتفريج عن المكروب، وغير ذلك من أعمال البرِّ والفلاح، التي أقلُّها الاهتِمام بأمر المسلم. ومن التفقُّد تحرِّي معرفة حال الإنسان لتقديم المساعدة له، سواء أكانت هذه المساعدة مساعدة ماديَّة أو معنويَّة؛ فالماديَّة كتقديم مال يَتجاوَز به محنته، أو إعانته على حاجةٍ له، والمعنويَّة كالجلوس معه، ومشاركته همومه، وغير ذلك. وليس تحرِّي معرِفة حال الأخ من الفضول والتدخُّل فيما لا يَعنِي؛ بل هو من حُسْنِ الإخاء، وكرم الأخلاق، ومُقتَضَى المروءة.

 

ورغم سهولة وتنوع وسائل وأساليب التواصل والاتصال وانتشار الهواتف المحمولة إلا أن الكثير منا ما يزال مقصراً في تفقد غيره، كما أن غيرنا مقصرٌ في تفقد أحوالنا!

لقد أخذتنا الحياة المعاصرة بمشاغلها بعيداً عن بعض؛ حتى أصبح من النادر أن يجتمع أفراد الأسرة الواحدة على مائدة الغداء معاً! وحتى صار المحظوظ فينا مَن يجد من يسأل عنه ويطمئن على أحواله ويتصل به لغير مصلحة!

 

أحبتي ..هذه دعوةٌ إلى المزيد من (الاهتمام والتفقد)، دعوةٌ إلى أن يتفقد بعضنا بعضاً؛ نتفقد أفراد أسرنا، وأقاربنا وجيراننا وأصدقاءنا وزملاءنا في العمل، ومَن يواظبون على الصلاة في مسجدنا؛ ربما كان منهم مَن هو محتاجٌ متعففٌ يمنعه حياؤه عن السؤال فنساعده، أو مريضٌ لم يُخبر أحداً بمرضه فنواسيه، أو باحثٌ عن عملٍ يكفل له ولأسرته عيشاً كريماً لكنه يخجل من الطلب فنعينه وندعمه، أو مَن توفاه الله فنقوم بواجب الصلاة عليه والدعاء له ونعزي أهله، وغير ذلك من حالات.

اللهم أنر بصائرنا وألن قلوبنا واهدنا إلى الصراط المستقيم، لا يهدي إليه إلا أنت سبحانك، واجعلنا اللهم ممن يهتمون بغيرهم ويتفقدونهم عسى أن نجد من يهتم بنا ويحمل همنا ويتفقدنا؛ فالجزاء من جنس العمل.

https://cutt.ly/TgvJViz