الجمعة، 6 مايو 2022

أمانة التربية

 

خاطرة الجمعة /342


الجمعة 6 مايو 2022م

(أمانة التربية)

 

إهداءٌ خاصٌ لكل مسلمٍ في بلاد المهجر؛ قال الطبيب راوي القصة: كنتُ أدرس الطب في كندا، ولا أنسى أبداً ذلك اليوم الذي كنتُ أقوم فيه بالمرور اليومي على المرضى في غرفة العناية المركزة في المستشفى ولفت انتباهي اسم المريض الذي في السرير رقم 3, إنه «محمد». أخذتُ أتفحص وجهه -الذي لا يكاد يُرى من كثرة الأجهزة والأنابيب على فمه وأنفه- إنه شابٌ في الخامسة والعشرين من عُمره مصابٌ بمرض الإيدز، أُدخل إلى المستشفى قبل يومين إثر التهابٍ حادٍ في الرئة. حالته خطيرةٌ جداً جداً. اقتربتُ منه، وحاولتُ أن أكلمه برفق: "محمد.. محمد".. إنه يسمعني لكنه يُجيب بكلماتٍ غير مفهومة.

اتصلتُ ببيته فردت عليّ أمه، يبدو من لكنتها أنها من أصلٍ لبنانيٍ، عرفتُ منها أن أباه تاجرٌ كبيرٌ يمتلك محلات حلويات. شرحتُ للأم حالة ابنها، وطال الكلام، وأثناء حديثي معها بدأت أجراس الإنذار تتعالى بشكلٍ مخيفٍ من الأجهزة الموصلة بذلك الفتى مؤشرةً على هبوطٍ حادٍ في الدورة الدموية. ارتبكتُ في حديثي مع الأم، وصرختُ بها: "لا بد أن تحضري الآن"، قالت: "أنا مشغولةٌ في عملي وسوف أحضر بعد انتهاء الدوام!"، قلتُ لها: "عندها ربما يكون الأمر قد فات"، ووضعتُ السماعة.

بعد نصف ساعةٍ أخبرتني الممرضة أن أم الفتى وصلت وتُريد مقابلتي؛ قابلتها، امرأةٌ في متوسط العُمر لا تبدو عليها مظاهر الإسلام، رأت حالة ابنها فانفجرت باكيةً، حاولتُ تهدئتها فقلتُ: "تعلقي بالله تعالى واسألي له الشفاء", قالت بذهول: "أنت مسلم؟!"، قلتُ: "نعم والحمد لله"، قالت: "نحن أيضاً مسلمون"، قلتُ: "حسناً، لماذا لا تقفين عند رأسه وتقرئين عليه شيئاً من القرآن لعل الله أن يُخفف عنه؟"، ارتبكت الأم ثم انخرطت في بكاءٍ مريرٍ وقالت: "لا أحفظ شيئاً من القرآن!!"، قلتُ: "كيف تُصلين إذن؟ ألا تحفظين الفاتحة؟!!"، فغُصت بعبراتها وهي تقول: "نحن لا نُصلي إلا في العيد، منذ أن أتينا إلى هذا البلد"، سألتها عن ابنها: "هل كان يُصلي؟"، قالت: "لا، لكنه كان ينوي أن يحج في آخر عمره!!". بدأت أصوات أجهزة الإنذار ترتفع أكثر وأكثر، اقتربتُ من الفتى المسكين، إنه يُعالج سكرات الموت. الأجهزة تُصفِّر بشكلٍ مخيفٍ. الأم تبكي بصوتٍ مسموعٍ. الممرضات ينظرن بدهشةٍ. اقتربت من أذنه وقلتُ: "لا إله إلا الله. قُل: لا إله إلا الله" لكن الفتى لا يستجيب. "قُل: لا إله إلا الله". إنه يسمعني. بدأ يفيق وينظر إليّ. يحاول المسكين بكل جوارحه. الدموع تسيل من عينيه. وجهه يتغير إلى السواد.

"قُل: لا إله إلا الله. قُل: لا إله إلا الله". بدأ يتكلم بصوتٍ متقطعٍ: "آه.. آه.. ألمٌ شديدٌ.. آه.. أريد مسكناً للألم.. آه.. آه". بدأتُ أدفع عبراتي وأتوسل إليه: "قُل: لا إله إلا الله". بدأ يحرك شفتيه. فرحتُ.. يا إلهي سيقولها.. سينطقها الآن.. لكنه قال: "I Can’t.. I Can’t أين صديقتي أريد صديقتي.. لا أستطيع.. لا أستطيع". الأم تنظر وتبكي. نبض الفتى يتناقص. يتلاشى. لم أتمالك نفسي. أخذتُ أبكي بحرقةٍ. أمسكتُ بيده. عاودت المحاولة:

"أرجوك قُل: لا إله إلا الله". "لا أستطيع.. لا أستطيع". توقف النبض. انقلب وجه الفتى أسوداً. ثم مات. انهارت الأم وارتمت على صدره تصرخ. رأيتُ هذا المنظر فلم أتمالك نفسي، نسيتُ كل الأعراف الطبية، انفجرتُ صارخاً بالأم: "أنتِ المسئولة. أنتِ وأبوه. ضيعتم الأمانة ضيعكم الله. ضيعتم الأمانة ضيعكم الله".

 

أحبتي في الله.. نعم لقد أضاع الوالدان ابنهما وخانا (أمانة التربية)؛ فالأمانة ليست فقط في المال -كما يَرِد على ذهن الكثيرين عند ذِكر لفظ الأمانة- بل إن الأمانات التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بأدائها بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ وردت بصيغة الجمع لتشمل العديد من صور وأشكال وأنواع ومجالات الأمانة، وربما كانت (أمانة التربية) هي أول وأهم الأمانات بعد أمانة الدين مباشرةً والتي أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾.

أما (أمانة التربية) المُناط بالوالدين القيام بها فهي المُشار إليها في قوله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.

وهي التي رواها عبد الله بن عُمر قال: "أنَّهُ سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: [كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ؛ فَالإِمَامُ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا، والخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ]، قالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأَحْسِبُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: [والرَّجُلُ في مَالِ أبِيهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ].

 

إن الإسلام -كما يرى أهل العلم- قد أوجب على الآباء والأمهات ضرورة الاهتمام الدائم بالأولاد وحُسن تربيتهم على العموم، وتزداد أهمية تربيتهم وتأديبهم والحفاظ عليهم في بلاد الغُربة كي ينشأوا على هدى الإسلام وأحكامه، بدلاً من أن تُغيرهم الأيام شيئاً فشيئاً حتى يتحولوا عن الإسلام ذاته. والأمانة ثقيلةٌ، وأرض الواقع حافلةٌ بالأمثلة الواقعيَّة التي يراها أهل الغُربة في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها من ضياع الأولاد والبنات وانجرافهم مع هذه المجتمعات في تقليدٍ أعمى بلا تعقِّلٍ، وذلك لأن الوالديْن قد قطعا الروابط التي تربط الأولاد بجذورهم، فلم يعد لهم ارتباطٌ بدينهم، ولا لغتهم الأصيلة، ولا بوطنهم الأم، فانحدرت القيم وضاعت الأخلاق، وأصبحت الصورة العامة للناشئ المسلم في بلاد الاغتراب –إلا من رحم الله– أنه فاقد القدوة الحسنة في المنزل، فيرى أباه وأمه وإخوته الكبار على جملةٍ من المخالفات الشرعية قولاً وعملاً، فيتأثر بهذه المخالفات ويُقلدها، ويظنها حقاً، وما عداها باطلاً، ثم يُفاجَأ الوالدان بأن شخصية هذا الناشئ قد تبلورت على خلاف ما كانا يرجوان له من خيرٍ، رغم أنهما السبب في ذلك. إن لسان حال هذا الناشئ وأمثاله ليقول: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾

وحال هذا الوالد وهذه الأم كما قال الشاعر:

وينشأُ ناشئُ الفتيانِ منا

على ما كان عوَّدهُ أبوهُ

فيظهر أثر القدوة في نفس الولد والبنت في زمن الصغر، ويظهر ذلك بانطباعه على نقش الذاكرة، ويظل معيناً دائماً لا ينضب في نفس الناشئ حتى يكبر.

ولا شك أنه من صور الإجحاف والظلم للنبت الصغير تركه في العراء بلا تعهدٍ ولا رعاية، حيث ينشغل الوالد والوالدة تماماً عن الفتاة والصبي، فلا مشاركةٍ وجدانيةٍ، ولا علاقةٍ حميمةٍ، ولا متابعةٍ للأخلاق والسلوك، ولا تقويمٍ ولا تهذيبٍ، إنما يبذل الوالدان كل جهدهم من أجل حصول أبنائهما على أكبر قدرٍ من الرفاهية في المسكن والمأكل والملبس وشتى المطالب المادية، وهذا شيءٌ مطلوبٌ وحيويٌ، ولكنه لا يكفي وحده في بناء أبناء الإسلام في بلاد الغُربة على الخصوص. ومع انشغال الوالدين تبدو بوارق الخطر؛ إذ تتدخل عوامل خارجيةٌ هدّامةٌ تعمل عمل السُّمِّ في نفسية الناشئ؛ كالإعلام المرئي والمقروء المجرد عن أي حياءٍ، والاختلاط الإباحي في كل مكانٍ، وأثر الصديقات والأصدقاء، وتبرز من جراء ذلك ثمراتٌ كأنها رؤوس الشياطين، لعل أهمها ضياع معنى الشرف والطهارة، وإهدار منظومة القيم والمُثل الإسلامية، وبقية الثمرات المُرة، وكلها من سخائم المجتمع الغربي، ويأتي في مقدمتها ترك الصلاة التي هي عماد الدين؛ يقول تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾، وكل ذلك من وراء تقصير الآباء والأمهات الذين يُهملون أبناءهم حتى ينفرط عقدهم، ويفلت زمامهم إلى سنٍ بعيدةٍ عن زمن التعلم والتأديب.

 

ومما يؤلم أن نرى بعض الآباء والأمهات في البلاد الإسلامية قد أضاعوا أبناءهم؛ بعدم الاهتمام بتنشئتهم التنشئة الإسلامية الصحيحة بحُجة مُجاراة الحضارة الغربية وإعداد أبنائهم للعيش في عصر الحداثة والعلمانية والانفتاح والحرية والتقدم المزعوم، مُضحين في سبيل ذلك بالكثير من القيم الإسلامية، غير عابئين بتعليم أبنائهم أصول دينهم؛ فلا يهتمون بتعويدهم الصلاة، ولا بتحفيظهم بعض آياتٍ من القرآن الكريم، فينشأ بعضهم لا يكاد يُحسن قراءة الفاتحة أو سورة الإخلاص. وهؤلاء الآباء والأمهات ممن يصفهم المولى عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾.

 

وهذه نصيحةٌ من ذوي الاختصاص تُساعد الوالدين -خاصةً المغتربين منهم- على الوفاء بواجبات ومسئوليات و(أمانة التربية) حتى ينشأ أبناؤهم نشأةً إسلامية صحيحة: حافظوا على دينكم وهويتكم الإسلامية، وربوا في نفوس أبنائكم الاعتزاز بالدين، وربوهم على أن يكون لهم هدفٌ في الحياة، وأن المسلم له هدفٌ من وجوده وغايةٌ خُلق لها؛ وهي عبادة الله سبحانه في الأرض، وإقامة دينه وشرعه، وأنه لم يُخلق ليأكل ويشرب ويتمتع فقط، فالمسلم يتلقى الأوامر والنواهي من الله الخالق، الذي كرمه بهذا، ليسعده في دنياه وأخراه، ويُدخله الجنة، أما هؤلاء الذين يأكلون ويتمتعون كما يشاؤون وليس عندهم حلالٌ ولا حرامٌ، فإنهم ﴿يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾. اغرسوا في نفوس أبنائكم هذه المعاني بأسلوبٍ شيقٍ مؤثرٍ؛ فيعرفون لماذا يجب على المسلم فعل أشياء، ولماذا يحرُم عليه إتيان أشياء.

 

وللأمانة فإن هناك أسراً تُعد نماذج نفخر بها، وأمثلةً يُقتدى بها؛ عاشت في بلاد الغرب متمسكةً بدينها، قابضةً على الجمر، حريصةً على الوفاء بتلك الأمانة (أمانة التربية) فنشأ أبناؤها تنشئةً إسلاميةً صحيحةً؛ علم الوالدان أن المسلم مسؤولٌ أمام الله تعالى عن أولاده؛ فكانا لهم كالراعي الذي يسوقهم إلى مواطن الخير ويُدخلهم فيها، ويُحذِّرهم من مواطن التهلكة والضرر؛ فليس المهم أن ينجو المؤمن من العذاب وحده، بل عليه أيضاً أن يحرص على وقاية أهله من النار، وأولاده هُم أهم أهله وأقربهم إليه.

 

أحبتي.. تحيةً خاصةً نُقدمها من أعماق قلوبنا لكل أسرةٍ تعيش في الغرب وتحرص على أن ينشأ أبناؤها مسلمين صالحين، عسى الله أن يُضاعف أجر الآباء والأمهات في تلك الأسر. أما الأسر التي بعُدت عن الدين ولم تهتم بتنشئة أبنائها على منهج الإسلام القويم، سواءً في الغربة أو في بلاد المسلمين، فنقول لهم اتقوا الله في أنفسكم وأبنائكم، ضيعتم (أمانة التربية)، عودوا إلى رُشدكم يرحمكم الله، وتداركوا ما يُمكن تداركه، أخلصوا النية لله وأحسنوا العمل؛ ليكون سبحانه وتعالى خير مُعينٍ لكم، ويوفقكم في مسعاكم.

اللهم اهدنا صراطك المستقيم، وهب المسيئين منا للمحسنين، وأعز الإسلام والمسلمين.

 

https://bit.ly/3kSMTQV