الجمعة، 15 مايو 2020

محطة الوقود

الجمعة 15 مايو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٩

(محطة الوقود)

 

كنتُ مسافراً بسيارتي من القاهرة إلى العين السخنة ومعي أسرتي. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل. وقبل انطلاقي وضعتُ في بالي أن أنتبه إلى ضوء مؤشر الوقود في السيارة؛ حيث كان يؤشر إلى قُرب انتهاء الخزان.

توجهتُ لشراء بعض اللوازم، وبعدها انطلقتُ بالسيارة في الطريق السريع وقد نسيتُ أمر مؤشر الوقود. تذكرتُ أن الخزان سيفرغ من الوقود وأنا في الطريق، وما هي إلا فترةً قصيرةً حتى أضاء مؤشر الوقود معلناً أن وقودي سينفد نهائياً بعد فترة. لم أقلق في البداية ظناً مني أنني سأجد الكثير من محطات الوقود في الطريق، ولكن ومع مرور الوقت والظلام الحالك والطريق الموحش بدأ القلق يتسرب إلى نفسي.

اتصلتُ بصديقٍ مستعلماً منه عن أول محطة وقودٍ فأنبأني بأنها بعد مسافةٍ طويلةٍ جداً. تحول القلق إلى رعب. وتراجعت كل الاهتمامات والمشاغل والمشاكل، وانحصرت الآمال والأحلام والهموم كلها في أمرٍ واحدٍ فقط؛ وهو (محطة الوقود)! لم أعد أتمنى من الدنيا إلا محطة وقود، إذ تضاءلت وتصاغرت كل المشاكل التي كانت تشغلني منذ دقائق. لاح لي ضوءٌ من بعيدٍ فدب في قلبي أملٌ واهنٌ وفرحٌ مُعلقٌ؛ اقتربتُ من الضوء، لم تكن للأسف محطة وقودٍ، بل كانت استراحةً فقيرةً جداً؛ شعرتُ بالإحباط، وسألتُ الرجل عن أقرب محطة وقود، كياني كله تعلّق بفم ذلك الرجل في انتظار إجابة؛ قال الرجل: "توجد محطة وقودٍ بعد مسافة ثلاثة كيلو مترات"، كدتُ أحتضنه. لكني خشيتُ أن تكون إجابته غير دقيقةٍ، أو أن محطة الوقود ليس بها وقود الليلة. انطلقتُ بعدها مكملاً طريقي، وعيناي لا تفارق ضوء مؤشر الوقود، ومرت الثواني كدهر. أخيراً، لمحتُ من بعيدٍ (محطة الوقود)، وحين وصلتُ لم يكن هناك أحدٌ، وجعلتُ أبحث عمن أكلمه؛ ظهر أخيراً رجلٌ فسألته متلهّفاً: "هل لديكم وقود؟"، قال لي: "نعم"، كانت أجمل نعم سمعتُها في حياتي، سجدتُ لله فوراً، ملأتُ خزان الوقود بسيارتي. انطلقتُ بعدها لاستكمال الرحلة وأنا أشعر أنه قد كُتب لي عمرٌ جديد.

خطر على بالي بعد هذا الموقف معنى أن يأتينا رمضان مرةً واحدةً كل عام؛ فرمضان أصلاً هو (محطة الوقود) الروحاني يتزود منها أحدنا لباقي العام، كيف نضيعه؟ كيف نجازف بالموت وأرواحنا عطشى؟ كيف نمر بهذه المحطة الوحيدة في السنة كلها فلا نتزود بالوقود؟ ألا يمكن أن يكون رمضان هذا العام هو الأخير في حياة أحدنا؟! أي أنه يكون بمثابة آخر محطة للتزود بالوقود قبل القدوم على الله، آخر محطة للتوبة والاستقامة ورد المظالم وبر الوالدين وصلة الرحم والعودة إلى القرآن الكريم؛ يقول الله تعالى في سورة الذاريات: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾.

 

أحبتي في الله .. كتب هذه القصة الدكتور/ إبراهيم الفقي، رحمه الله، تحت عنوان: «ضوء مؤشر البنزين»، عن موقفٍ حقيقيٍ تعرض له بالفعل، ونقلتها لكم بتعديلاتٍ طفيفة.

إن شهر رمضان المبارك هو بحقٍ فرصةٌ للعودة إلى الله، بل للفرار إليه. وعن الآية الكريمة ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ يقول أهل العلم إن الفرار نوعان: فرار السعداء، وفرار الأشقياء. أما فرار السُعداء فهو فرارٌ من الدنيا إلى الله؛ فرارٌ إلى ﴿إِيّاكَ نَعبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعينُ﴾، فرارٌ من عصيان الله إلى طاعته، ومن عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته، بالالتجاء إلى الله والاعتماد عليه والتوكل عليه، بالتوبة من الذنوب. وأما فرار الأشقياء؛ فهو فرارٌ من الله وليس إليه، فرارٌ منه سبحانه إلى الدنيا، إلى المعاصي، إلى الشهوات، إلى الظلمات، إلى المهلكات؛ قال تعالى واصفاً حال هؤلاء: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ . فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾، إنه فرارٌ إلى الطريق الخطأ؛ فطريق الفرار الصحيح يكون إلى الله سبحانه وتعالى؛ يقول سبحانه: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾، نَفِرُّ إلى الله لأن خلفنا عدونا إبليس يسعى جاهداً بكل ما أوتي من قوة ليجعلنا من أصحاب السعير، يحذرنا من ذلك المولى عزَّ وجلّ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾.

فرار المسلم المؤمن هو فرار السعداء من شيءٍ مخيفٍ إلى شيءٍ آمن، من شيءٍ مزعجٍ إلى شيءٍ مُطَمْئِن، من هموم الدنيا إلى التطلع للآخرة، من الجهل إلى العلم، ومن الكسل إلى العزم، من الضيق إلى السَعَةِ؛ من ضيق الصدر بالهموم والأحزان إلى سعة الإيمان ورحابة طاعة الرحمن، من ضيق المخاوف إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى، وصِدق التوكل عليه، وحُسن الرجاء لجميل صنعه به، وتوقع المرجو من لطفه وبِره.

 

يقول الشاعر:

وَلَرُبَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى

ذَرْعاً وعندَ اللهِ منها المَخرَجُ

ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها

فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ

 

ومما نُشر في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، وله صلةٌ بموضوعنا، ما يلي: لا تقف متحسراً على أنك لم تختم القرآن خمس مراتٍ، أو لم تقم الليل كله، أو لم تبنِ مسجداً. لا تنتظر طويلاً على رصيف الحِرمان، وتفكر في بعيدٍ لم تنله. فكر في مساحة الممكن لديك، ‏يمكن لك أن تقرأ ولو صفحةً من المصحف، وتصلي ولو سجدة، وتتصدق ولو بتمرة. لقد فعلت امرأة الممكن وسقت كلباً فدخلت الجنة! وفعل رجلٌ الممكن وأماط غصن شوكٍ عن الطريق فنال من الله المغفرة! الطريق إلى الله يُحسب بالأشبار؛ ففي الحديث القدسي يقولُ اللَّهُ تَعالَى: {... وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا ...}. لا تتوقف محتقراً خطوةً، ولا تتوقف منتظراً وثبةً؛ فقليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ منقطع. تذكر كل ليلةٍ ألاّ تحاسب نفسك على مستحيلٍ تمنيتَه، وإنما على مُمكنٍ ضيعتَه! إن مساحة الممكن تتسع بالأعمال لا بالآمال.

 

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا استَطَعتُم﴾، ويقول حكيم: إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قُصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك، إنما الأعمال بالخواتيم، وإن كنتَ لم تُحسن الاستقبال فلعلك تحسن الوداع؛ فالعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، وحُسن الختام خيرٌ من حماسة البدء. وقيل في الأثر: لا تَحقِرَنَّ مِن المَعروفِ شَيئاً. ويقول المثل: ما لا يُدرَكُ كُلُّه، لا يُترَكُ جُلُّه.

يصف أحدهم حال بعض الناس مع رمضان؛ فيقول: ﻭإﻧﻪ ﻟﻤ ﺍﻟﺤﻣﺎﻥ ﺍﻟﻌ ﻭﺍﻟﺨﺴﺎﺭﺓ ﺍﻟﻔﺎﺩﺣﺔ ﺃﻥ ﺗﻯ ﻛﺜﻴﺍً ﻣ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴ، ﻳُﻤﻀﻥ ﻫﻩ ﺍلأﻭﻗﺎﺕ ﺍﻟﺜﻤﻴﻨﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻻﻳﻨﻔﻌﻬ؛ ﻳﺴﻬﻭﻥ ﻣﻌﻈﻢ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻬ ﺍﻟﺒﺎﻞ، ﻓﺈﺫﺍ ﺟﺎﺀ ﻭﻗ ﺍﻟﻘﻴﺎﻡ ﻧﺎﻣﺍ ﻋﻨﻪ، ﻭﻓَْﺗﺍ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻔﺴﻬ ﺧﻴﺍً ﻛﺜﻴﺍً، ﻟﻌﻠﻬ ﻻﻳﺭﻛﻧﻪ ﺑﻌ ﻋﺎﻣﻬﺍ ﺃﺑﺍً.

وصدق من قال: مَن رُحِم في رمضان فهو المرحومُ، ومَن حُرِم خيره فهو المحرومُ، ومَن لم يتزودْ لمعادِه فيه فهو الملومُ.

 

أحبتي .. عودةً إلى قصة البداية، قال كاتبها في نهايتها: اللهم اجعلنا من المتزوّدين بوقود الروح في محطة رمضان، ولا تجعلنا من الساهين، ولا تجعلنا من المقصرين، ولا تجعلنا من الغافلين، ولا تجعلنا من المحرومين.

وعن الفرار إلى الله والعودة إليه تائبين أعجبني قول أحد العلماء كتب يتساءل: لماذا عباد الله نؤخر الفرار إلى الله؟ هل نحن مغترون بصحتنا وقوتنا التي هي إلى ضعفٍ وزوال؟ أم نحن مغترون بأموالنا التي لن يلحقنا منها شيءٌ إذا متنا؟ أم نحن عالمون بموعد موتنا وانتقالنا عن هذه الحياة؛ فنؤخر الفرار إلى الله إلى قُرب هذا الموعد؟ هذه أسئلةٌ لابد أن يسألها المسلم لنفسه، ولابد أن يجد لها الإجابات المقنعة، إن كان حقاً يريد مرضاة الله سبحانه، وإن كان حقاً يريد النجاة من عذاب الله وعقابه. فتعالوا نعلنها صريحةً واضحةً -كما أعلنها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم- تحمل كل معاني الفرار إلى الله ظاهراً وباطناً: [اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ].

قد يكون رمضان هذا هو (محطة الوقود) الأخيرة بالنسبة لنا؛ فليكن شعارنا أحبتي فيما بقي لنا من أيام هذا الشهر الفضيل، وفي العودة إلى الله والفرار إليه، الآية الكريمة: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾. خلاصة القول: إنْ أحسنتَ فَزِد، وإنْ قصَّرتَ فَعُد.

اللهم خُذ بنواصينا إليك أخذ الكرام عليك، ولا تكلنا لأنفسنا طرفة عين.

 

https://bit.ly/363p8xF