الجمعة، 28 يوليو 2023

رد المظالم

 خاطرة الجمعة /406

الجمعة 28 يوليو 2023م

(رد المظالم)

 

يحدثنا أحد الإخوة الذين يعيشون في قريةٍ تقع شرق زنجبار، والذي وُلد يتيماً ووحيداً، حيث مات أبوه شاباً بعد زواجه بعدة أشهر، وكان ثمرة هذا الزواج هذا الأخ الذي يُحدثنا الآن.

يقول: نشأتُ يتيماً ووحيداً، وقامت على تربيتي أمي الأرملة الشابة، وتأيمت من أجلي، فكنتُ مشروعها في الحياة، وكنا نعيش على معاش المرحوم أبي، ومعنا أرضٍ تمدنا أحياناً بما يُقيم أودنا، ولم يكن عمي بعيداً عنا، إذ كان يتفقدنا الفينة بعد الفينة، وهكذا مضت طفولتي لا يُعكرها شيءٌ إلا فَقْدُ الأب وضيق الحال، ولكنها كانت رغم ذلك تمشي كحياة مَن حولي. أما عمي فهو رجلٌ عسكريٌ؛ إذ إنه ضابطٌ في الجيش برتبة عقيد، وكان رجلاً طيباً يحنو علينا ويسأل عنا، ولم نرَ منه إلا كل خيرٍ، وكان جارنا في الأرض؛ إذ تقاسم هو وأبي الأرض نصفين، وأعطانا قسم أبي نقوم عليه وننتفع به. عاد عمي قبل مدةٍ من سفرٍ، ووصل إلى بيته في وقتٍ متأخرٍ من الليل، وفي ضحى اليوم التالي جاءني إلى بيتي وجلس معي في ديواني -على غير عادته- حيث أنه إذا أراد مني شيئاً كان يستدعيني إلى بيته، فأدركتُ أن هناك أمراً مهماً يشغل باله، وبعد المجاملات وتناول الشاي، قال لي: "يا ولدي لقد جئتك إلى بيتك رغم أني لا أزال مرهقاً من السفر حتى أتفق معك في أمر مهم".

وأردف يقول: "يا بُني إن قطعة الأرض الفلانية -التي تقع على الساقية والتي هي أفضل أرضنا- كانت من نصيب المرحوم أبيك حينما قُسِّمت الأرض وأنت لا تزال طفلاً، جاءت في سهم أبيك، ولكني استوليتُ عليها بسبب جشعي وأنانيتي, وما طابت نفسي أن لا تكون في قسمي، والآن يا ولدي، ومن هذه اللحظة، هذه القطعة من الأرض، سوف أنقل ملكيتها لك بطريقةٍ رسميةٍ حتى لا تختلف مع أولادي، وأما ما أكلتُ منها من حرامٍ فلك الحكم لو تحب أعطيك مقابله قطعة أرضٍ أخرى أو أسددك نقداً ولكن بالتقسيط ونُقدِّر الأمر تقديراً تقريبياً, لأني أريد أن أتخلص من كل ما هو متعلقٌ بهذا الأمر واستحلك قبل أن يُداهمني الموت". فلما أكمل عمي كلماته رأيتُ الدمع يتحدر من عينيه وهو يطلب مني أن أسامحه على خطأه ذاك؛ فقلت: "يا عم أنت بمقام أبي، وأنا نشأتُ في الدنيا وكنتَ أنت ملجأي وعزوتي، ولو تحب فأنا متنازلٌ عن أي حقٍ لي في تلك القطعة من الأرض، وسوف أسترضي أمي فيما لها من ميراثٍ فيها. اِحتفظ بها واعتبرها مِلكك كما كانت، وأنا مُسامِحك دنيا وآخرة". هنا لم يتمالك عمي نفسه فاحتضني وبكى بكاءً شديداً، وقال: "لا والله ما لي قسم فيها بعد اليوم، ولن ألقى الله وهي في مِلكي"، فلما أصر طلبتُ منه أن يقبل أن أسامحه فيما مضى وأن تنتقل قطعة الأرض لي من الآن، وما فات فات، واتفقنا على هذا. في آخر المجلس سألتُ عمي عن سبب هذا التحول بعد أكثر من خمسٍ وعشرين سنة؟ فقال: "يا بُني وأنا في طريق عودتي من سفري هذا حلت صلاة الجمعة فمررتُ أصلي في أحد المساجد فوقف الخطيب على المنبر وخطب خطبةً بليغةً مؤثرةً عن حُرمة مال اليتيم وعن (رد المظالم) بكلامٍ لم أسمعه من قبل؛ فخفتُ خوفاً شديداً أن يحدث لي شيءٌ قبل أن أصل إلى بيتي وأعيد لك ما اغتصبته من أرضك".

 

أحبتي في الله.. لقد حرَّم الله سبحانه وتعالى الظلم تحريماً قاطعاً؛ فهو سبحانه الحكم العدل لا يَظلِم ولا يرضى لعباده الظلم؛ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: {إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا}، وفي روايةٍ: {إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا}. ويقول عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ﴾، وهو سبحانه لا يحب الظالمين: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، بل ويلعنهم: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، ويصفهم بأنهم لا يُفلحون: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، ويُبيّن أن مصيرهم هو الخيبة: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾، ويُخبرنا سبحانه أن الإنسان -بنفسه الأمارة بالسوء- لديه الاستعداد لأن يَظلِم: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾، ومع كل ذلك، فإن الله العزيز الحكيم، بلطفه ورحمته وفيض كرمه، يفتح باب المغفرة والتوبة أمام كل ظالم: ﴿إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، ويكون (رد المظالم) هو باب قبول توبتهم.

 

وعن (رد المظالم) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه.]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ، حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَحشُرُ اللهُ العبادَ عُراةً غُرْلًا بُهْمًا ليس معهم شيءٌ فينادِي بصوتٍ يسمعُه من بَعُدَ كما يسمعُه من قَرُبَ أنَا الملِكُ أنَا الدَّيَّانُ لا ينبغي لأحدٍ من أهلِ الجنةِ أن يَدخلَ الجنةَ وأحدٌ من أهلِ النارِ يُطالبُه بمظلَمَةٍ حتى اللطمة فما فوقها، ولا ينبغي لأحدٍ من أهلِ النارِ أن يدخلَ النارَ وعنده مظلمةٌ، حتى اللطمة فما فوقها (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)]، قلنا: يا رسول الله، كيف وإنما نأتي حفاةً عُراةً غُرلًا بُهمًا؟ قال: [بالحسناتِ والسيئاتِ جزاءً وفاقًا ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾].

 

يقول أهل العلم إن الحقوق -التي ينبغي رد مظالمها- نوعان: حق الله، وحق الآدمي: فحق الله لا مدخل للصلح فيه؛ كالحدود، والزكوات، والكفَّارات، ونحوها؛ وإنما الصلح بين العبد وبين ربِّه في المسارعة إلى إقامتها والوفاء بها. أما حقوق الآدميين، فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عنها.

 

وعن الحقوق الخاصة بالآخرين كتب أحدهم سائلاً الظالمين ومُذكِّراً لهم بيوم الحساب يُعدد صوراً من المظالم التي تستوجب الرد؛ كتب يقول:

هل أنت جاهز؟ يا من ظلمتَ الناس؟ يا من شهدتَ زوراً من أجل إرضاء الآخرين؟ يا من تركتَ الصلاة؟ يا من قطعتَ الأرحام؟ يا من أكلتَ حقوق غيرك؟ يا من ظلمتَ أبناءك وزوجتك؟ يا من عققتَ والديك وخاصمتَ إخوانك؟ يا من سرقتَ ورث إخوانك وأخواتك؟ يا من افتريتَ على خلق الله؟ يا من فرَّقتَ بين أبنائك الذكور والإناث؟ يا من استخدمتَ السحر لأذية غيرك؟ يا من أكلتَ مال اليتيم؟ يا من عطلتَ عمداً مصالح الآخرين؟ يا من جرحتَ إنساناً وظلمته قهراً وغدراً؟ يا من خُنتَ شخصاً أَمِنَك على حاله وماله؟ يا من كنتَ سبباً في خراب بيوت الناس؟ يا من طعنتَ بعِرض الناس وشرفهم؟ يا من استقويتَ على الضعيف ونسيت أن الله أقوى منك؟ يا من ألقيتَ بأمك أو أبيك خارج بيتك إرضاءً لزوجتك؟ يا من أكلتَ حق العامل وتعبه وشقاه؟ يا من تعاليتَ وتكبرتَ على الناس بمنصبك أو نسبك؟ هل أنت جاهز؟

إن حقوق العباد ستُرفع إلى قاضي السماء يوم الحساب، الذي يحسبه الغافلون بعيداً وهو أقرب إلينا من صحوتنا من النوم؛ فما وجودنا في الدنيا إلا وجودٌ عابرٌ ومسألة وقت، والرحيل إلى حيث الخلود لا مفر منه، وكل ساقٍ سيُسقَى بما سقَى، ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.

 

يقول العلماء إن التوبة النصوح هي المشتملة على: الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفاً من الله سبحانه وتعظيماً له، والعزم الصادق على عدم العودة إليها، مع (رد المظالم) إن كان عند التائب مظالم للناس من دمٍ، أو مالٍ، أو عِرضٍ، أو استحلالهم منها، أي: طلب المسامحة منهم. ومن كان ظلمه للناس من جهة الغيبة وخشي إن أخبرهم أن يحدث ما هو أكبر من الضرر، لم يخبرهم، ودعا لهم، واستغفر لهم، وأظهر ما يعلم من محاسنهم في مقابل إساءته لهم بالغيبة. أما من أخذ أموالاً بغير حقٍ بسرقةٍ أو غيرها فالواجب عليه أن يبذل كل الوسع في البحث عن أصحابها حتى يردها إليهم هُم، أو ورثتهم إن كان أصحابها قد ماتوا، فإن أيس من العثور عليهم ولم يتسنَ له معرفة ورثتهم فله التصدق بها عنهم، وعلى كل حالٍ عليه الإكثار من كل ما يُقرب إلى الله ويزيد في ميزان الحسنات فإن حقوق العباد إذا لم يأخذوها الآن، فسيأخذونها يوم القيامة حسناتٍ أو تخلصاً من سيئات.

إن أفضل الأعمال أن يأتي المسلم يوم القيامة سالِماً من الظُّلْم، ولا يكون ذلك إلا بالمبادرة إلى أن يتحلَّل من مظالم الناس كشرطٍ لقبول توبته.

 

أحبتي.. من منا لم يَظلِم؟ لا يوجد من بيننا من مرت سنوات حياته دون أن يظلم نفسه أو يظلم غيره -إلا من رحم ربي وهُم قليل- فليبادر كلٌ منا إلى توبةٍ نصوحٍ بدايتها الصحيحة الإنابة والعودة إلى الله عزَّ وجلَّ والمحافظة على الفروض وقضاء الفوائت قدر المستطاع، و(رد المظالم) إلى العباد.

ومن منا لا يتمنى لنفسه العيش الآمن والهداية؟ كلنا نتمنى ذلك؛ فلنعلم أن ذلك مشروطٌ بأن نُقوي ونعزز إيماننا بالله، ولا نظلم غيرنا ليتحقق لنا وعد الله الذي لا يُخلف وعده؛ يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾.

ولنتذكر المقولة المشهورة: "أن تصل متأخراً خيرٌ لك من ألا تصل أبداً".

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://bit.ly/44NjTQe