الجمعة، 18 أغسطس 2023

هي رسالة

 خاطرة الجمعة /409

الجمعة 18 أغسطس 2023م

(هي رسالة)

 

رجلٌ نذر نفسه لفكرةٍ كان فيها سفيراً للإسلام حول العالم، التقيته في إحدى محاضراته في مدينة «العين» بدولة «الإمارات» عام 1987م، لا أنسى ابتسامته التي لا تكاد تُفارق شفتيه، ولبسه المميز: بدلة بدون رابطة عنق وطاقية على رأسه، كما لا أنسى أبداً أسلوبه الماتع وذكاءه وسرعة بديهته، وذاكرته غير العادية، وشخصيته الجذابة المؤثرة. إنه الشيخ «أحمد حسين كاظم ديدات» -رحمة الله عليه- رجل المناظرات اللامع، الداعية والواعظ والمُحاضر والمُناظر الإسلامي الذي اشتُهِر بمناظراته وكتاباته في مقارنة الأديان، وعلى وجه الخصوص بين الإسلام والمسيحية، الحائز على جائزة الملك فيصل لجهوده في خدمة الإسلام عام 1986م. وُلد «أحمد ديدات» في الأول من يوليو عام 1918م في مدينة «سورات» غرب ولاية «غوجرات» الهندية، لأسرةٍ بسيطةٍ تعمل في الزراعة، وهاجر والده إلى «جنوب أفريقيا» بُعيد ولادته حيث عمل خياطاً، وتُوفيت أمه وهو في التاسعة من عمره؛ فسافر للعيش مع أبيه عام 1927م، وهناك حفظ القرآن الكريم. مثَّل انتقاله إلى «جنوب أفريقيا» نقلةً نوعيةً وكبيرةً من مجتمعٍ لمجتمعٍ آخر؛ ففي مجتمعه الجديد، كان العرق الأبيض يُهيمن على باقي الأعراق، وكانت هناك تفرقةٌ عنصريةٌ وظلمٌ واضطهادٌ، وكان المحتلون البريطانيون في «جنوب أفريقيا» يُمارسون التمييز والتنصير ضد المسلمين من الأعراق الهندية والمالاوية. كان والده رجلاً فقيراً يبحث عن لقمة العيش بشِق الأنفس، مما دفع «أحمد ديدات» إلى ترك المدرسة في الصف السادس الابتدائي، والعمل في أحد المحال بجوار إرساليةٍ تنصيريةٍ كان طلابها يمرون على «ديدات» وهو يعمل، ويُلقون علية الشُبهات التي يتعلمونها في الإرسالية؛ يقول «ديدات»: “في تلك الأيام، ومن هذه الكلية توافد علينا المبشرون يأتون لشراء الأغراض من المحل، وينهالون عليّ بالأسئلة والانتقادات؛ كانوا يقولون: هل تعلم أن «محمداً» تزوج نساءً كثيرات؟ وقتها لم يكن لديّ أية معرفةٍ، ويقولون: هل تعلم أن الإسلام انتشر بحد السيف، وأن «محمداً» نقل كتابه عن اليهود والنصارى؟ لم يكن عندي درايةٌ بذلك، وكان الموقف بغاية الصعوبة بالنسبة لي”.

لقد ولّد إحساس «ديدات» بالضعف والقهر ردة فعلٍ للتحدي ورغبةً في نُصرة دينه، وأحس أنها إنما (هي رسالة) من الواجب عليه القيام بها.

يقول «ديدات» عن البداية: “ذات صباحٍ دخلتُ مخزناً رئيسياً في العمل، وأخذتُ أقلب في كومةٍ من الكتب القديمة بحثاً عن مادةٍ أقرؤها، وانهمكت بالبحث إلى أن عثرت على كتابٍ قضمته الحشرات، كان قديماً ومُتعفناً، قرأتُ عنوانه وهو {إظهار الحق}، وبفضل هذا الكتاب تغيرت حياتي تماماً". هذا الكتاب العظيم هو الذي فتح آفاق «أحمد ديدات» للرد على شُبهات النصارى بما تميز به من منهجٍ حواريٍ، وتأصيله تأصيلاً شرعياً يوافق المنهج القرآني في دعوة أهل الكتاب إلى الحوار وطلب البرهان والحُجة من كتبهم المحرفة، فكان لفكرة إقامة المناظرات أثرٌ عميقٌ عنده؛ ليترك لنا هذا المنهج الدعوي المبارك الذي كان نتيجته أن أسلم على يديه آلافٌ من النصارى من مختلف أنحاء العالم، والبعض منهم الآن دعاةٌ إلى الإسلام. بدأ «ديدات» يقرأ الكتاب، ووجد فيه بغيته للرد على الذين يُهاجمون الإسلام، ثم بدأ يُحضّر نُسخاً مُختلفةً من الإنجيل ويُقارن بينها، ويدرسها ويُدوِّن ملاحظاته عليها، ثم خطا خطوةً كانت أكثر جرأةً، فقد كان يذهب للمُنصّرين في عُقر دارهم ويُناقشهم في تلك النصوص. يقول «ديدات»: “أخبرني شخصٌ إنجليزيٌ كان قد اعتنق الإسلام واسمه «فيرفاكس»، أن لديهم رغبةً لتدريس المُقارنة بين الأديان، وأطلق على تلك الدراسة {دراسة الإنجيل}، قال إنه سيعلمنا كيف نستخدم الكتاب المُقدس في الدعوة للإسلام، وافقنا وكنا سعداء، ومن بين ثلاثمائة شخصٍ من الحاضرين اختار عشرين فقط ليبقوا ويتلقوا مزيداً من العِلم”. تغيب «فيرفاكس» لمدةٍ طويلةٍ؛ فكان تغيبه فرصةً للشيخ «ديدات» ليبدأ في تعليم الطلاب من حيث انتهى، يقول: “بقيتُ ثلاث سنواتٍ وأنا أتحدث إليهم، وكانت تلك أفضل وسيلةٍ تعلمتُ منها، فأفضل طريقةٍ لتتعلم هي أن تُعلِّم الآخرين”.

ولإيمانه بأن توعية الناس (هي رسالة) أصدر «ديدات» في بداية الخمسينيات كتيبه الأول "ماذا يقول الكتاب المقدس عن «محمدٍ» صلى الله عليه وسلم؟" ثم نشر بعد ذلك أحد أبرز كتيباته "هل الكتاب المقدس كلام الله؟"، وفي المُحصلة ألّف «ديدات» ما يزيد عن عشرين كتاباً، وطبع الملايين منها لتوزع بالمجان، بخلاف المناظرات التي طبع بعضها، وقام بإلقاء آلاف المحاضرات في جميع أنحاء العالم، واشتُهر بمناظراته التي عقدها مع كبار رجال الدين المسيحي.

كان «ديدات» يقول دائماً: "من فمك أُدينك"؛ فكان يُناقش النصارى من خلال الإنجيل، وكان يقرأ النصوص من ذهنه ويحفظها كاملةً، وقد أوتي فصاحةً باللغة الإنجليزية، تواكبها فصاحةٌ في ذِكر الآيات القرآنية -على الرغم من عدم إجادته اللغة العربية- مما أهله ليكون الفارس الأول في مجال المناظرة الإسلامية المسيحية؛ فكان بحقٍ رجلاً متميزاً متفرداً ليس له نظيرٌ في هذا المجال لأنه اعتبر الدعوة إلى الإسلام (هي رسالة) عليه أن يكون له دورٌ فيها. كانت أهم مناظرةٍ له تلك التي جمعته بالقس «جيمي سوغارت»، والتي بُثت على أكثر من مئة قناةٍ تلفزيونيةٍ، وتحدَّث من خلالها للنصارى في جميع أنحاء العالم، وفي تلك المناظرة أظهر هشاشة «سوغارت»؛ فقد تحدث «ديدات» بأسلوبين: منطقيٍ وعاطفيٍ، وبرع في الأسلوبين المنطقي العقلي، والعاطفي الذي أثار الجماهير وجذبهم، فيما استخدم «سوغارت» الأسلوب العاطفي فقط، ولم يكن لديه منطقٌ علميٌ يُقدمه رداً على أسئلة «ديدات».

في تلك الفترة ظهر الفيديو كاسيت، وكان الناس يتداولون أشرطة «ديدات» كعلامةٍ على انتصار الإسلام على المسيحية؛ يقول «ديدات»: “كان العالم الإسلامي يُلِّح في طلب الأشرطة خصوصاً الذين يعيشون في الغرب، حيث يشن المبشرون حرباً على المسلمين، وكما هو الحال في «الهند» و«بنغلاديش» و«إندونيسيا» وحيثما وُجد المسلمون فإنهم لا يعرفون التصدي لهؤلاء ومواجهتهم، وأشرطتنا تقوم بذلك”.

لقد شكَّل «ديدات» ظاهرةً حقيقيةً سيطرت على العالم الإسلامي لعقودٍ، وكان مقره في منطقة «ديربان» في «جنوب أفريقيا»، وهناك حقق أمنيته بافتتاح مركزٍ للدعوة؛ فلم يكتفِ بالعمل الفردي، وإنما كان يحترم العمل المؤسسي.

 

أحبتي في الله.. لم يكن الشيخ «أحمد ديدات» داعيةً تقليدياً يُركز على الحشد والترويج لدينه، لكنه ركَّز على العقل والاختيار، فهو لا يقول لك: آمِن بهذا أو أترك هذا، لكنه يقول لك: "اختر؛ فأمامك الحقائق التي توصلتَ إليها".

لقد كان -رحمة الله عليه- فارساً في مواجهة التنصير، مهمته أن يؤكد على القيم الحضارية الإسلامية التي يُراد لها أن تُجتث وأن تُدمج قسراً بالحضارة الغربية، لقد ترك بصمةً واضحةً في العِلم الذي برع فيه، لا يُمكن نسيانها بأي حال؛ فكانت جهوده (هي رسالة) تؤكد على أن القوة تُولَد من رحم الضعف، والتحدي يُولَد من رحم العجز، والعزة تُولَد من رحم القهر.

في إبريل عام 1996م أُصيب الشيخ «ديدات» بجلطةٍ في الدماغ، فنصحه الأطباء بالراحة، إلا أنه رفض الاستماع لنصائح الأطباء، وسافر إلى «أستراليا» لعرض الإسلام، وتحدى هناك عدداً من المنصرين الأستراليين الذين أساءوا للإسلام. وعلى الرغم من مرضه وكِبَر سنه الذي قارب الثمانين، طاف الشيخ «ديدات» ولايات «أستراليا» محاضراً ومناظراً ومدافعاً عن الإسلام، غير آبهٍ بنصائح الأطباء، حتى وقع أرضاً من شدة الإرهاق والتعب، فأصيب بجلطةٍ في الدماغ، وظل طريح الفراش مدة تسع سنواتٍ لا يستطيع أن يُحرك إلا عينيه، ورغم ذلك لم ييأس؛ فقد استخدم لوحةً ضوئيةً يختار منها بعينيه حروف الكلمات التي يُريد التعبير بها، ليستمر في تعليم تلاميذه بنظرات عينيه، إلى أن تُوفي إلى رحمة الله في الثامن من أغسطس عام 2005م.

ومن أطرف وألطف ردود «أحمد ديدات» رده السريع المُفحِم على ملحدٍ سأله: ما شعورك لو مُت واكتشفت أنَّ الآخرة كَذِب؟ فأجاب: ليس أسوأ من شعورك عندما تموت وتكتشف أنَّها حقيقة!

 

أحبتي.. هذه قصة رجلٍ أعجميٍ تمثَّل قول النبي صلى الله عليه وسلم: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَة]، يقول عن أثر هذا الحديث في نفسه: "علينا أن نبلِّغ رسالة الله تعالى حتى ولو كنا لا نعرف إلاَّ آيةً واحدةً، إن سرّاً عظيماً يكمن وراء ذلك؛ فإنك إذا بلَّغتَ وناقشتَ وتكلمتَ فإن الله يفتح أمامك آفاقاً جديدةً". فمن منا تأثر بهذا الحديث الشريف كما تأثر الشيخ «ديدات»؟ كم منا حباه الله بالعِلم والذكاء والقدرة على الحوار فاستغل هذه النعم الربانية في خدمة الإسلام؟ إن الدعوة إلى الإسلام ليست وظيفةً وإنما (هي رسالة) على كلٍ منا أن يجعل لنفسه دوراً فيها، حتى ولو كان محدوداً: أُنشر آيةً قرآنيةً، عمم حديثاً نبوياً تُحيي به سُنة نبيك، اُكتب مقالاً دعوياً، اكفل طالب علمٍ شرعي، أرسل لغيرك مادةً دينيةً مفيدةً، وغير ذلك مما تستطيعه، بحسب قدراتك وإمكانياتك. قدِّم لنفسك واترك من الآثار ما ينفعك في الدار الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾.

اللهم أعنّا على خدمة دينك، ويسِّر لنا سُبل النهوض بواجب الدعوة إليه والتعريف به والدفاع عنه.

https://bit.ly/3KHeW35