الجمعة، 28 مايو 2021

عمل الخير لا يضيع

 

خاطرة الجمعة /293


الجمعة 28 مايو 2021م

(عمل الخير لا يضيع)

 

يُحكى أنه في ليلةٍ عاصفةٍ شديدة البرودة، كان هناك طبيبٌ شابٌ ساهرٌ في طوارئ إحدى المستشفيات الصغيرة، دخلت عليه امرأةٌ كبيرةٌ في السن تبدو عليها مظاهر الإجهاد والمرض، تظهر من ملابسها وهيئتها العامة حالتها المادية البسيطة، وكان معها شابٌ في العشرين من عمره، تبدو عليه هو الآخر علامات التعب والإرهاق وقلة النوم، وقد أخذ الزمن ضحكته. سأل الطبيب المريضة: "أخبريني سيدتي ما الذي يؤلمك"؟ أجابته المرأة بصوتٍ خافتٍ متعبٍ: "أعتقد أن السكر والضغط مرتفعان"، قال الطبيب بهدوءٍ: "حسناً؛ فلنبدأ الكشف على الفور". في هذه الأثناء رنَّ هاتف الشاب المصاحب للمرأة فخرج من غرفة الكشف معتذراً بأدبٍ حتى يُجيب على مكالمة الهاتف، وبعد دقائق معدودةٍ عاد إلى غرفة الكشف وعيونه مغرورقةٌ بالدموع، دون أن يقول أي شيءٍ، سأل باهتمامٍ الطبيب عن حالة المريضة؛ فأخبره أنها بحاجةٍ عاجلةٍ إلى الأنسولين، وهو للأسف غير متوفرٍ في المستشفى، فقال الشاب: "سوف أحضره حالاً من الصيدلية"، قالت له المرأة: "ولكن البرد قارسٌ بالخارج يا بني، لا أريد أن أشق عليك، يكفي ما قمتَ به حتي الآن"، رد الشاب بسرعة: "المهم سلامتك"، ثم انصرف ليشتري الأنسولين من الصيدلية. قال الطبيب للسيدة: "لا تقلقي، إن من واجبه رعايتك؛ فأنتِ أمه"، ردت المرأة باستغرابٍ: "أنا لستُ أمه، لقد كنتُ آتيةً إلى المستشفى سيراً على قدميّ في هذا الجو البارد؛ حتى أوفر ثمن المواصلات، فتوقف هذا الشاب بسيارته بجانبي وعرض عليّ أن يقوم بتوصيلي إلى المكان الذي أريده، وأحضرني إلى المستشفى، ثم ها هو أيضاً ذهب ليجلب لي الدواء ويدفع ثمنه من جيبه"! بعد دقائق معدودةٍ عاد الشاب ومعه الأنسولين، ومن جديدٍ رنَّ هاتفه فخرج ليجيب على المكالمة، لكنه عاد هذه المرة وعلى وجهه ابتسامةٌ عريضةٌ وهو يردد: "الحمد لله، الحمد الله، أشكرك يا رب، ألف حمدٍ وألف شكر"، لم يتمكن الطبيب من كبح فضوله فسأل الشاب: "ما الموضوع"؟ فأخبره الشاب أنه مغتربٌ، يعيش بمفرده في هذه البلاد، وزوجته تعيش في بلدٍ أخرى، وهي حاملٌ بعد سبع سنواتٍ من الزواج، واليوم هو موعد الولادة، وقد نزفت دماء كثيرةً، في الاتصال الأول أخبروني أن حالتها خطيرةٌ وتحتاج إلى دمٍ، ولا يوجد في المستشفى دمٌ من فصيلة دمها"، سكت برهةً واستطرد يقول: "طوال طريقي إلى الصيدلية لشراء الأنسولين كنتُ أدعو الله عزَّ وجلَّ أن يُنجِّيها ويُنجّي المولود"، التقط أنفاسه لبرهةٍ ثم قال: "في الاتصال الثاني أخبروني إنه فجأةً دخل ثلاثة أشخاصٍ من جمعية التبرع بالدم، غرباء وطلبوا التبرع بدمهم للمستشفى، وكانت فصيلة دم أحدهم من ذات فصيلة دم زوجتي، وهكذا تم إنقاذها وإنقاذ الوليد، وهما الآن بصحةٍ تامةٍ والحمد لله"، قال له الطبيب في ذهولٍ: “الخير الذي فعلته مع هذه السيدة عاد إليك بالخير؛ (عمل الخير لا يضيع)".

 

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصة بأخرى مترجمةٍ؛ فعمل الخير لا جنسية له ولا وطن، إنه من أعمال الفطرة التي يولد بها الإنسان أياً كان دينه أو لونه أو مستواه الثقافي أو مكانته الاجتماعية.

تقول القصة: في أحد الأيام الممطرة رأى رجلٌ يُدعى أندي سيدةً مسنةً تقف على جانب الطريق، وعلى ما يبدو أنها كانت تحتاج للمساعدة حيث رآها تقف بجوار سيارتها، وهي تبدو في حيرةٍ من أمرها، فتقدم إليها وسألها قائلاً: "هل تحتاجين للمساعدة يا أمي"؟ فقالت السيدة المسنة: "نعم يا بني فقد توقفت سيارتي فجأةً ويبدو أن الإطار الأمامي يحتاج إلى تغييرٍ، وأنا لا أستطيع القيام بذلك كما ترى فأنا امرأةُ عجوز"، ابتسم  لها وقال: "لا عليكِ يا أمي، تفضلي بالجلوس في سيارتك وسأقوم أنا بتغيير الإطار"، وبالفعل بدأ أندي في إصلاح الإطار المعطل، وبعد أن انتهى من تغيير الإطار، قالت له السيدة العجوز: "كم أنا مدينةٌ لك أيها الرجل الطيب، أنا مستعدةٌ لدفع كل ما تريده من المال لأنك أنقذتني بالفعل في هذا الجو العاصف"، ولكن أندي قال لها: "لقد كانت مجرد مساعدةٍ بسيطةٍ لشخصٍ يحتاج المساعدة، ويعلم الله أنني أفعل هذا دائماً؛ أساعد الناس حتى أجد من يساعدني". وحينما أصرت العجوز على رد المعروف قال لها أندي: "إذا أردتِ أن تردي لي المعروف، في المرة التي ترين فيها شخصاً يحتاج إلى المساعدة عليكِ أن تقدميها له"، فشكرته السيدة واستقلت سيارتها وسارت بها إلى وجهتها. وعلى بُعد عدة أميالٍ من الطريق شاهدت مقهىً صغيراً، فتوقفت لتأكل فيه وجبةً قبل أن تكمل طريقها إلى المنزل، وعندما جلست على الطاولة جاءت النادلة، وكان لها ابتسامةٌ جميلةٌ تُطل بها في وجه الزبائن؛ فارتاحت لها العجوز، ولاحظت أن النادلة حاملٌ في الشهور الأخيرة، ولكنها على الرغم من ذلك ومع صعوبة الجو كانت تتحامل على نفسها وتقوم بهذا العمل، وعلى الفور تذكرت أندي وما فعله معها، فقررت مساعدة النادلة. وبمجرد أن أنهت السيدة طعامها أعطت النادلة مائة دولار، وكان هذا المبلغ أكثر بكثيرٍ من ثمن الفاتورة الفعلي؛ فذهبت النادلة على الفور لجلب المبلغ الباقي، وعندما عادت به لترده إلى السيدة وجدت أنها غادرت المطعم وتركت على الطاولة منديلاً مكتوباً عليه بعض الكلمات، أمسكت به وقرأت ما عليه ثم بكت بكاءً شديداً؛ فقد كتبت لها تلك السيدة: "كنتُ على الطريق وتعرضتُ لمحنةٍ فساعدني شخصٌ لا أعرفه، وإذا كنتِ تريدين رد المعروف ساعدي أنتِ كل من يحتاج، ولا تدعي سلسلة الخير والعطاء تنتهي عندكِ"، ووجدت النادلة تحت المنديل مبلغ أربعمائة دولار تركته لها السيدة العجوز، ففرحت كثيراً، وحينما عادت إلى بيتها في تلك الليلة لم تستطع النوم، وظلت تفكر في المال الذي معها وما كتبته السيدة العجوز، وسألت نفسها: "كيف عرفت تلك السيدة بأمر احتياجها هي وزوجها للمال"؟ فمع قدوم الطفل في الشهر التالي سيكون الوضع صعباً عليها وعلى زوجها، وكانت النادلة تعرف بمدى قلق زوجها حيال هذا الأمر، فقبلته وهو نائمٌ بجوارها وقالت له: "كل شيءٍ سيكون على ما يُرام يا أندي"!

 

سبحان الله، (عمل الخير لا يضيع) أبداً، مهما قلٍّ أو صغر. يقول أهل العلم إن فعل الخير والمسارعة إليه، هو من أنبل المقاصد وأسمى الغايات التي يسعى الإنسان إليها؛ فبه تسمو إنسانيته ويتشبّه بالملائكة، ويتحلّى بأخلاق الأنبياء والصادقين، ولذلك فقد أوصى الإسلام المسلمين بأن يفعلوا الخير مع الآخرين بغض النظر عن معتقداتهم وأجناسهم؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، والخير هو اسمٌ لكل ما يعود على بالنفع على صاحبه وعلى الآخرين، ويُعتبر من أهم الأعمال التي يقوم بها المسلم، لأنه يتقرّب به من الله، كما إنه يعتبر جزءاً من العبادة، وقد أكثر الله من الدعوة إليه، وجعله عنصراً من عناصر الفلاح والفوز؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

كثيرةٌ هي آيات القرآن الكريم التي تحثّ على فعل الخير؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، كما يقول: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم﴾، ويقول كذلك: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾، ويقول عزّ من قائل: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، وغير ذلك من آيات.

 

(عمل الخير لا يضيع)، وينبغي على المسلم ألا يستصغر أي عملٍ من أعمال الخير، مهما كان صغيراً أو قليلاً فإن الله يؤجرنا عليه؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾. وفي الحديث أن رجلاً رأى غصن شوكٍ في الطريق فأزاله حتى لا يؤذي الناس؛ فشكر الله له وأدخله الجنة. وفي الحديث: بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلبٍ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. وفي الحديث: بينما كلب يطيف بركيةٍ كاد يقتله العطش إذ رأته بغيٌ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغُفر لها به. ويصل تنوع أبواب الخير إلى حد أن كَفَّ شرِنا عن الغير هو في حد ذاته عملٌ من أعمال الخير؛ قالَ عليه الصلاة والسلام: [تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فإنَّها صَدَقَةٌ مِنْكَ علَى نَفْسِكَ].

 

قال الشاعر:

مَن يفعلِ الخيرَ لا يعدمْ جوازيه

لا يذهبْ العرفُ بين اللهِ والناسِ

مَن يزرعِ الخيرَ يحصدْ ما يُسَّر به

وزارعُ الشرَ منكوسٌ على الراسِ

وقال آخر:

الخيرُ زرعٌ والفتى حاصدُ

وغايةُ المزروعِ أنْ يُحصدا

وأسعدُ العالَمِ مَن قدَّمَ الإحسانَ

في الدنيا لينجو غدا

 

أحبتي .. (عمل الخير لا يضيع)، ينفع صاحبه في الدنيا وفي الآخرة؛ فلنحرص على مضاعفة جهودنا في مجالات الخير الكثيرة والمتنوعة، بالزكاوات والصدقات وإطعام الفقراء والمساكين ورعاية الأيتام والسعي في قضاء مصالح المحتاجين وإماطة الأذى عن الطريق والابتسامة في وجه الناس، وغير ذلك من أعمال الخير، شرط أن تكون مسبوقةً بنيتنا الصادقة وأن تكون خالصةً لله، بغير رياءٍ أو سمعةٍ أو نفاق.

اللهم اهدنا للخير، ويسِّره لنا، وتقبله منا خالصاً لوجهك الكريم.

 

https://bit.ly/3fvExwS