الجمعة، 29 أغسطس 2025

الورع

 

خاطرة الجمعة /514

الجمعة 29 أغسطس 2025م

(الورع)

 

كتب يقول: كُنا ثلاثة أصدقاء، قريبين جداً من بعضنا، وفي يوم زفاف أحدنا فوجئتُ بأن صديقي الآخر يعتذر عن حضور الحفل، الأمر الغريب أنه كان يشعر بأنه لا ينبغي له الذهاب إلى الحفل. طوال اليوم كان يقول لي: "لا أُريد أن أذهب، أشعر أنني إن ذهبت، سيحدث شيءٌ يجعلني أندم بقية حياتي"، وأنا كنتُ مَن يحاول إقناعه بالذهاب معي إلى الحفل؛ حتى أنني قضيتُ اليوم بأكمله في محاولة إقناعه بأن يأتي معي إلى الحفل حتى لا يغضب منا صديقنا الثالث العريس، ونكون إلى جانبه. بعد جدالٍ طويلٍ، قلتُ له: "سنذهب أنا وأنت، وإذا حدث أي أمرٍ يُزعجك ولو بنسبةٍ بسيطةٍ، سنُغادر فورًا"، ومع ذلك، لم يكن مُقتنعاً، وعندما نفد صبري قلتُ له: "إذا لم تأتِ معي، سأغضب منك، لأنني لا أُريد الذهاب وحدي، وهذا حفل زفاف أعز أصدقائنا، لا يصح أن تتغيب عنه"، وفعلاً، رافقني، فقط كي لا يُغضبني.

‏ ركب معي في سيارتي، ونحن في الطريق طلب أن نستمع إلى سورة يس؛ لأنها تبعث في نفسه الطُمأنينة، كنتُ أنظر إليه، فأجده متوتراً ووجهه شاحب، سألته: "لماذا أنت قلِق؟"؛ فأجابني بجملةٍ لن أنساها ما حييتُ: "أليس من المُمكن أن يكون هذا الفرح آخر حدثٍ أحضره، وتنتهي أعمالي في الدُنيا وأنا أستمع إلى الموسيقى والأغاني؟ أليس من المُمكن أن تكون نهايتي هناك؟"، انقبض قلبي عندما سمعتُ كلامه، وحاولتُ أن أُطمئنه؛ فقلتُ له: "لن نتأخر، سنبارك للعريس ونُغادر، وأنا أعتذر لك لأنني أحضرتك معي رغماً عنك". لكن، وبصدقٍ، في تلك اللحظة غضبتُ من نفسي بشدةٍ، ولم أعد أعرف ما عليّ فعله، شعرتُ بالذنب لأنني أجبرته على المجيء. فجأةً، ونحن في الطريق، سمعنا أذان صلاة العشاء؛ فطلب مني أن نتوقف عند أقرب مسجدٍ لنُصلي، ثم نُكمل طريقنا. وفعلاً، صلينا الفريضة، وبدأنا نُصلي السُنن. انتهيتُ من صلاتي ونظرتُ إليه، فوجدته ساجداً يضحك! استغربتُ، ولا أدري لماذا شعرتُ أنه يتشهد، وللحظةٍ تمنيّتُ أن يكون إحساسي خاطئاً، طال سجوده، وكنتُ أحدّق فيه ودموعي تملأ عينيّ، ومن أعماق قلبي كنتُ أتمنى أن ينهض من سجوده، فإذا به ينهض، وقبل أن أفرح بنهوضه، وقع وهو يقول الشهادة، ولا زال يضحك! احتضنته، وكل خليةٍ في جسدي كانت تُريد أن تقول له: "لا، لقد وعدتني أن نظل أصدقاء حتى آخر نفس"، قال لي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: "لكل أجلٍ كتابٌ، وقد انتهى عمري يا صديقي، لا تنساني، ولا تستهِن بالذنوب، حتى نكون سوياً في الجنة"، قالها، ثم عاد يُردد الشهادة، وفجأةً ضحك وقال: "الحمد لله"، وكان ذلك آخر نفسٍ له، وآخر كلمةٍ نطق بها.

مات صديقي بسكتةٍ قلبيةٍ مفاجئةٍ، ونحن في طريقنا لحضور حفل زفافٍ، مات بين يديّ، داخل المسجد، ولو تأخرت تلك اللحظات بضع دقائق حتى نصل إلى حفل الزفاف، لما سامحتُ نفسي مُطلقاً على أنني كنتُ سبباً في موته في ذلك المكان؛ فلا أنا، ولا صديقنا العريس، ولا الحفل بكل من فيه، كانوا لينفعوه بشيء.

لم يكن صديقي -رحمه الله- يُحب الاختلاط، ولا حفلات الزفاف التي تكثر فيها الذنوب، ولا الأغاني التي تُشغّل فيها، ومنذ فترةٍ، كان يُحاول التوقف تماماً عن الاستماع إلى الأغاني، وكان في غاية السعادة لأنه استطاع تحقيق ذلك، وكان يُجاهد نفسه والدُنيا والشيطان، وبحكم أننا كنا نعيش معاً، فقد كنتُ شاهداً على ذلك. كان يدعو كثيراً أن تكون آخر أعماله سجدةٌ، وكان يقول لي إنه يتمنى أن يموت وهو ساجدٌ، وقد تحققت أمنيته، واستجاب الله سُبحانه وتعالى دعاءه، ومات في بيت الله، وهو ساجد.

مرت فترةٌ طويلةٌ على وفاته، ولا زلتُ أعيش على الجملة التي قالها لي: "لا تستهِن بالذنوب، حتى نكون سوياً في الجنة"، تركتُ كل ما هو مُحرّمٌ، أولاً؛ من أجل الله عزَّ وجلَّ، وثانياً؛ لنلتقي مُجدداً في الجنة أنا وصديق العُمر. توقفتُ عن الذهاب إلى الأفراح، وتوقفتُ عن الاستماع إلى الأغاني، وأقلعتُ عن أي شيءٍ قد يُبعدني ولو خطوة واحدة عن الجنة، وقبل أن أُقدم على أي أمرٍ مُحرَّمٍ، يُزين ليّ الشيطان أنه أمرٌ بسيطٌ أُذكِّر نفسي بجملة صديقي المرحوم بإذن الله: "ما أدراك؟ قد يكون هذا نهاية أعمالي في الدُنيا".

وكم كان الله كريماً معي، فقد شعرتُ بحلاوة الإيمان، وطُمأنينة القلب، وسكون الجوارح، شعرتُ بسعادةٍ لا توصف ولا تُقارن بالسعادة الزائفة التي كانت تعقب كل عملٍ سيءٍ أقوم به. لم يعد الإحساس بالندم يتملكني، بل صرتُ أعيش حالةً من الرضا لم أكن أتصور أن أعيشها، فقط لتركي المعاصي، وحرصي على فعل كل ما يُرضي الله. اللهم ثبتني على الإيمان وأمتني عليه.

 

أحبتي في الله.. إنه (الورع) عندما يعيشه المسلم بصدقٍ وإخلاص. عرَّفه العلماء بأنه "التَّقْوَى، والتَّحَرُّج، والكَفُّ عن المحارِم"، وقالوا "هو اجتناب الشُبهات؛ خوفاً من الوقوع في المُحرمات"، وأضاف بعضهم أنه: "ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة". وقسَّموا (الورع) إلى نوعين: ورعٌ واجبٌ: وهو اتقاء ما يكون سبباً للذمِّ والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المُحرم. وورعٌ مندوبٌ: وهو الوقوف عن الشُبهات. وقالوا إن (الورع) على وجهين: ورعٌ في الظاهر بأن لا تتحرك إلا لله، وورعٌ الباطن وهو أن لا تُدخل قلبك سوى الله.

 

يقول تعالى في وصف المُخلصين في ورعهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.

وعن هذه الآية سألت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: أَهُمُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ويسرِقونَ؟ قالَ عليه الصلاة والسلام: [لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهمُ الَّذينَ يصومونَ ويصلُّونَ ويتصدَّقونَ، وَهُم يخافونَ أن لا تُقبَلَ منهُم ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾].

يقول الله عزَّ وجلَّ في الحديث القُدسي: {وعِزَّتِي لا أجمعُ على عَبدي خَوفيْنِ وأَمنيْنِ، إذا خافَني في الدُّنيا أمَّنْتُه يومَ القيامةِ، وإذا أمِنَني في الدُّنيا أَخَفْتُه في الآخِرةِ}.

وقيل في هذا المعنى: "إن المؤمن جمع إحساناً وشفقةً، وإن المنافق جمع إساءةً وأمناً".

وعن (الورع) قال صلى الله عليه وسلم: [ومِلاكُ الدِّينِ الورَعُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أعْبَدَ الناسِ].

 

ويُشير أهل العلم إلى أن (الورع) لابد وأن يشمل الجوارح كلها، فلا يجب أن يكون في جانبٍ دون آخر؛ فورع العين غض البصر، وورع اللسان التعفف عن البذاءة وعن آفات اللسان، وورع اليد الكف عن البطش والإيذاء والتعدي، وهكذا مع سائر الجوارح. وأفضل (الورع) هو أن يتورع الإنسان عن شيءٍ ينقصه أو شيءٍ تشتهيه النفس، مخافة الوقوع فيما يُغضب الله عزَّ وجلَّ. وإن أفضل الورع هو ورع الخلوات؛ فالمؤمن الورع يُوقن بأن الله تعالى معه وناظره، ومُطلعٌ عليه في كل مكانٍ وعلى أية حال.

وحذَّر العُلماء من (الورع) الكاذب؛ قال أحدهم: "سيأتي أقوامٌ يخشعون رياءً وسُمعةً، وهُم كالذئاب الضواري، غايتهم الدنيا، وجمع الدراهم من الحلال والحرام"، واستشهد بما قام به الخليفة عُمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رأى رجلاً في السوق يحمل تمرةً ويُنادي عليها صارخاً: "لقد وجدتُ تمرةً فمن صاحبها؟"، فلما رأى عُمر أن الرجل يفعل ذلك تظاهراً بالورع، علاه بالدُرة وقال له: "دعك من هذا الورع الكاذب".

 

قيل عن (الورع): هو أوَّلُ الزُّهْدِ. وقيل: هو اجتنابُ كُلِّ رِيبةٍ، وتَركُ كُلِّ شُبهةٍ. وقيل: هو الخروجُ من كُلِّ شُبهةٍ، ومحاسَبةُ النَّفسِ في كُلِّ طَرفةِ عَينٍ. وقيل: ما رأيتُ أسهَلَ من الوَرَعِ؛ ما حاك في نفسِك فاترُكْه! وقيل: مثقالُ ذَرَّةٍ من الوَرَعِ خيرٌ من ألفِ مِثقالٍ من الصَّومِ والصَّلاةِ. وقيل: جُلَساءُ اللهِ تعالى غداً أهلُ الوَرَعِ والزُّهْدِ. وقيل: كُنَّا نَدَعُ سَبعينَ بابًا من الحلالِ مخافةَ أن نقَعَ في بابٍ من الحرامِ. وقيل: هو لُزومُ الأعمالِ الجميلةِ التي فيها كمالُ النَّفسِ. وقيل: عليك بالوَرَعِ يُخَفِّفِ اللهُ حِسابَك، ودَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك، وادفَعِ الشَّكَّ باليقينِ يسلَمْ لك دينُك.

 

وقال الشاعر عن (الورع):

تَوَرَعْ وَدَعْ ما قَدْ يُريبُكَ كُلَهُ

جَميعاً إلَى ما لا يُريبُكَ تَسْلَمْ

وقال آخر:

جَليلُ العَطايا في دَقيقِ التَوَرُعِ

فَدَقِّقْ تَنَلْ عالي المَقامِ المُرَفَّعِ

وَتَسْلَمْ مِنَ المَحْظورِ في كُلِ حالةٍ

وَتَغْنَمْ مِنَ الخَيْراتِ في كُلِ مَوْضِعِ

وَتَحْمِدْ جَميلَ السَعْي بِالفَوْزِ في غَدٍ

فَسارِعْ إلَيهِ اليَوْمَ مَعَ كُلِ مُسْرِعِ

 

أحبتي.. لخَّص أحد العارفين (الورع) بقوله: إنه يجلب محبة الله تعالى، ويُرضي نبيه صلى الله عليه وسلم، وبه يتم البُعد عن الشُبهات، والاحتراز من المعاصي، وهو سِمةٌ من سِمات الأتقياء الأنقياء، لا يُقاس بشكلٍ ولا بهيئةٍ، ولا يُقاس بطنطنة اللسان ولا بفصاحة البيان، بل هو حالةٌ من تصالح الإنسان مع الله سُبحانه وتعالى؛ فلا يفعل فعلاً ولا ينطق بكلمةٍ إلا راجياً رضا الله، طامعاً في ثوابه، خائفاً من غضبه وعقابه.

اللهم اجعلنا من المؤمنين المُتقين الورعين، وثبتنا على الإيمان، وحببِّه إلى قلوبنا، وكرِّه إلينا الكُفر والفُسوق والعصيان.

https://bit.ly/3VlNA7I