الجمعة، 14 يوليو 2017

زائرة غير مرغوب فيها

الجمعة 14 يوليو 2017م

خاطرة الجمعة /٩٢
(زائرة غير مرغوب فيها)

اتصل بي يسألني: "ما أخبارها؟"، قلت له: "تعرف أني اجتماعي بطبعي، ثم بحكم عملي، أحب استقبال الزوار، ومع ذلك وجدت نفسي في موقفٍ لا أُحسد عليه؛ فقد أُضطررت لطردها، واعتبرتها (زائرة غير مرغوب فيها) تفرض نفسها علي فرضاً، أردت في البداية أن أستقبلها بلطف، لكنها أبت إلا أن تكون شرسة!"، قال مستوضحاً: "وكيف ذلك؟"، قلت: "تحضر دون استئذان، ولا تراعي أن حضورها يكون دائماً في الليل عندما يحتاج الإنسان عادةً إلى الراحة والسكينة والهدوء، تقتحم علي خلوتي في حجرة نومي وأنا نائمٌ على فراشي!  في كل مرةٍ تزورني يبدو لي في بداية الأمر أنها لن تفارقني، فهي لا تترك في جسدي موضعاً إلا وتتشبس به وتترك بصمتها عليه، إلا أنها في النهاية تستسلم وتضعف وتتركني بعد أن تكون قواي كلها قد خارت، لا تتركني إلا وقد نالت مني ما تشتهي، أما أنا فلا أحب مثل هذه اللقاءات الملتهبة والساخنة، لكن لا حول بي ولا قوة في ردها، إنها بالفعل (زائرة غير مرغوب فيها) أبداً"، متعاطفاً معي سألني: "قلبي معك، وكيف أنت الآن؟"، قلت له: "اطمئن، أنا الآن باردٌ والحمد لله".
عن الحُمَّى كنا نتحدث! فقد زارتني مراتٍ عدة خلال الفترة الماضية، عانيت منها ما عانيت، حاولت إخراجها من جسدي الذي احتلته بغير إذنٍ ولا رغبةٍ مني، بكل طريقةٍ ممكنة: بالأدوية تارةً، بالأدعية تارةً، وبكمادات الثلج تلف جسمي كله تارةً أخرى. كل ذلك لم يفلح إلا قليلاً، واكتشفت أن أقوى وسيلةٍ تساعد على إضعاف الحمى والتخلص منها هي تبريد الجسم بالماء.

أحبتي في الله .. كلما ارتفعت درجة حرارة جسمي تذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: [الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ]، فالحمى كما يقول العارفون "أنموذج، ورقيقة اُشتقت من جهنم ليستدل بها العباد عليها ويعتبروا بها"، و"فيها تنبيهٌ للنفوس على شدة عذاب النار، وأن هذه الحرارة العظيمة مشبهةٌ بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها"، لذلك قيل في نسبتها إلى جهنم أنه: "حقيقة، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعةٌ من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك".
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [إذَا حُمّ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُشّ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِنْ السّحَر]. وقال عليه الصلاة والسلام: [الْحُمَّى مِنْ فَوْرِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ]. كما قال عليه الصلاة والسلام: [الحمى كِيرٌ من جهنم، فما أصاب المؤمن منها كان حظه من النار]،
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عادَ رَجُلاً مِن وَعَكٍ كان به فقال: [أبشر، فإن الله يقول: هي ناري أسَلِّطها على عبدي المذنب لتكون حظه من النار].  قال مجاهد: "الحمى حظ المؤمن من النار، ثم قرأ: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾، قال: الحمى في الدنيا الوُرُود، فلا يَرِدُها في الآخرة".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حُمَّ دعا بقربةٍ من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل، وكان في مرضه الذي لقى به ربه مصاباً بالحمى، فكان يضع إلى جواره إناءً من ماءٍ باردٍ ويمسح بها وجهه.
يقول الشاعر:
إذَا وَجَدْتُ لَهِيبَ الْحُبّ فِي كَبِدِي
أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ
هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ الْمَاءِ ظَاهِرَهُ
فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الْأَحْشَاءِ تَتّقِدُ
إطفاء الحمى بالماء ضروريٌ ومهمٌ وفعالٌ ومفيد، لكنه قد لا يصلح وحده، كما أنه قد لا يصلح في جميع الحالات؛ يقول أحد العلماء في شرحه للموطأ: "والحاصل أنَّ الحمى أنواع: منها ما يصلح له الإبراد بالماء، ومنها ما لا يصلح، والذي يصلح إبراده بالماء يختلف أيضاً، فمنه ما يصلح أن يُرش بين بدن المحموم وجيبه، أو يُقطر على صدره من السقاء فلا يجاوز ذلك، ومنه ما يحتاج إلى صب الماء على رأسه وسائر بدنه، أو إلى انغماسه في النهر الجاري مرةً فأكثر، وذلك باختلاف نوع المرض، وكما يُختلف بذلك يُختلف أيضاً بحسب اختلاف الفصل، والقطر، والمزاج، فلا يُسوى بين الشتاء والصيف، ولا بين مَنْ مزاجه باردٌ رطبٌ وبين من مزاجه حارٌ يابس، ولا بين من به نزلاتٌ وتحدرات وبين غيره، هذا هو المقرر من قواعد الطب".
والحمى من مكفرات الذنوب؛ ففِي حدِيث أبي هريرة قال: ذُكِرَتْ الْحُمّى عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَبّهَا رَجُلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: [لَا تَسُبّهَا فَإِنّهَا تَنْفِي الذّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ].
قال أبو هريرة: "مَا مِنْ مَرَضٍ يُصِيبُنِي أَحَبّ إلَيّ مِنْ الْحُمّى لِأَنّهَا تَدْخُلُ فِي كُلّ عُضْوٍ مِنّي وَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ يُعْطِي كُلّ عُضْوٍ حَظّهُ مِنْ الْأَجْرِ".

أحبتي .. لما علمت أن الحمى من مكفرات الذنوب فكرت في التراجع عن وصفها بأنها (زائرة غير مرغوب فيها)، لكني لم أجد نفسي مرتاحاً لذلك. والغريب أني وجدت من سبقني إلى هذا الموقف، رغم أن اختياري خالف اختياره، شاعرٌ كان قد وصف الحمى ببيتين قال فيهما:
زَارَتْ مُكَفّرَةُ الذّنُوبِ وَوَدّعَت
تَبّاً لَهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدّعِ
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمْت عَلَى تَرْحَالِهَا
مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْتُ أَنْ لَا تَرْجِعِي
لكنه بعد أن أمعن النظر ورأى مزايا تكفير الذنوب عدَّل في البيتين فصارا:
زَارَتْ مُكَفّرَةُ الذّنُوبِ لِصَبّهَا
أَهْلًا بِهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدّع
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا
مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْت: أَنْ لَا تُقْلِعِي
أما أنا عن نفسي، ليست عندي شجاعة ذلك الشاعر، فلا أستطيع أن أرحب بالحمى مرةً أخرى وأقول لها أهلاً، ولا أستطيع إذا حضرت مرةً أخرى، لا قدر الله، أن أقول لها لا تقلعي! وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يُقَّدر لي طريقةً لتكفير ذنوبي تكون أقل حرارةً، فكفاني ما نابني منها!
عافانا الله وإياكم من المرض، ومتعنا وإياكم بالصحة والعافية والسلامة من كل داء.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/xkdRms