الجمعة، 26 يونيو 2020

وكان أبوهما صالحاً

الجمعة 26 يونيو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٥

(وكان أبوهما صالحاً)

 

قصةٌ حقيقيةٌ يرويها شابٌ سعوديٌ بنفسه فيقول: كنا خمسةً من الشباب وصلنا الصباح ونصبنا خيمتنا على شاطئ البحر، وكالعادة ذبحنا الذبيحة، وجهزنا كل شيءٍ لزوم الأكل والشرب والترويح واللعب والمتعة. بصراحةٍ كنتُ أنا -وأعوذ بالله- الوحيد بينهم الذي لا يُصلي، كان عمري وقتها 21 سنة، لم أركع خلالها ركعةً واحدةً، رغم أن أبي إمام مسجدٍ، وكنتُ أطيعه في كل شيءٍ يقوله ويأمر به إلا الصلاة! لم أسمعه في حياتي -ولله الحمد- يدعو عليّ؛ بل كان يقول دائماً: "يهديك الله ويُصلح حالك". كان يوقظني للصلاة فأخرج أدور بالسيارة وأرجع بعد انتهاء الصلاة، وأبي لا يعلم؛ فهو أول مَن يدخل المسجد وآخر مَن يخرج منه؛ لذلك كان يظن أني أذهب للمسجد بعده لأصلي مع الجماعة ثم أعود إلى المنزل قبله! كنتُ عاصياً لدرجةٍ غير طبيعية.

المهم بعد أن تناولنا طعام الغداء، جهز الشباب عدتهم للنزول إلى البحر في رحلة غوصٍ، وكان لابد أن يبقى واحدٌ منا يجلس في الخيمة، جلستُ أنا حيث لم أكن أجيد الغوص. جلستُ وحدي في الخيمة، وكانت بالقرب من خيمتنا خيمةٌ أخرى بها شبابٌ، قام أحدهم وأذَّن؛ فرأيتهم يتجهزون للصلاة، قلتُ -تجنباً للإحراج- أنزل للسباحة في البحر حتى ينتهوا من صلاتهم. لبستُ زي السباحة ونزلتُ إلى البحر، مشيتُ إلى أن وجدتُ منطقةً تصلح للسباحة؛ لا هي عميقةٌ ولا هي قريبةٌ من الشاطئ. سبحتُ وسبحتُ وسبحتُ، إلى أن تعبتُ فقلتُ في نفسي: الأفضل أن أنام على ظهري واسترخي بجسمي لأرتاح قليلاً ثم أرجع، نمتُ على ظهري بالفعل وجلستُ أطفو، وأنا في غاية الاستمتاع، فجأة أحسستُ كأن شيئاً يسحبني إلى القاع، وإذا بي أنزل من تحت سطح الماء إلى الأعماق، حاولتُ بكل جهدي أن أقف على الأرض وأدفع نفسي إلى الأعلى، ظاناً أن المسافة تحتي مترين تقريباً، لكني اكتشفتُ أنني وأنا أسبح بعدتُ ونزلتُ في جُرفٍ ودوامةٍ دون أن أدري، ووصلت إلى منطقةٍ عمقها حوالي خمسة أمتار، حاولتُ الخروج من هذه الدوامة فلم أستطع؛ أحسستُ كأن شخصاً يُمسك بي من رأسي ويدفعني تحت الماء بقوة، حاولتُ بكل الطرق التي تعلمتها في النادي ولم أستطع، كنتُ في حالةٍ لا أُحسد عليها، خائفاً مضطرباً إلى أقصى حدٍ، وأحسستُ أني لا شيء، أحسستُ وقتها أني أضعف من ذبابة. بدأ النفَس يضيع، وأُحسستُ بالدم يحتقن في رأسي؛ فأيقنتُ أن الموت يقترب مني! بدأت أتذكر أبي وأمي وإخواني وأقاربي وأصحابي والجيران والعامل في البقالة وكل شخصٍ مرَّ عليّ بحياتي، تذكرتُ كل شيءٍ سويته، كل ذلك في ثوانٍ معدودةٍ، تذكرتُ بعدها نفسي! بدأتُ اسأل نفسي: صليت؟ لا، صُمت؟ لا، حجيت؟ لا، تصدقت؟ لا. أنت في طريقك إلى ربك مفارقٌ لدنياك مودعٌ أصحابك، ماذا تقول عندما تلقى الله؟

فجأةً سمعتُ صوت أبي وهو يناديني باسمي ويقول: "قُم صلِ"، تكرر الصوت بأذني ثلاث مراتٍ بعدها سمعتُ صوته وهو يؤذن، أحسستُ أنه سوف يأتي لإنقاذي؛ صرتُ أنادي عليه وأصيح

باسمه، والماء يدخل في فمي، أصيح وأصيح، وما من مُجيب. أحسستُ بملوحة الماء تتسلل إلى أعماق جسمي، وبدأ النَفَس يتقطع؛ فتأكدتُ أنها سكرات الموت، وأني أشرفتُ على الهلاك، حاولتُ أن أنطق بالشهادتين؛ قلتُ: أشهـ..... أشهـ..... ولم أستطع أن أكملها كأن هناك يداً قابضةً على حلقي تمنعني من نُطقها، أحسستُ أن روحي بدأت تخرج من جسدي، وتوقفتُ عن الحركة.

هذا آخر شيءٍ كنتُ أتذكره، استيقظتُ فإذا أنا في الخيمة، يقف عند رأسي جنديٌ من خفر السواحل والشباب الذين لهم خيمةٌ قريبةٌ من خيمتنا، عندما فتحتُ عينيّ قال لي الجندي: "حمداً لله على السلامة" ثم مشى، سألتُ الشباب: "مَن هذا؟ ومتى جاء؟ وكيف؟"، قالوا لا ندري، جاء فجأةً وأخرجك من البحر، ثم مشى فجأةً كما رأيتَ"، سألتهم: "هل رأيتموني وأنا في الماء؟"، قالوا مع إننا كنا على الشاطئ فإننا -قسماً بالله- لم نرك! ما شعرنا بك إلا عندما جاء هذا الجندي من خفر السواحل وأخرجك من البحر، علماً بأن مركز خفر السواحل يبعد عن خيمتنا حوالي عشرين كيلو متراً في الطريق البري، ويحتاج ما لا يقل عن ثلث ساعة حتى يصل إلينا إذا وصله بلاغٌ منا، وحادث غرقك حدث في دقائق معدودةٍ!

هؤلاء الشباب -وهم أقرب الناس مني وقتها- يحلفون أنهم لم يروني ولم يبلغوا خفر السواحل؛ فكيف رآني هذا الجندي ووصل إليّ من ذلك المكان البعيد ثم أنقذني وانصرف؟! أقسم بالله الذي خلقني أني إلى يومي هذا لم أجد إجابةً عن هذا السؤال!

رنَّ هاتفي الذي كنتُ قد تركته مع أغراضي، فتحتُ الخط فإذا هو صوت أبي، بدأت الأمور تزداد غموضاً؛ قبل قليلٍ سمعتُ صوته يقول: "قُم صلِ" والآن يتصل؟! سألني: "كيف حالك؟ ما أخبارك؟ هل أنت بخير؟"، وكرر ذلك أكثر من مرةٍ، طمأنته، ولم أخبره بما حدث لي حتى لا يقلق، لكني كنتُ في حالة صدمةٍ وذهول. أنهيتُ المكالمة وقمتُ صليتُ ركعتين -في حياتي ما صليت مثلهما- ركعتين صليتهما في نصف ساعةٍ، ركعتين صليتهما بقلبٍ صادقٍ خاشعٍ، وبكيتُ فيهما حتى بُحّ صوتي. عاد أصدقائي من الغوص، وعلموا بما حدث، وأصابهم -كما أصابني وأصاب الشباب الآخرين- الذهول، وشاهدوا حالي فقرروا العودة فوراً.

رجعتُ إلى البيت، طرقتُ الباب فإذا أبي هو الذي فتح لي الباب، نظر إلى وجهي وقال: "تعال معي"، أخذني إلى غرفته، وكنا بمفردنا أنا وهو، قال لي: "أمنتك وسألتك بالله، ماذا صار معك عصر اليوم؟"، تفاجأتُ بالسؤال، واندهشتُ وارتبكتُ حتى أني لم أنطق ببنت شفة! أحسستُ كأن لديه خبراً عما حدث. كرر السؤال مرتين. حكيتُ له ما حدث، قال: "واللهِ إني سمعتك تناديني وأنا ساجدٌ السجود الثاني في آخر ركعةٍ وكأنك في مصيبةٍ، تناديني بصياحٍ، وأحسستُ بأن قلبي يكاد ينخلع من بين ضلوعي وأنا أسمع صوتك، سجدتُ ودعيتُ لك كعادتي، لكن هذه المرة قلتُ: ربِ أستودعك ولدي؛ جسده وقلبه وإيمانه فاحفظه ولا تُريني فيه مكروهاً يبكيني"، فاختنقتُ وقتها وحضنتُ أبي وبكيت.

من يومها وأنا مواظبٌ على الصلاة مع الجماعة في المسجد، حتى أنني أسبق أبي في بعض المرات في الذهاب، وأظل بالمسجد بعد أن يغادره أبي في مراتٍ أخرى! وصرتُ أجد لذةً في الصلاة وفي الذكر وفي الدعاء. ومع ذلك ما زال يتملكني إحساسٌ بالتقصير، وأني مهما فعلتُ فلن أوفي الله حقه حمداً وشكراً وثناءً، وما يزال أمر ذلك الجندي من خفر السواحل الذي أنقذني يحيرني حتى الآن!

 

أحبتي في الله .. هذه قصةٌ حقيقيةٌ حدثت لأحد الشباب فكتب عنها، ونشر ما كتب على شبكة الإنترنت، كي يتعظ منها غيره. عرضتها عليكم كما كتبها بعد إعادة صياغة بعض الكلمات والعبارات، وإدخال تعديلاتٍ طفيفةٍ عليها.

 

ربما كان أكثر ما شغل هذا الشاب ذلك الجندي من جنود الرحمن الذي ظهر فجأةً؛ فأنقذه ثم مضى في حال سبيله!

 

أما أكثر ما شغلني أنا من ذات القصة فهو كيف أن صلاح الآباء يفيد الأبناء؛ فسبحان الحكيم الخبير؛ الذي علم بأن في قلب هذا الشاب بذرة صلاحٍ يمكن أن تُنبت وتُزهر وتفوح بعطر الإيمان، فاستجاب سبحانه لدعاء الأب الصالح وهو ساجدٌ خاشعٌ متبتلٌ يدعو الله بإخلاصٍ وكأنما في خاطره ووجدانه قول ربنا تبارك وتعالى: (وكان أبوهما صالحاً). وسبحان من يُسبب الأسباب، ويُقدر المقادير.

 

يقول تعالى في قصَّة نبي الله مُوسَى عليه السَّلام حين كان مع العبد الصَّالح: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾، ثم بيَّن الحكمة من ذلك بقوله: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾، يقول المفسرون إن في ذلك دليلاً على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجةٍ في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن، ووردت به السنّة. قيل إن الأب المذكور في سورة الكهف هو الجد السابع أو العاشر. وقيل: "حُفظ الغلامان بصلاح أبيهما، وإن لم يُذكر لهما صلاحاً".

 

في موضعٍ آخر يقول تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾، قال بعض المفسرين: "فِيهِ إِرْشَادٌ لِلآبَاءِ الذِينَ يَخْشَونَ تَرْكَ ذُرِّيةٍ ضِعَافٍ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ في سَائِرِ شُؤُوْنِهِم حَتَّى تُحْفَظَ أَبْنَاؤُهُم وَتُغَاثَ بِالعِنَايَةِ مِنْهُ تَعَالى، وَفِيه تَهْدِيدٌ بِضَيَاعِ أَوْلَادِهِمْ إِنْ فَقَدُوا تَقْوَى اللهِ تَعَالى، وإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَقَوَى الأُصُولِ تَحْفَظُ الفُرُوعَ".

 

وعن معنى (وكان أبوهما صالحاً) يقول المتخصصون إن صلاح الآباء واستقامتهم له دورٌ كبيرٌ في صلاح الأبناء وتوفيقهم؛ ذلك أن للآباء دوراً كبيراً في تنشئة الأبناء، وأثرا عميقاً في صلاحهم، والوالد مرآة ابنه ومحل النظر الأول في الأسوة والقدوة؛ فصلاح الأبناء مرتبطٌ بصلاح الآباء، وإذا فسد الآباء فسد الأبناء، فلا يستقيم الظل والعود أعوج. إن عزل سلوكياتنا الخاطئة وأخلاقنا السيئة وذنوبنا ومعاصينا -حتى لو كانت خفيةً- عن تربية أبنائنا وعدم استشعار أثر هذه السلوكيات على صلاح أبنائنا، فيه نوعٌ من القصور في مفهوم التكامل التربوي؛ فقد نُحرم صلاح الأبناء بسبب ذنبٍ خفيٍ داومنا عليه، أو كسبٍ حرامٍ أصررنا على كسبه، أو عقوقٍ للوالدين، أو قطع رحمٍ أمر الله بها أن تُوصل، أو غير ذلك من الذنوب.

 

يقول أحد التابعين: “إني لأذنب الذنب فأرى أثر ذلك الذنب على ولدي”.

ويقول آخر: “إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي”، يريد بذلك أن يصل إلى مرتبة الصالحين، فينال بصلاحه صلاح أبنائه من بعده.

 

أحبتي .. ليس منا أبٌ إلا ويحب أبناءه حباً كثيراً كبيراً يجعله يفضلهم على نفسه؛ فحبنا لهم من الفطرة التي فطرنا الله عليها. ولا يقتصر حبنا لهم على تعبيرنا عن ذلك بالكلام، ولا بإظهار المشاعر والعواطف، ولا برعايتنا لهم مادياً وتربوياً، بل إن حبنا لهم لا يكتمل إلا بحرصنا على إصلاح أنفسنا، والتزامنا تقوى الله؛ فعلينا أن نضع نصب أعيننا قوله تعالى: (وكان أبوهما صالحاً) وألا نُفوِّت دقيقةً واحدةً من حياتنا إلا ونزداد فيها صلاحاً بأداء العبادات المفروضة والمزيد من النوافل والذكر والدعاء وأعمال الخير والبِر. ولنتذكر أنه كلما زاد صلاحنا كلما زاد انتفاع أبنائنا بهذا الصلاح، في حياتنا وبعد انتهاء آجالنا.

وكما أن صلاحنا ينفع أبناءنا، فإنه -من باب أولى- يعود بالنفع علينا نحن الآباء في الحياة الدنيا مهابةً وعزاً، وفي جنة الخلد -بإذن الله ورحمته- ثواباً وأجراً وعلواً في الدرجة.

اللهم يَسِّر لنا طريق الصلاح، ومهده لنا وخُذ بيدنا فيه، واجعل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، وانفع بها أبناءنا ونحن معهم ومن بعد انتهاء آجالنا.

 

https://bit.ly/2BcQkim