الجمعة، 22 يناير 2021

نعمة الرضا

 

خاطرة الجمعة /275


الجمعة 22 يناير 2021م

(نعمة الرضا)

 

‏قصتنا اليوم رواها الشيخ محمد متولي الشعراوي، رحمه الله؛ قال:

كنتُ عائداً إلى بيتي قبل المغرب بساعة في يومٍ من أيّام رمضان فاستوقفني رجلٌ فقيرٌ من الذين يتردّدون على درسي في المسجد تردُّدَ الزائر، فسلّم عليّ بلهفةٍ أدمعت عينيَّ وقال لي: "أستحلفك بوجه الله أن تُفطر عندي اليوم"! يقول الشيخ: عقدتْ لساني لهفته، وطوّقت عنُقي رغبتُه، وأشرق في قلبي وجهٌ استحلفني به؛ فقلتُ له: "يا أخي، الأهل بانتظاري وظروفي لا تسمح"، يقول الشيخ: لكني وجدتُ نفسي أتبعه إلى بيته الذي لا أعرف مكانه، ولا أعرف ظرفه في هذا الوقت الحرج من موعد الإفطار!‏

وصلنا إلى بيته، فإذا هو غرفةٌ ومطبخٌ وفناءٌ صغيرٌ مكشوفٌ على سطحٍ اشتراه من أصحابه، وله مدخلٌ ودرجٌ خاص من الخشب لا يحتمل صعود شخصين، فخشباته تستغيثُ من وهَنٍ خلَّفَهُ بها الفقر والقِدَم. ‏كانت السعادة تملأ قلب الرجل، وعبارات الشكر والامتنان تتدفّق من شفتيه وهو يقول: "هذا البيت مِلكي، والمُلك لله، لا أحد في الدنيا له عندي قرش، انظر يا سيدي، الشمس تُشرق على غرفتي في الصباح، وتغرُب من الجهة الثانية، وهنا أقرأ القرآن عند الفجر وقبل المغيب، والله يا سيدي كأني أسكن في الجنّة". ‏يتابع الشيخ: كل هذا يجري على مسامعي وأنا أصعد على الدرج بحذرٍ، وصلنا الغرفة وذهب الرجل إلى زوجته، وسمعتُه يقول لزوجته بصوتٍ خافتٍ: "جهزي الفطور؛ الشيخ سيفطر عندي اليوم"، وصوت زوجته تقول له: "والله، ما عندنا غير فول، ولم يبق على أذان المغرب إلاّ نصف ساعة، ولا شيء عندنا نطبخه". يقول الشيخ: سمعتُ هذا الحوار كله، فلما جاء صاحب الدار قلتُ له: "يا أخي، لي عندك شرطٌ، أنا أفطر مع أذان المغرب على ماءٍ ومعي التمر، ولا آكل إلاّ بعد نصف ساعةٍ من الأذان، بعد ما أهضم التمر والماء، وأصلّي وأُنهي وِرْدي اليومي، ولا آكل إلاّ الفول المدمّس والبطاطس". فقال الرجل: "أمرك". ‏يقول الشيخ: لقد اخترتُ البطاطس لأنها زادُ الفقراء، وأحسبها عندهم. وقد خرجتُ وكلّي سعادةٌ وبهجةٌ، وقد أحببتُ الدنيا من لسان هذا الرجل الذي ما نزلتْ من فمه إلا عباراتُ الثناء والحمد على نِعم الله وعلى هذا البيت الذي ملّكَهُ الله إيّاه، وهذه الحياة الجميلة التي يتغنّى بها. ‏

يقول الشيخ: ثم دُعيت بعد أيامٍ مع مجموعةٍ من الوجهاء على الإفطار عند أحد التجّار، وكان ممن أنعم الله عليهم بالمال والجاه والأولاد والحسب والنسب، وكانت الدعوة في مزرعةٍ فخمةٍ يملكها، فيها ما لذّ وطاب، يتوسّطها منزلٌ أقرب ما يكون للقصر، يُطلُّ على مسبحٍ ومرْبَط خيلٍ فيه نوادر الخيل الأصيلة. ‏أفطرنا عند الرجل وأثناء المغادرة، انفرد بي، وشكى لي من ضيق الحياة وهموم التجارة، وسوء طباع زوجته، وطمع من حوله، وكثرة المصاريف لإرضاء الجميع، وسأَمِه من هذه الحياة، ورغبته بالموت! يقول الشيخ: من باب المنزل، إلى باب سيارتي، سوَّد هذا الرجل الدنيا في عيوني، وأطبق عليَّ صدري وأنفاسي؛ فنظرتُ إلى السماء بعد أن ركبتُ بسيّارتي وأنا أقول في قلبي: الحمد لله على (نعمة الرضا)؛ فليست السعادةُ بكثيرٍ ندفع ثمنه، ولكن السعادةُ حُسنُ صِلَةٍ بالله ورضىً بما قسم لنا عزّ وجل. اللهم اجعلنا من أهل القناعة، وارزقنا إياها يا رب العالمين.

 

أحبتي في الله .. عن (نعمة الرضا) يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيَّهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾.

 

قالوا عن (نعمة الرضا): "الرِّضا سُكونُ القلبِ باختيارِ الله للعبد، وأن ما اختارهُ الله له هو الأحسنُ فيرضَى به"، "الراضي مَن لم يندَم على ما فاتَ من الدنيا ولم يتأسَّف عليها"، "مَن رَضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطهُ أحدٌ، ومَن قنِعَ بعطائه لم يدخله حسدٌ"، "من اتَّكَل على حُسن اختيار الله لم يتمنَّ غيرَ ما اختارَ الله له". وهذا أحد الصالحين يوصي ابنه قائلاً: "أوصيك بخصالٍ تُقرِّبك من الله، وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تُشرك به شيئًا، وأن ترضى بقَدَر الله فيما أحببتَ وكرهتَ”. وهذا آخر يوصي غيره فيقول: "إن الخير كله في الرضا، فإن استطعتَ أن ترضى وإلا فاصبر"، "الرِّضَا آخِرُ التَّوَكُّلِ؛ فَمَنْ رَسَّخَ قَدَمَهُ فِي التَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ حَصَلَ لَهُ الرِّضَا". وأما عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقد قال: "ما ابتُليتُ ببليةٍ إلا كان لله عليَّ فيها أربعُ نِعم: إذ لم تكن في ديني، وإذ لم أُحرم الرضا، وإذ لم تكن أعظم منها، وإذ رجوتُ الثواب عليها".

 

قال العلماء إن الرّضا نوعان: أحدهما الرّضا بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات برضا وقناعة؛ ففعل الطاعات واجتناب المنهيات وسيلةٌ لنيل رضا الله عزَّ وجلَّ، فإذا أردتَ أن تعرف عند الله مقامك فانظر على أي شيءٍ أقامك؛ فلو أنت مقيمٌ على الرضا فالله راضٍ عنك، ولو أنت مقيمٌ على السخط فالله ساخطٌ عليك، إذا أردتَ أن يرضى الله عنك فارضَ أنت عنه أولاً بالطاعة والعبادة؛ إن فعلتَ ذلك فقد رضي الله عنك.

أما النوع الثّاني فهو الرضا بالمصائب، كالفقر والمرض والذّلّ وغير ذلك من نوائب الدهر وصروفه؛ فلن يبلغ العبد مقام الرضا حتى يفرح بالنقمة فرحه بالنعمة.

وقال الشاعر:

تَقَنَّعُ بِما يَكْفيكَ والتَمِسْ الرِّضا

فإنَّكَ لا تَدْري أتُصْبِحُ أمْ تُمْسي

فليسَ الغِنَى عن كَثْرَةِ المالِ إنَّما

يكونُ الغِنَى والفَقْرُ مِنْ قِبَلِ الَّنَفْسِ

 

وعن الأسباب المُعينة على اكتساب الرضا يقول العارفون إن منها: الإيمان الجازم بأن الله تعالى هو الرزاق، والاعتقاد بأن الله سبحانه جعل التفاوت في الأرزاق بين الناس لحكمةٍ يعلمها، وأن ينظر المرء إلى من هو دونه في أمور الدنيا، والعلم بأن الفقر والغنى ابتلاءٌ وامتحان، وتذكُّرُ العبدِ أن الدنيا إلى زوالٍ وأن متاعها إلى فناء، والاقتداء بأصحاب القناعة والرضا والاطلاع على أحوالهم، والدعاء أن يرزقك الله الرضا، وملازمة طريق الطاعة والبعد عن طريق المعصية.

ويقولون إن من ثمرات الرضا وفوائده في الدنيا والآخرة: تحقيق الغنى الكامل؛ فالغنى في الرضا والقناعة والفقر في السخط والطمع. تذوق حلاوة الإيمان؛ لقول رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسْلامَ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً]. الرضا سبيلٌ لمغفرة الذنوب؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا؛ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ]. البشارة بالجنة؛ يقول تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، ويقول تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾. الفوز برضا الله في الآخرة؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أهلَ الجنةِ فيقولونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا]. وتحقيق السعادة؛ فصاحب الرضا يعيش في سعادةٍ وعيشةٍ راضيةٍ يتقلب بين الصبر والشكر، والقوة واليقين، لسانه بين الذكر والحمد، أما الساخط فيكون حاله مُضطربًا، ووضعه مُحزنًا، يتقلَّب بين حُزنٍ وهمٍّ، وبين شقاءٍ وتعبٍ، وغمٍ ونَصَب.

وصَوَّرَ الشاعر حال من حُرم الرضا فقال:

صغيرٌ يطلبُ الكِبرا

وشيخٌ وَدَ لو صَغُرا

وخالٍ يشتهي عملا

وذو عملٍ به ضَجِرا

وربُ المالِ في تعبٍ

وفي تعبٍ مَن افتقرا

وذو الأولادِ مهمومٌ

وطالبهم قد انفطرا

 

وورد في الخبر "إذا أحب الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضى اصطفاه". و(نعمة الرضا) من أفضل نعم الله عزَّ وجلَّ على الإنسان؛ فالرضا -كما يقول أهل العلم- أساسٌ من أُسس كمال الإيمان لا يكتمل إسلام العبد ولا يتذوق طعم الإيمان حتى يرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً. وقلة الرضا سببٌ لتعاسة الإنسان في هذه الحياة، وسببٌ لهجوم الهموم والغموم عليه. ولا نصل إلى الرضا إلا إذا اعتقدنا بكمال الله سبحانه وتعالى، وبإحسانه إلى عباده، وأن علينا أن نرضى بقضائه؛ لأن حكمه عدلٌ، لا يفعل إلا خيراً وعدلاً، ولأنه لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له.

والوصول إلى الرضا يكون بمجاهدة النفس على زيادة الإيمان، وتسليم الأمر لله تعالى، حتى يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

 

أحبتي .. من عاش منا راضياً فقد أُوتي نعمةً عظيمةً من نِعَم الله، هي (نعمة الرضا)؛ فليحمد الله عليها، وليحرص على أن تكون ملازمةً له في كل أحواله، يُسره وعُسره، سعادته وشقائه. ومن أحس منا بأنه قليل الرضا، أو أنه يرضى في حالات اليسر والسعادة، ويسخط في حالات العسر والشقاء؛ فليراجع نفسه، فلن يكتمل إيمانه إلا بالتسليم الكامل لمشيئة الله سبحانه وتعالى، وعليه أن يدعو ربه أن يرزقه (نعمة الرضا) ويجاهد نفسه الأمارة بالسوء حتى ترضخ وتقبل وترضى بما قسمه الله له.

هدانا الله جميعاً لما فيه رضاه، فإذا رضي عزَّ وجلَّ أرضانا، وأدهشنا عطاؤه بعد الرضا.

 

https://bit.ly/3pcD7tB