الجمعة، 12 أغسطس 2022

الميثاق الغليظ

 

خاطرة الجمعة /356


الجمعة 12 أغسطس 2022م

(الميثاق الغليظ)

 

كتب يقول: تشاجرتُ كالعادة مع زوجتي لأحد الأسباب التافهة، وتطور الخلاف إلى أن قلتُ لها: "وجودك وعدمه واحدٌ في حياتي؛ وكل ما تفعلينه تستطيع أي خادمةٍ أن تفعل أفضل منه"، فما كان منها إلا أن نظرت إليّ بعينٍ دامعةٍ، وتركتني، وذهبت إلى الغُرفة الأُخرى، وتركتُ أنا الأمر وراء ظهري بدون أي اهتمامٍ، كأن شيئاً لم يكن وخلدتُ إلى نومٍ عميقٍ. مرّ هذا الموقف على ذهني، وأنا أُشيّع جثمان زوجتي إلى قبرها، والحضور يُقدمون لي العزاء على مُصابي فيها. الشيء الذي راودني هو أني لم أشعر بفرقٍ كبيرٍ، ربما شعرتُ ببعض الحُزن، ولكني كنتُ أُبرر ذلك بأن العشرة لها وقعٌ على النفس، و"يمر يومان وسأنسى كل ذلك".

عدتُ إلى البيت بعد انتهاء مراسم العزاء، ولكن ما إن دخلتُ البيت حتى شعرتُ بوحشةٍ شديدةٍ تعتصر قلبي، وبغُصةٍ في حلقي لا تُفارقه. أحسستُ بفراغٍ في المنزل لم أعتده، وكأن جدران البيت غادرت معها. استلقيتُ على السرير مُتحاشياً النظر إلى موضع نومها. بعد ثلاثة أيام انتهت مجالس التعزية، استيقظتُ في الصباح متأخراً عن ميعاد العمل؛ فنظرتُ إلى موضع نومها لأُوبخها على عدم إيقاظي باكراً كما اعتدتُ منها، ولكني تذكرتُ أنها قد تركتني إلى الأبد، ولا سبيل إلا أن أعتمد على نفسي، لأول مرةٍ منذ أن تزوجتها. ذهبتُ إلى عملي، ومرّ اليوم عليّ ببطءٍ شديدٍ، ولكن أكثر ما افتقدتُه هو مُكالمتها اليومية؛ لكي تُخبرني بمُتطلبات البيت، يتبعها شجارٌ معتادٌ على ماهية الطلبات، ثم تُنهي المُكالمة بعبارتها المعتادة "لا تتأخر كثيراً"، فكرتُ أنه بالرغم من أن هذه المُكالمة اليومية كانت تُزعجني، ولكني لم أفكر قط في أن طلبها مني ألا أتأخر قد يكون بسبب حُبها لي، أتذكر كلماتها تلك؛ لكني لم أكن أُترجمها على هذا النحو أبداً، بل كنتُ أتعمد التأخير عنها بزيارة أصدقائي ثم أعود إلى البيت، وقلبي يتمنى أن يرى ابتسامتها الصافية تستقبلني على الباب، وأن أسمع جُملتها المُعتادة: "هل أحضرتَ كل ما طلبتُ منكَ إحضاره؟"، ويكون ردي في كل مرةٍ: "انظري بنفسك إلى ما في الأكياس, لن تجدي شيئاً ناقصاً!". كنتُ أعتبر سؤالها هذا كأنه سوء استقبالٍ، لكني الآن أشتاق إلى سماعه، ولو لمرةٍ واحدةٍ؛ فالبيت أصبح خاوياً لا روح فيه، الدقائق تمر عليّ -وأنا وحيدٌ- كأنها ساعات.

يا الله، كم تركتها تقضي الساعات وحيدةً يومياً بدون أن أفكر في إحساسها؟ كم أهملتها وكنتُ أنظر إلى نفسي فقط دون أن أنظر إلى راحتها وسعادتها؟ كم فكرتُ فيما أُريده أنا، لا ما تُريده هي، وزاد الأمر عليّ حين مرضتُ؛ كم افتقدتُ يديها الحانيتين ورعايتها لي، وسهرها بجانبي إلى أن يُتم الله شفائي؟ كأنها أمي وليست زوجتي!

وبكيتُ كما لم أبكِ من قبل، ولم أفتأ أُردد "يا رب ارحمها بقدر ما ظلمتُها أنا". وظللتُ هكذا حتى صرعني النوم ولم أفق إلا على رنين جرس المنبه فاعتدلتُ في فراشي.

ولكن مهلاً.. تمتمتُ بكلمات الشكر لله تعالى: "يا الله، إنه مُجرد حلمٍ، بل كابوس، الحمد لك يا رب؛ لم يحدث شيءٌ من هذا في الواقع". هُرعتُ إلى الغرفة التي بها زوجتي، اقتربتُ منها -وقلبي يكاد يتوقف من الفرح- وجدتُها نائمةً ووسادتها مُغرقةٌ بالدموع، أيقظتها؛ فنظرت إليّ باستغرابٍ لا يخلو من العتاب، لم أتمالك نفسي وأمسكتُ بكلتا يديها وقبلتهما، ثم نظرتُ إليها بعينٍ دامعةٍ، وقلتُ لها من كل قلبي: "أنا أحبك، اكتشفتُ أني لا أستطيع الحياة بدونك. ولكن مما تبكين يا عزيزتي؟"، قالت: "خفتُ عليكَ كثيراً عندما وجدتك تتنفس بصعوبةٍ، يبدو أنك كنتَ تحلم حلماً مُزعجاً".

 

علّق كاتب هذه القصة عليها بقوله: للأسف؛ الكثير منا لا يُدرك قيمة الأحبّة في حياته حتى يفتقدهم. إن كان عندك مخزونٌ من العاطفة والمودة فانثرها على أحبابك ما دمتَ بينهم، وإلا بعد الفراق فليس للعواطف والمشاعر قيمةٌ في غيابهم.

 

أحبتي في الله.. هذا زوجٌ كان يُسيء مُعاملة زوجته، ويجرح مشاعرها، ولم يُراعِ ما بينهما من (الميثاق الغليظ) إلى أن هداه الله. وهناك أزواجٌ تعدى سلوكهم مع زوجاتهم إساءة المُعاملة، وتجاوز جرح المشاعر، ووصل لما هو أبعد من ذلك؛ فهذه زوجةٌ عانت من إخلال زوجها بواجباته نحو (الميثاق الغليظ) الذي يربط بينهما، نشر قصتها أحد الأفاضل؛ فكتب يقول:

كانت تسترجع ذكرياتِ زواجها الذي دام خمسةَ عشرة عاماً بجماله ومُغامراته، بإنجازاته وإخفاقاته. كانت سعيدةً بما حققته هي وزوجُها في تلك السنين المنصرمةِ من توافقٍ وانسجام، من إخلاصٍ ووفاء، من بذلٍ وعطاء. كانت له فيها نعم المرأةُ، ذات الدينِ والخُلُق، ذات الجمالِ والدلال، ذات القلبِ الطاهرِ والعقلِ الناضج. وكان لها فيها ذلك الرجلَ المُحبَّ الوفي، الحنونَ الخلوق، الكريمَ المعطاء. كم كان كبيراً حظُّهما حين عثر عليها وعثرت هي عليه. كم كانت سعادتُهما لا توصفُ حين ارتبطا معاً. فهو لم يعثرْ على نصفِه الثاني ومليكةِ قلبِه فحسب، بل عثر على من حفِظت نفسَها وشبابَها من أجله. عثر على من حفرت اسمَهُ في صدرِها وحلفَت يميناً بأن لا تخونَ في حُبها.

بعد تلك السنينَ الطوال، بعد تلك السنينَ الحِسان، بعد التفاني في الحُب والعطاء، بعد كلِّ البذلِ والسخاء، فُجِعت بما لم يكن في الحُسبان. فُجِعت بالخبر الذي هزَّ كيانها، فجّر بركانها وأشعل نيرانها. علمت بأن رفيق عُمرِها قد خانها. شعرت حينها بالخُذلان، بالنُكران. شعرت بانهيار ذلك الصرح العظيم الذي لبِثت في بنائه سنين. إن الخيانةَ الزوجيةَ من الرجل أو المرأة على حدٍّ سواءٍ هي من أقوى الأسبابِ التي تهدمُ البيوت وتملأ الحُرقةَ في الصدور.

كم آنس القرآنُ وِحدتَها، وكم سهِرَتِ الليالي جافيةً مضجعَها، شاكيةً إلى الله حُرقتَها. كم تفطرتِ الأرضُ على بكائِها وتصدّعتِ الجُدرانُ لنحيبِها. كانت بينها وبين نفسها تتساءل، كما لو كانت تُكلم زوجها: أتخونُ بعد هذا العهد؟ أتخونُ بعد هذا (الميثاق الغليظ)؟ أتخونُ بعد هذا الحُب؟ أتخونُ بعد هذه التضحية؟ أتخونُ بعد هذه العِشرة؟ أتخونُ الشمعةَ التي احترقت كي تُضيءَ حياتَك وحياةَ أبنائك؟! أتخونُ من قطَفْتَ زهرةَ شبابِها؟! أنسيتَ التي مهّدتْ لك الطّريقَ وواستكَ حالَ الضيق؟! أنسيتَ من طبّبتك حين مرِضتَ وشجعتك حين يئست؟! أما تفكّرتَ في حالِ الأرواحِ التّي من صُلبِك خُلِقت، وفي بيتِك نشأَت، وبك ارتبطت؟! أما تخشى عليهم تلك الكسرة؟! أما عُدتَ تأبه بتلك العَبرة؟! أما تخشى الحسابَ يومَ الحسرة؟!

 

العلاقة بين الزوج وزوجته من أهم العلاقات، اختار الحق سبحانه وتعالى تعبير (الميثاق الغليظ) وصفاً لها؛ يقول تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ ووُصِفَ الميثاق بالغِلظة في هذه الآية الكريمة لقوته وعظمته، ولأهميته في بناء الأُسرة. و(الميثاق الغليظ) هو العهد الذي أُخذ للزوجة على زوجها عند عقد النكاح؛ وهو في معاجم اللغة "العهد الوثيق القويّ على الوفاء".

وعن تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ قال المُفسرون: أيْ: ما وثَّقتم به لهنَّ على أنفسكم من عهدٍ وإقرارٍ منكم من إمساكهن بمعروف ٍأو تسريحهنّ بإحسان.

 

والإمساك بالمعروف قوامه حُسن العشرة، والمودة والرحمة بين الزوجين.

عن حُسن العشرة يقول تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾. وقال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [خَيرُكم خَيرُكم لأهلِه، وأنا خَيرُكم لأهلي]. وقال عليه الصلاة والسلام: [استوصوا بالنِّساءِ؛ فإنَّ المرأةَ خُلِقَت مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعوَجَ شَيءٍ في الضِّلَعِ أعلاه، فإنْ ذهَبتَ تُقيمُه كسَرْتَه، وإن تركْتَه لم يَزَلْ أعوَجَ؛ فاستوصوا بالنِّساءِ].

أما المودة والرحمة؛ فيقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ والمودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض. كما أنّ المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يُصيبها سوء.

 

أحبتي.. عاشروا بعضكم بالمعروف، تنعموا في الدُنيا وتُثابوا في الآخرة. وفي هذا المعنى أختم بما نشره واحدٌ من علمائنا الأفاضل، كتب يقول: ينبغي للإنسان في مُعاشرته لزوجته بالمعروف أن لا يقصد السعادة الدُنيوية والأنس والمُتعة فقط، بل ينوي مع ذلك التقرب إلى الله تعالى بفعل ما يُحب، وهذا أمرٌ نغفل عنه؛ فكثيرٌ من الناس في مُعاشرته لزوجته بالمعروف قصده أن تدوم العِشرة بينهما على الوجه الأكمل، ويغيب عن ذهنه أن يفعل ذلك تقرباً إلى الله تعالى، بأن ينوي بهذا أنه قائمٌ بأمر الله ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، فإذا نوى ذلك حصل له الأمر الثاني، وهو دوام العِشرة الطيبة، والمُعاملة الطيبة، وكذلك بالنسبة للزوجة.

اللهم أعّنا -أزواجاً وزوجاتٍ- على أن نُحسن العِشرة، وأن نحرص على أن تسود بيننا المودة والرحمة، وأن يُراعي كلٌ منا حقوق الطرف الآخر؛ فيُلزم الرجل نفسه بالوفاء بمُتطلبات (الميثاق الغليظ) نحو زوجته، وتُلزم الزوجة نفسها بالوفاء بحقوق زوجها كاملةً غير منقوصة؛ فتعم السكينة بيوتنا، وتُحيط السعادة أُسرنا.

علِّمنا اللهم ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً.

 

https://bit.ly/3JSd9Xj