الجمعة، 1 مارس 2019

مخ العبادة


الجمعة 1 مارس 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٦
(مخ العبادة)


هذه قصةٌ حقيقيةٌ ترويها إخصائية اجتماعية في الشؤون الاجتماعية تقول:
وردني ذات يوم بلاغان أحدهما من مكة والآخر من جدة بالعثور على طفلين لقيطين بجوار مسجدين: واحدٌ في جدة وآخر في مكة. تزايد اللقطاء بدار مكة حتى عجزتْ عن الوفاء بخدماتها. وفي الوقت نفسه يسّر الله لأطفال دار جدة من الأسر الحاضنة ما يسمح لي بنقل أطفال مكة إلى جدة. لاحظتُ شبهاً كبيراً بين الطفل القادم من مكة وأحد الأطفال الموجودين في دار جدة؛ فعدتُ إلى تاريخ العثور عليهما، فكان في نفس اليوم مع فارقٍ زمنيٍ قرابة ساعتين! وكانت إسوارة الولادة مازالت على قدم الطفل. بحثنا في المستشفى عن رقم الطفل فوجدنا أنه توأم لآخر، وأمهما غادرت المستشفى مع زوجها.
أخذنا صورةً من الوثائق وعقد الزواج وعنوان الأم كونها غير سعودية. ثم طلبنا من المستشفى مطابقة بصمتي قدم الطفلين فكانت المفاجأة تطابقهما.
أجرينا التحاليل؛ فكانت النتيجة متطابقة. بدأنا رحلة البحث عن الأم فوجدناها شابةً تسكن مع أمها المشلولة وهي وحيدتها، وظهر لنا أن الأم زوّجتْها لرجلٍ من جنسيتهم يعمل في مكة لعدم وجود من يعيلهم. سألتُها: "ألم تنجبي؟"، قالت: "بلى؛ أنجبتُ توأماً من الذكور". فسألتْها: "أين هما؟"، قالت: "أخذهما والدهما لختانهما ولم يرجعهما. بحثتُ عن زوجي فلم أجده وقد أغلق هاتفه. واكتشفنا أن الأب قد غادر البلاد". أخبرنا الأم بوجود طفليها عندنا، وعندما حضرتْ لترى ولديها كانت تجهش بالبكاء وترتجف وتصيح "أولادي أولادي"! حاولتُ تهدأتها، لم تستطع الجلوس على الكرسي وجلستْ على الأرض. ويشهد الله أنه لم يبق أحدٌ في ذلك اليوم لم يبكِ لبكائها. والغريب أن الطفلين جلسا في حضنها بكل استكانةٍ وهدوء! وابتسامةٌ على وجهيهما. وبعد أن استردّت عافيتها سألتُها: "بالله عليكِ، ماذا دعوتِ به حتى حفظ الله لك وليديك وأعادهما إليكِ؟"، قالت: "عندما أخذهما أبوهما للختان قلتُ: استودعكما الله الذي لا تضيع ودائعه، وبعد أن تأخر وأغلق هاتفه أيقنت أنه هرب بهما لبلادنا فكنت أدعو الله قائلة: "يا جامع أم موسى بوليدها اجمعني بأولادي". كنت أبكي بين يدي الله بحُرقةٍ ولم أعلم أن هذا الأب الظالم سيلقي بأبنائي في المساجد في منطقتين متباعدتين"، قلت لها: "لم يخذلْك الله بهذا الدعاء؛ حفظ ولديك بحفظه وأقرّ عينيك بهما". غادرتْنا الأم ذات العشرين عاماً بطفليها وهي غير مصدقةٍ ما حدث!

أحبتي في الله .. كتب أحد العلماء يقول: للدعاء مكانةٌ ساميةٌ، يتجلى فيه إظهار العبودية والتذلل والافتقار إلى الله، وهو أساس العبادة وسر قوتها وروحها؛ لأن الداعي إنما يدعو الله وهو عالمٌ يقيناً أنه لا أحد يستطيع أن يجلب له خيراً أو يدفع عنه ضراً إلا الله عز وجل. لقد أمرنا الله بالدعاء، حيث قال سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، وقَال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾. وقال عز وجل في الحديث القدسي: {مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ}. يقول أهل العلم أن عطاء الله لا ينفد، وخزائنه لا تفرغ، فكلما سألته جل جلاله كان لديه المزيد، ومهما سألته فإنه لا شيء عزيزٌ عليه سبحانه وتعالى إذا أراد أن يحققه لك.
أما الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، فلنا معها وقفة تأملٍ؛ حيث نلاحظ أن كل الآيات التي وردت فيها كلمة "يسألونك" في القرآن الكريم يأتي بعدها فعل الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم "قُل"، إلا في هذه الآية؛ حتى لا تكون هناك واسطةٌ بين العبد وبين الله عز وجل، ولو كانت هذه الواسطة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن الدعاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ]، وقَال عليه الصلاة والسلام: [الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ]، وقال: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا]. قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ. قَالَ: [اللهُ أَكْثَرُ].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يردد دائماً هذا الدعاء: [اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي].

وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من الإعراض عن الدعاء؛ قال تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ﴾، وقال سبحانه في بقية الآية التي أمرنا فيها بالدعاء ووعدنا بالاستجابة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.

يقول العلماء أن الدعاء بابٌ عظيمٌ من أبواب الخير له عدة مفاتيح، منها: آداب الدعاء التي تكون سبباً للوصول لهذا الخير العظيم إذا اتبعناها ومنها الإخلاص والإلحاح في الدعاء وأن يكون القلب حاضراً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ]. وأن نرفع أيدينا ونبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ونختم بذلك؛ فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ]. وعلينا أن نكون موقنين بالإجابة، ولا نستعجلها حيث يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: [ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ]. ويتوجب علينا ألا نعلي صوتنا كثيراً في دعائنا بل نخفضه بحيث يكون بين المخافتة والجهر. كما أن علينا أن نخشع في دعائنا ونستحضر عظمة الله ورحمته. ومن المفضل أن نستقبل القبلة وأن نكون على طهارة. فضلاً عن أن يكون مطعمنا ومشربنا وملبسنا طيباً؛ فإن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً.
ومن المفاتيح التي يكون الدعاء فيها سبيلاً لتحصيل الخير العظيم أوقاتٌ معينةٌ؛ منها: يوم الجمعة ففيه ساعة إجابة، وليلة القدر، وجوف الليل الأخير، والدعاء بين الأذان والإقامة وبعد كل صلاة، وعند نزول المطر.
كما أن دعاء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب مفتاحٌ من مفاتيح الخير؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ].
ومن الأدعية المستجابة بإذن الله؛ دعاء المظلوم، والمسافر، والإمام العادل، والصائم عند فطره، والولد البار بوالديه، والدعاء للمتوفى.
وهناك أماكن مباركةُ يستحب الإكثار من الدعاء فيها مثل: البيت الحرام، والروضة الشريفة. والدعاء عند شرب ماء زمزم، وعند الطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، وفي مِنى.
من مفاتيح الخير تكرار الدعاء ثلاث مرات، والتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أو بعملٍ صالحٍ يقوم به الداعي نفسه، أو بدعاء رجلٍ صالحٍ له.
ومن توجيهات نبينا الكريم الدعاء في الرخاء والشدة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ؛ فَلْيُكْثِرْ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ]، والحرص على رد المظالم إلى أصحابها.

صحيحٌ أن الدعاء هو (مخ العبادة)؛ فليكن دعاؤنا خالصاً خاشعاً لله سبحانه وتعالى، وليكن لسان حالنا يناجي المولى عز وجل ويقول:
بك أستجيرُ ومن يجيرُ سواكا
فأجِرْ ضعيفاً يحتمي بحماكا
إني ضعيفٌ أستعينُ على
قوى ذنبي ومعصيتي ببعضِ قواكا
أذنبتُ يا ربي وآذتني ذنوبٌ
ما لها من غافرٍ إلاكا
دنياي غرتني وعفوك غَرَّني
ما حيلتي في هذه أو ذاكا؟
رباه قلبٌ تائبٌ ناجاكا
حاشاك ترفضُ تائباً حاشاكا
فليرضَ عني الناسُ أو فليسخطوا
أنا لم أعدْ أسعى لغيرِ رضاكا

أحبتي .. اللهم أمرتنا بالدعاء بدعونا، ووعدتنا بالاستجابة فاستجب لدعواتنا. اللهم لا تكلْنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ، عليك اتكالنا واعتمادنا، ولا ملجأ ولا منجىً منك إلا إليك. اللهم ارزقنا الخشوع والإخلاص في الدعاء، وتقبل دعاءنا عبادةً خالصةً لك؛ فالدعاء كما قيل هو بحق (مخ العبادة).

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


https://goo.gl/Jwnj9N