الجمعة، 3 مارس 2017

تالية

الجمعة 3 مارس 2017م

خاطرة الجمعة/ ٧٣
(تالية)

قلت متلهفاً: "بشرينا"، ردت علي: "خرجت من غرفة الولادة حالاً، وهي والمولودة بخير والحمد لله"، قلت: "اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً، ماذا أسمت مولودتها؟"، قالت: "(تالية)"، قلت: "داليا اسم جميل"، قاطعتني بقولها: "ليس داليا بل (تالية).. يبدو الاسم غريباً، أليس كذلك؟"، قلت مؤكداً: "بلى، فهو اسمٌ غيرُ مألوف، لكن له معنىً جميل؛ تالية للقرآن الكريم بإذن الله"، أتاني ردها مُفرحاً مُبشراً نزل على قلبي برداً وسلاماً: "هذا بالضبط هو سبب التسمية"، قلت لها: "مبروك اسم (تالية)، جعلها الله (تاليةً) لكتابه الكريم حافظةً له ملتزمةً بما فيه، حفظ الله (تالية) وبارك فيها وفي والديها وفيكم".
دار هذا الحوار في محادثة هاتفية الأسبوع الماضي للاطمئنان على أحدث عملية ولادة بعائلتنا.

أحبتي في الله .. أول ما فكرت فيه بعد انتهاء هذه المحادثة، ونحن جميعاً نعرف أن ديننا الحنيف، دين الإسلام، لم يترك لنا شيئاً لنا فيه مصلحة إلا وأوجبه علينا أو حسنه أو حث عليه، وما ترك شيئاً مُضراً لنا إلا وحرمه علينا أو نهانا عنه أو ذمه لنا؛ فهو دين حياة ومنهاجٌ شاملٌ لإصلاح البشر في كل زمانٍ ومكان، فهل يا تُرى توجد في ديننا ضوابط شرعية لتسمية المواليد؟ سؤال دار في خلدي بمناسبة اختيار اسم (تالية) لأحدث مواليد العائلة.
قلت في نفسي: لِمَ لا؟ والإسلام هو دين الفطرة؛ قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وهو ينظم أمور حياتنا في جميع مجالاتها المختلفة والمتعددة؛ قال سبحانه: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾. بحثت في الأمر فوجدت أنه حتى لتسمية المولود توجد آدابٌ شرعيةٌ ينبغي على كل مسلم مراعاتها، رغم أن البعض قد ينظر إلى هذا الموضوع على أنه أمر بسيط وهين، ومع ذلك فإن ما علمته من تلك الآداب بالغ الرقي والتحضر يتسق مع الفطرة السليمة ويضمن حقوق الطفل المولود بأكثر مما توفره التشريعات المعاصرة.
يقول أهل العلم والفقهاء أن الاسم مأخوذٌ من الوسم؛ أي العلامة، وقيل من السموِّ والرفعة، أو هو مأخوذٌ من الاثنين معاً، إنه علامةٌ على صاحبه، وهو سموٌ ورفعةٌ له، واختيارَ الاسم قد يكون سُنةً حسنةً وصدقةً جاريةً، يمتدُّ أثرها ونفعها إلى أجيالٍ متعاقبة، وقد يكون سيئةً جاريةً ينتقل أثرها السيئ إلى جيلٍ بعد جيل. إن الاسم عنوان المسمىَ ودليلٌ عليه وضرورةٌ للتفاهم معه، وهو للمسمىَ زينةٌ ووعاءٌ وشعارٌ يُدعى به في الأولى والآخرة، وتنويهٌ بالدين، وإشعارٌ بأنه من أهل هذا الدين، وهو في طبائع الناس له اعتباراته ودلالاته.
وقال العلماء أن الأصل في الأسماء الإباحة والجواز، غير أن هناك بعض المحاذير الشرعية التي ينبغي اجتنابها عند اختيار الأسماء منها:
التعبيد لغير الله عز وجل، سواء لنبيٍ مرسل أو مَلكٍ مقرب، فلا تجوز تسمية المولود بعبد الرسول أو عبد النبي أو عبد الأمير أو عبد الحسين أو ما شابهها، وهذه الأسماء يجب تغييرها لمن تسمى بها؛ قال الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: {كان اسمي عبد عمرو، وفي رواية عبد الكعبة، فلما أسلمت سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن}.
وكذلك التسمي باسمٍ من أسماء الله تبارك وتعالى التي اختص بها نفسه سبحانه، كأن يسمي الخالق أو الرازق أو الرب أو الرحمن ونحوها، أو باسمٍ لا يصدق وصفه لغير الله عز وجل مثل ملك الملوك، أو القاهر ونحوه، وهذا النوع من الأسماء يحرم التسمي به ويجب تغييره؛ قال الله عز وجل: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إن أخنع اسم عند الله رجل تَسمَّى ملك الأملاك].
وأيضاً التسمي بأسماء الكفار الذين يدينون بغير الإسلام، وهي أسماء خاصة بهم، دالة عليهم دون غيرهم. وكل ما سبق من الأسماء لا يجوز التسمي به بل هو حرام، وعلى من تسمى به أو سماه به غيره أن يغيره.
ويُكره التسمي بما تنفر النفوس من معناه من الأسماء، إما لما يحمله من معنىً قبيحٍ أو مثيرٍ للسخرية، كما أن فيه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بتحسين الأسماء، ومثال ذلك اسم حرب، وغضب، ونحوها من الأسماء التي تحمل معاني قبيحةً وغير حسنة؛ روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وقال: [أنت جميلة]، كما أن قوماً وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعهم يُسمُّون عبد الحجر، فقال له: [ما اسمك؟]، فقال: عبد الحجر، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم: [إنما أنت عبد الله]. ويُكره التسمي بأسماء فيها معانٍ رخوة أو شهوانية، ويكثر هذا في تسمية الإناث. كما يُكره التسمي بأسماء فيها معانٍ تدل على الإثم والمعصية، مثل سارق وظالم، أو التسمي بأسماء الفراعنة والعصاة مثل فرعون وهامان وقارون. وتُكره كذلك التسمية بكل اسمٍ مضافٍ إلى الدين والإسلام، مثل نور الدين وشمس الدين ونور الإسلام وشمس الإسلام، لما فيها من إعطاء المسمى فوق حقه. وتُكره الإضافة إلى اسم الله عز وجل غير عبد الله، وذلك مثل حسب الله، ورحمة الله ونحوه. وكذلك الإضافة إلى لفظ الرسول. ويُكره التسمي بأسماء الملائكة، وكذلك بأسماء سور القرآن مثل طه ويس ونحوها، وهذه الأسماء هي من الحروف المقطعة وليست من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.
والأسماء المكروهة، إنما يكره التسمي بها ابتداءً، أما من سماه أهله بذلك وقد كبر ويصعب عليه تغييرها فلا يجب عليه التغيير.
إن الاسم السيئ الذي لم تُراعَ في اختياره الضوابطُ الشرعيةُ يؤثِّر سلباً على نفسية المولود، حين يشعر بالخجل من اسمه، ويتوارى ويتحاشى ذكره، مما قد يسبب له الانطواء وغيره من الأمراض النفسية؛ نتيجةً لسخرية الآخرين؛ فالإنسان كائن اجتماعي يتأثر ويؤثر فيمَن حوله. ورد في الأثر أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الولد وأنّبه على عقوقه لأبيه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: "بلى"، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ فذكر عمر منها أن يحسن اسمه، قال الولد فيما قال: إن أبي سماني جُعلاً (أي خنفساء)، فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: "جئت إلي تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك".
أمَّا الاسم الذي تُراعى فيه الضوابط الشرعية، فهو يُشعِر صاحبَه بالعزَّة والإشباع النفسي، وكذلك والده، لاسيما عند السؤال عن سبب تسميته بذلك الاسم. وللاسم الشرعي مردودٌ اجتماعي حين يكون اقتداءً بأسماء الأنبياء والصالحين؛ فتخلد أسماؤهم، وتستمر ذكراهم وما قدَّموه لأمتهم من خيرٍ ونفعٍ للآخرين؛ فتستمر سلسلة الإصلاح في الأمة.
ويُسن أن يكون الاسم حسناً لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: [إنكم تُدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فحسنوا أسماءكم].
وأما مراتب الأسماء فهي كما يلي: الأولى، اسما عبد الله وعبد الرحمن، وذلك لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ]. الثانية، سائر الأسماء المعبدة لله عز وجل: مثل عبد العزيز وعبد الرحيم وعبد الملك وعبد الإله وعبد السلام وما شابهها. الثالثة، أسماء الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولا شك أن خيرهم وأفضلهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن أسمائه كذلك أحمد، ثم أولو العزم من الرسل وهم إبراهيم وموسى وعيسى ونوح عليهم الصلاة والسلام، ثم سائر الأنبياء والمرسلين عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه. الرابعة، أسماء عباد الله الصالحين، وعلى رأسهم صحابة نبينا الكريم، ومنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، فيستحب التسمي بأسمائهم الحسنة اقتداءً بهم وطلباً لرفعة الدرجة. والخامسة، كل اسمٍ حسنٍ ذو معنىً صحيحٍ جميل.
ولو اتبعنا ترتيب أولويات الأسماء للبنات لوجدنا أن خيرها ما كان لأمهات المؤمنين: خديجة وعائشة وزينب وسودة وحفصة وجويرية وصفية وميمونة. ثم ما كان لآل بيت النبي عليه الصلاة والسلام كزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. ثم ما كان لصاحبيات جليلات كأسماء ورفيدة وآمنة وأمامة وغيرهن. كما أنه مما يستحب تسمية البنات به اسم مريم واسم آسيا وهما المرأتان اللتان مدحهما الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حيث قال عز وجل: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ*وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾، ونعلم جميعاً أن السيدة مريم هي المرأة الوحيدة التي تسمت باسمها سورةٌ كاملةٌ من سور القرآن الكريم. وكذلك اسم خولة وهو للصحابية التي استمع إليها الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات وخلد ذكرها كتابُ الله في آيةٍ تتلى إلى يوم القيامة: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾. ثم أي اسمٍ حسنٍ ذو معنىً صحيحٍ جميلٍ مثل وفاء وسارة ورضا وصفا وهدى وهناء و(تالية) وما شابهها.
ويحسن مراعاة بعض الأمور عند تسمية المولود منها: معرفة أن هذا الاسم سيكون ملازماً للمولود طوال حياته وقد يسبب له من الضيق والإحراج ما يجعله يضيق بمن سماه بهذا الاسم. كما أنه عند النظر في الأسماء لاختيار أحدها، ينبغي تقليبه على وجوهٍ عدة، فيُنظر في الاسم في ذاته، ويُنظر إليه من حيث كونه طفلاً صغيراً ثم شاباً يافعاً ثم شيخاً كبيراً وأباً وجداً، ومدى مناسبة الاسم إذا تكنى به، ومدى ملاءمته لاسم أبيه وهكذا.
وتسمية المولود حقٌ مشروعٌ للوالد لأنه هو الذي سيُنسب إليه، لكن يُستحب للوالد أن يشرك الأم في اختيار الاسم ويأخذ برأيها إن كان حسناً إرضاءً لها. ويجب نسبة الولد لأبيه ولو كان متوفياً أو مطلِّقاً أو نحوه، ولو لم يرْعَه ولم يره البتة، ويحرم نسبة الولد لغير أبيه.
وتُسن تسمية المولود يوم ولادته أو تسميته إلى ثلاثة أيام من ولادته أو تسميته يوم سابعه، وهذا اختلافُ تنوعٍ يدل على أن في الأمر سعة.

أحبتي .. هل رأيتم أدق من هذه التفاصيل؟ هل رأيتم أعدل منها؟ هل رأيتم كيف تحرص شريعة الإسلام على حقوق الطفل وهو ما يزال وليداً؟
ما أروع هذا الدين، وصدق الله العظيم حين قال: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾.

أحبتي .. بدأ الحديث باختيار اسم (تالية) لأحدثِ مولودةٍ في عائلتنا، وينتهي الحديث بالتناصح فيما بيننا بثلاثة أمور في مجال تسمية المولود:
الأول، على من علم أن اسمه أو اسم أحد أبنائه محرماً أن يبادر فوراً إلى تغييره.
الثاني، على من علم أن اسمه أو اسم أحد أبنائه مكروهاً أن يوائم ما بين المصلحة والضرر ويتخذ القرار الذي يحقق مصلحة الابن.
الثالث، من هو في انتظار أن يهبه الله ولداً أو بنتاً أن يختار من الآن اسماً جميلاً معبراً متوافقاً مع ضوابط الشرع الحنيف؛ كاسم (تالية) فعسى أن يكون للمولود نصيبٌ من اسمه؛ يقول الشاعر:
وقلَّ إن أبصرَتْ عيناك ذا لقَبٍ  **  إلا ومعناه إن فكَّرتَ في لقبه

حفظ الله أبناءنا وذرياتنا، وجميع أبناء المسلمين وذرياتهم، وبارك فيهم، ونفع بهم الدين والدنيا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/07Py4b