الجمعة، 4 نوفمبر 2022

العمى الحقيقي

 

خاطرة الجمعة /368


الجمعة 4 نوفمبر 2022م

(العمى الحقيقي)

 

يقول صاحب القصة: لم أكن جاوزتُ الثلاثين من عُمري حين أنجبت زوجتي أوّل أبنائي، ما زلتُ أذكر تلك الليلة؛ بقيتُ إلى آخر الليل مع شّلة أصدقائي في إحدى الاستراحات، كانت سهرةً مليئةً بالكلام الفارغ والغيبة والنميمة والتعليقات المُحرمة، كنتُ أنا الذي أتولى في الغالب إضحاك الشلة، وأغتاب الناس، وأصدقائي يضحكون. أذكر ليلتها أنّي أضحكتهم كثيراً؛ كنتُ أمتلك موهبةً عجيبةً في التقليد، وكان بإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تُصبح قريبةً من الشخص الذي أسخر منه، أجل؛ كنتُ أسخر من هذا وذاك، لم يسلم مني أحدٌ، حتى أصحابي، صار البعض منهم يتجنّبني كي يسلم من لساني. أذكر أني -في تلك الليلة- سخرتُ من رجلٍ أعمى رأيته يتسوّل في السّوق، والأدهى أنّي وضعتُ قدمي أمامه فتعثّر وسقط وأخذ يتلفت برأسه لا يدري ما يفعل، وانطلقت ضحكتي تُدوي في السّوق.

عدتُ إلى بيتي متأخراً -كالعادة- وجدتُ زوجتي في انتظاري، كانت في حالةٍ يُرثى لها، قالت بصوتٍ مُتهدجٍ: "«راشد»، أين كنتَ؟"، قلتُ ساخراً: "في المريخ، عند أصحابي بالطبع"، كان الإعياء ظاهراً عليها، قالت والعَبرة تخنقها: "«راشد»، أنا تعبةٌ جداً؛ يبدو أن موعد ولادتي صار وشيكاً"، وسقطت دمعةٌ صامتةٌ على خدها. أحسستُ أنّي أهملتُ زوجتي، كان المفروض أن أهتم بها، وأُقلّل من سهراتي، خاصةً أنّها في شهرها التاسع، حملتها إلى المُستشفى بسرعةٍ، فأدخلوها غُرفة الولادة، ظلت تُقاسي الآلام ساعاتٍ طوال. كنتُ أنتظر ولادتها بفارغ الصبر، تعسرت ولادتها، كنتُ قد انتظرتُ طويلاً حتى تعبتُ، فذهبتُ إلى البيت، وتركتُ رقم هاتفي لديهم في المُستشفى ليبشروني. بعد ساعةٍ اتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم «سالم». ذهبتُ إلى المُستشفى فوراً، عندما رأوني أسأل عن غُرفة زوجتي طلبوا منّي مُراجعة الطبيبة التي أشرفت على الولادة، صرختُ بهم: "أيّة طبيبة؟! المُهم أن أرى ابني"، قالوا: "راجِع الطبيبة أولاً"، دخلتُ على الطبيبة، كلمتني عن المصائب والرضى بالأقدار، ثم قالت: "ولدك به تشوهٌ شديدٌ في عينيه، ويبدو أنه فاقد البصر!!"، خفضتُ رأسي وأنا أُدافع عَبراتي؛ تذكّرتُ ذاك المتسوّل الأعمى الذي أوقعته في السوق وأضحكتُ عليه الناس، سُبحان الله كما تدين تُدان! بقيتُ واجماً قليلاً لا أدري ماذا أقول، ثم تذكرتُ زوجتي وولدي؛ فشكرتُ الطبيبة على لُطفها ومضيتُ لأرى زوجتي. لم تحزن زوجتي؛ كانت مؤمنةً بقضاء الله، راضيةً، ولطالما نصحتني أن أكف عن الاستهزاء بالناس، كانت تُردد دائماً "لا تغتب الناس". خرجنا من المُستشفى ومعنا «سالم». في الحقيقة لم أكن أهتم به كثيراً، اعتبرته غير موجودٍ في المنزل، حين يشتد بُكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها، كانت زوجتي تهتم به كثيراً وتُحبّه كثيراً، أما أنا فلم أكن أكرهه، لكني لم أستطع أن أُحبّه! كبر «سالم» وبدأ يحبو، كانت حبوته غريبةً. قارب عُمره السنة فبدأ يُحاول المشي، فاكتشفنا أنّه أعرج، أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر، أنجبت زوجتي بعده «عُمر» و«خالد». مرّت السنوات وكبر «سالم» وكبر أخواه. كنتُ لا أحب الجلوس في البيت، دائماً مع أصحابي، في الحقيقة كنتُ كاللُعبة في أيديهم، لم تيأس زوجتي من إصلاحي؛ كانت تدعو لي دائماً بالهداية، لم تغضب من تصرّفاتي الطائشة، لكنها كانت تحزن كثيراً إذا رأت إهمالي ل«سالم» واهتمامي بأخويه. كبُر «سالم» وكبُر معه همي، لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في إحدى المدارس الخاصة بالمُعاقين، لم أكن أُحس بمرور السنوات، أيّامي كلها مُتشابهةٌ؛ عملٌ ونومٌ وطعامٌ وسهر.

في يوم جمعةٍ -لا أنساه- استيقظتُ الساعة الحادية عشرة صباحاً، ما يزال الوقت مُبكراً بالنسبة لي، كنتُ مدعواً إلى وليمةٍ، لبستُ وتعطّرتُ وهممتُ بالخروج، مررتُ بصالة المنزل، استوقفني منظر «سالم»؛ كان يبكي بحُرقةٍ! إنّها المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى «سالم» يبكي منذ كان طفلاً، عشر سنواتٍ مضت، لم ألتفت إليه، حاولتُ أن أتجاهله فلم أحتمل، كنتُ أسمع صوته يُنادي أمه وأنا في الغُرفة، التفتُ ثم اقتربتُ منه، قلتُ: "«سالم»! لماذا تبكي؟!"، حين سمع صوتي توقّف عن البكاء، فلما شعر بقربي بدأ يتحسّس ما حوله بيديه الصغيرتين، ما بِه يا ترى؟!

اكتشفتُ أنه يُحاول الابتعاد عني!! وكأنه يقول: "الآن أحسستَ بي، أين أنت منذ عشر سنوات؟!"، تبعته، كان قد دخل غُرفته، سألته عن سبب بكائه رفض أن يُخبرني في البداية، حاولتُ التلطف معه؛ فبدأ يُبين لي سبب بكائه، وأنا أستمع إليه وأنتفض؛ فقد كان السبب تأخّر أخيه «عُمر» -الذي اعتاد أن يُوصله إلى المسجد- ولأنها صلاة جُمعةٍ خاف ألاّ يجد مكاناً في الصف الأوّل، نادى «عُمر»، ونادى والدته، ولكن لا مُجيب؛ فبكى. أخذتُ أنظر إلى الدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين، لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه، وضعتُ يدي على فمه، وقلتُ: "ألذلك بكيتَ يا «سالم»؟!"، قال: "نعم". نسيتُ أصحابي ونسيتُ الوليمة وقلتُ: "«سالم» لا تحزن، هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد؟"، قال: "أكيد «عُمر»، لكنه يتأخر دائماً"، قلتُ: "لا، بل أنا سأذهب بك"، دُهش «سالم»، لم يُصدّق، ظنّ أنّي أسخر منه، استعبر ثم بكى، مسحتُ دموعه بيدي، وأمسكتُ يده، أردتُ أن أوصله بالسيّارة، رفض قائلاً: "المسجد قريبٌ، أريد أن أخطو إلى المسجد" إي والله قال لي ذلك. لا أذكر متى كانت آخر مرّةٍ دخلتُ فيها المسجد، لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والنّدم على ما فرّطتُ فيه طوال السنوات الماضية. كان المسجد مليئاً بالمُصلّين إلاّ أنّي وجدت ل«سالم» مكاناً في الصف الأوّل، استمعنا لخطبة الجُمعة معاً وصلى بجانبي، بل في الحقيقة أنا الذي صليتُ بجانبه، بعد انتهاء الصلاة طلب منّي «سالم» مُصحفاً، استغربت!! كيف سيقرأ وهو أعمى؟! كدتُ أتجاهل طلبه، لكني جاملته خوفاً من جرح مشاعره، ناولته المُصحف، طلب منّي أن أفتح المُصحف على سورة الكهف، أخذتُ أُقلب الصفحات تارةً، وأنظر في الفهرس تارةً، حتى وجدتها، أخذ مني المُصحف ثم وضعه أمامه وبدأ في قراءة السورة وعيناه مُغمضتان، يا الله!! إنّه يحفظ سورة الكهف كاملةً!! خجلتُ من نفسي، أمسكتُ مُصحفاً؛ أحسستُ برعشةٍ في أوصالي، قرأتُ وقرأتُ، دعوتُ الله أن يغفر لي ويهديني، لم أستطع الاحتمال؛ فبدأتُ أبكي كالأطفال. كان بعض الناس لا يزالون في المسجد يُصلون السُّنة، خجلتُ منهم، فحاولتُ أن أكتم بكائي، تحول البكاء إلى نشيجٍ وشهيق، لم أشعر إلاّ بيدٍ صغيرةٍ تتلمس وجهي ثم تمسح عنّي دموعي، إنه «سالم»!! ضممته إلى صدري، نظرتُ إليه وقلتُ في نفسي: "لستَ أنت الأعمى، بل أنا الأعمى حين انسقتُ وراء فُساقٍ يجرونني إلى النار، هذا هو (العمى الحقيقي)". عُدنا إلى المنزل، كانت زوجتي قلقةً كثيراً على «سالم»، لكن قلقها تحوّل إلى دموعٍ حين علمت أنّي صلّيتُ الجُمعة مع «سالم». من ذلك اليوم لم تفتني صلاة جماعةٍ في المسجد، هجرتُ رُفقاء السُوء، وأصبحت لي رفقةٌ خيّرةٌ عرفتها في المسجد، ذقتُ طعم الإيمان معهم، عرفتُ منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا، لم أفوّت حلقة ذِكرٍ أو صلاة وترٍ، ختمتُ القرآن عدّة مرّاتٍ في شهر، رطّبتُ لساني بالذِكر لعلّ الله يغفر لي غيبتي وسُخريتي من النّاس، أحسستُ أنّي أكثر قُرباً من أسرتي، اختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تُطل من عيون زوجتي، الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني «سالم»، من يراه يظنّه ملَك الدنيا وما فيها، حمدتُ الله كثيراً على نعمه. ذات يومٍ قرر أصحابي الصالحون أن يتوجّهوا إلى إحدى المناطق البعيدة للدعوة، تردّدتُ في الذهاب، استخرتُ الله، ثم استشرتُ زوجتي، توقعتُ أنها سترفض لكن حدث العكس! فرحت كثيراً، بل شجّعتني؛ فقد كانت تراني في السابق أُسافر دون استشارتها فسقاً وفُجوراً. توجهتُ إلى «سالم»، أخبرته أني مُسافرٌ، ضمني بذراعيه الصغيرتين مُوّدعاً. تغيّبتُ عن البيت ثلاثة أشهرٍ ونصف، كنتُ خلال تلك الفترة أتصل -كلّما سنحت لي الفرصة- بزوجتي وأحدّث أبنائي، اشتقتُ إليهم كثيراً، آآآه كم اشتقتُ إلى «سالم»!! تمنّيتُ سماع صوته، هو الوحيد الذي لم يُحدّثني منذ سافرت، إمّا أن يكون في المدرسة أو في المسجد ساعة اتصالي بهم، كلّما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه كانت تضحك فرحاً وبِشراً إلاّ آخر مرّةٍ هاتفتها فيها لم أسمع ضحكتها المُعتادة، تغيّر صوتها، قلتُ لها: "أبلغي سلامي ل«سالم»" فقالت: "إن شاء الله" وسكتت. أخيراً عدتُ إلى المنزل، طرقتُ الباب، تمنّيتُ أن يفتح لي «سالم»، لكن فوجئتُ بابني «خالد» الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره، حملته بين ذراعي وهو يصرخ: "بابا .. بابا"، لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلتُ البيت، استعذتُ بالله من الشيطان الرجيم، أقبلت إليّ زوجتي، كان وجهها مُتغيراً كأنها تتصنع الفرح، تأمّلتها جيداً ثم سألتها: "ما بكِ؟"، قالت: "لا شيء"، فجأة تذكّرت «سالم»؛ فقلتُ: "أين «سالم»؟، خفضت رأسها، لم تُجب، سقطت دمعاتٌ على خديها، صرختُ بها: "«سالم»، أين «سالم»؟"، لم أسمع حينها سوى صوت ابني «خالد» يقول بلثغته: "بابا .. ثالم لاح الجنّة عند الله"، لم تتحمل زوجتي الموقف، أُجهشت بالبُكاء، كادت أن تسقط على الأرض فخرجت من الغرفة. عرفتُ بعدها أن «سالم» أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين؛ فأخذته زوجتي إلى المُستشفى، فاشتدت عليه الحمى، ولم تفارقه حتى فارقت روحه جسده. مات «سالم» البصير، بعد أن علمني أن (العمى الحقيقي) هو البُعد عن الله والرفقة الطيبة.

 

أحبتي في الله.. هكذا كان «سالم» -رغم صغر سنه وعجزه- سبباً في هداية والده، كأن هذه كانت مهمته في الحياة أداها على أكمل وجهٍ ثم غادر الدُنيا في هدوء. لكنه -رحمه الله- علَّمنا قبل أنْ يُغادر أنّ (العمى الحقيقي) هو عمى القلوب وليس عمى العيون؛ فقد كان -وهو أعمى البصر- بصير القلب. ويُذكرني هذا بقول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.

يقول المُفسرون لهذه الآية: الأعمى ليس من لا يرى، وإنما هو الذي لا يشعر بالحق الذي يراه، ولا يتدبر الموعظة التي أمامه، فكم من بصيرٍ يرى بعينيه، ولكن قلبه لا يرى شيئاً، وكم من أعمى البصر ولكن قلبه يرى الحق دوماً ويتبعه؛ فإذا كان البصر من أكبر النِعم التي يُنعم الله عزَّ وجلَّ بها على الناس، فإن أكبر منها نعمة البصيرة، وهي التي تجعل الإنسان يرى الحق حقاً، والباطل باطلاً، وهي تقود إلى الحق، وتهدي إلى الرُشد.

 

يقول أهل العلم: مَنْ منا لم تزلّ به القدم؟ كلنا -كوالد «سالم»- تزل أقدامنا ونخطئ؛ فالزلل يقع في لحظةٍ يفقد الإنسان فيها بصيرته. والرجوع عن الخطأ والندم عليه وتصحيحه بدايةٌ لعودة النور وانقشاع الظلام، وإلا فقد يطول الظلام ولا ينجلي، فيعيش الإنسان حياته كلها في عمىً وهو مُبصرٌ؛ فلا يذوق لذة البصيرة، ولا يهتدي بنورها، فتنطبق عليه الآية الكريمة: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾.

لذا فإن (العمى الحقيقي) عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح.

 

قال الشاعر:

وَلَيْسَ العَمَىٰ أنْ تَفْقِدَ العَيْنُ نُورَها

وَلَكِّنَهُ نُورُ العُقُولِ إذَا اسْتَتَر

 

أحبتي.. مَن يمتلك البصيرة في حياته فقد امتلك أثمن كنوز الدنيا؛ لأن البصيرة هي التي تقود إلى الخير والرشد والصواب، وتُكسب صاحبها الحكمة والفهم العميق؛ فيصير صاحب درايةٍ ووعيٍ ومشورةٍ، يُفيد نفسه ويستفيد منه غيره.

اللهم كما أنعمتَ علينا بنعمة البصر، أتمم علينا فضلك ومتِّعْنا بنعمة البصيرة، واجعل اللهم قلوبنا مُبصرةً فنصبح من المُهتدين، وزِدْ علينا من نعمك وأفضالك لنكون لغيرنا هادين.

 

https://bit.ly/3NHOiHN