الجمعة، 8 نوفمبر 2019

شهادة وفاة الأخلاق والقيم


الجمعة 8 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٢
(شهادة وفاة الأخلاق والقيم)

كتب يقول: حينما كنتُ رئيساً لإدارةٍ تهتم بالشئون العامة بالقوات المسلحة جاءتني ذات مرةٍ سيدةٌ فاضلةٌ تريد أن تحظى برعاية بعض أسر شهداء حرب أكتوبر 73 فرحبتُ بها، وكفلتْ تلك المرأة قرابة مائتي أسرةٍ: كفالاتٍ ماليةً، وكفالات علاجٍ، وزواجٍ، وحجٍ وعمرةٍ،.. إلخ. وكانت تُعطي عطاء من لا يخشى الفقر حتى لكأنها حاتمية الأصل، ثم وصل عدد الأسر التي كانت تكفلها إلى ألف أسرةٍ؛ فأطلقتُ عليها لقب "أم الشهداء"، وعندما عرضتُ عليها أن نقيم لها حفل تكريم رفضتْ وقالت: "بذلك يضيع الثواب". تركتُ وظيفتي فانقطعت أخبارها عني فترةً طويلةً، وذات يومٍ، بعد خمسة عشر عاماً، تلقيتُ اتصالاً من مديرة إحدى دور المسنين فاجأتني بأن هناك عجوزاً تريد الحديث معي، فلما تحدثتْ معي عرفتُ أن الصوت ليس غريباً؛ فذكرتني بنفسها أنها "أم الشهداء"، وعلمتُ أنها بدار المسنين منذ خمس سنواتٍ، فزرتُها وجلستُ معها، وحدثتني عن أبنائها: ولدها الكبير طبيبٌ عالميٌ مقيمٌ في أمريكا، وولدها الثاني أصبح ثرياً مشهوراً في دبي، وابنتها متزوجةٌ ومقيمةٌ في القاهرة. كانت العجوز تعاني من أمراض كبر السن وضعف البصر وهشاشة السمع ورقة العظم، وكانت تحس باقترابها من عتبة الموت. تمشي بصعوبةٍ ممسكةٍ بعصا لا تقدر أن تخطو خطوةً واحدةً إلا بها. لقد أصبحتْ ضعيفةً نحيفةً متعبةً مهدودةً، ليست كما عهدتُها من قبل تطوف مصر بأكملها بحثاً عن أرملةٍ تشتري لها الطعام وتؤانس وحشتها. وجدتُها متأثرةً ببُعد فلذات أكبادها عنها، وعلمتُ منها أن آخر عهدها بولديها كان قبل عشر سنوات؛ فقمتُ بالاتصال بهما ودعوتهما لزيارة أمهما؛ فأجابني الطبيب المقيم في أمريكا: "إن أمنا ثريةٌ، ولديها من المال ما يكفيها للعيش في دار المسنين دون مشاكل"، فقلتُ له: "ألا تشتاق لأمك؟"، فاعتذر بانشغاله رغم أنه يزور مصر كل عام. وسمعتُ كلاماً مشابهاً من ولدها المقيم في دبي. أما البنت فقد تعللت بأولادها وكثرة مشاغلها. بقيتُ ثلاثة أشهرٍ أزورها في كل أسبوعٍ، وأستمع إلى حديثها العذب الصافي في كل زيارةٍ وحكاياتها مع أولادها. وفي كل زيارةٍ تُخرج لي ملف ذكرياتٍ عبارةً عن ألبومات صورٍ لأولادها، وهي فرحةٌ مسرورةٌ بنجاحهم وتفوقهم، وتخبرني أنها بذلتْ كل غالٍ ونفيسٍ حتى يُكمل ولدها الطبيب دراسته. كانت أكبر متعةٍ لها الحديث عن أولادها. وذات يومٍ حدثتني برغبتها العارمة في زيارة أولادها لتفرح بهم وبأحفادها، وتكحل نظرها برؤيتهم قبل وداع هذه الحياة، وأخبرتني ألا مشكلة لديها في تدبير نفقات السفر؛ فاتصلتُ بولديها لترتيب أمور سفرها إليهما واستقبالهما لها ومعرفة عنوان كلٍ منهما، فكان الرد واحداً وهو: "الأمور هنا صعبةٌ، وعندما نزور القاهرة سوف نراها". وفي يومٍ حزينٍ لا أنساه جاءني اتصالٌ من مديرة دار المسنين تُبلغني بوفاة العجوز؛ فذهبتُ سريعاً أسحب قدماي سحباً وأكاد أتعثر في المشي. ولما وصلتُ الدار ورأيتُ العجوز وحيدةً مسجاةً تذكرتُ كم كانت تتمنى أن تنظر نظرةً واحدةً إلى أولادها وأحفادها، أو يكونوا عند رأسها وقت سكرات الموت، ولم يُلبوا طلبها، ولم يردوا حتى على اتصالاتها. لم أتمالك مشاعري وانسابت دموعي، وكانت لحظاتٍ بلغ بي الحزن فيها مبلغه؛ فاتصلتُ بولديها فكان ردهما: "لا نستطيع الحضور، ولا داعي لمشقة السفر من أجل هذا الأمر". فاتصلتُ بابنتها فأخبرتني أنها مع أولادها في الإسكندرية للمشاركة في مسابقةٍ رياضيةٍ؛ وحضورها صعب. قمتُ بتجهيز المرأة ودفنها ومشيتُ وحيداً في جنازتها، رغم أنها سخَّرت مالها لتعليم ولدها ليحصل على أرقى الشهادات العالمية في الطب، وكانت هي السبب الرئيس في نجاح ابنها الثاني، كما أنها لم تدخر جهداً في تربية بنتها. بكيتُ كالطفل، تماماً كما بكيتُ يوم ماتت أمي الحنون. بعد أسبوعٍ من دفن العجوز حضرتْ بنتها إلى دار المسنين تطلب شهادة الوفاة؛ ليبدأ حصر الثروة الطائلة لوالدتها المتوفاة ويتم تقسيم التركة، وبعدها حضر الولدان واستلما الشهادة.
يا لتلك الشهادة؛ إنها ليست شهادة وفاة الأم، إنها (شهادة وفاة الأخلاق والقيم)، شهادة وفاة الضمير، شهادة وفاة العطف والعاطفة والرحمة ورد الجميل. إنها شهادة ميلاد العقوق الصارخ. يا الله، ما كنتُ أظن أني سأبقى حياً حتى أرى هذا الزمن الذي يستغني فيه البعض عن مصدر حنانه.
ختم هذا المسئول منشوره بقوله: "إذا ماتت القيم ماتت الروح، وشقيت النفس، وتعكر طعم الحياة، وضاع منك شرفك ورجولتك وكل شيء جميل. علموا أولادكم البر قبل أن يفلتوا من أيديكم وتلهيهم معالم الحضارة المعاصرة، سلموا (شهادة وفاة الأخلاق والقيم) لكل من ينكر جميل والديه".

أحبتي في الله .. يبين أهل العلم كيف عُني الإسلام بالوالدين عنايةً بالغةً، وحض الأبناء على حسن معاملتهما، وألزمهم بالبر بهما وطاعتهما، وفِعْل كل ما يرضيهما؛ إذ أن برهما حقٌ واجبٌ، وقرن الله تعالى بر الوالدين بتوحيده وعبادته جلَّ وعلا؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾. وعن وجوب بر الوالدين ولوكانا مشركين؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.
ويذكر العلماء أن التاريخ لا يعرف ديناً كرَّم المرأة باعتبارها أماً، وأعلى من مكانتها مثل الإسلام الذي رفع من مكانة الأم، وجعل برها من أصول الفضائل، كما جعل حقها أعظم من حق الأب لما تحملته من مشاق الحمل والولادة والإرضاع والتربية، فحين أوصى الله سبحانه وتعالى الإنسان بوالديه جعل للأم مكانةً خاصةً؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.
وعن حق الأم في البر وثوابه؛ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: [أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قَالَ: ثُمَّمَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أَبُوكَ]. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ - ثَلَاثًا - إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ]. وهذا صحابيٌ يقول: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: [وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟]، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: [ارْجِعْ فَبَرَّهَا]، ثُمَّ قَالَ: [وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟]، قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: [فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبَرَّهَا]، ثُمَّ قَالَ: [وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ]. "وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا" كنايةٌ عن لزوم خدمتها، والتواضع، وحسن الطاعة لها.
وقد حذر رسول الله من عقوق الوالدين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة] وذكر منهم العاق لوالديه. وسُئل صلى الله عليه وسلم عن الكبائر؛ قال: [الشِّرْكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ اَلْوَالِدَيْنِ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [لَعَنَ اللهُ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ]، كما قال: [لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَاقٌّ]. إن في عقوق الوالدين (شهادة وفاة الأخلاق والقيم).

أحبتي .. واضحةٌ هي أوامر الله سبحانه وتعالى وتوجيهات نبينا الكريم - عليه الصلاة والسلام - لنا ببر الوالدين، وببر الأم على وجه الخصوص، وواضحةٌ هي العواقب الوخيمة لعقوق الوالدين؛ فلماذا هذا العقوق الذي نراه؟ لماذا هذه القسوة في القلوب؟ أما آن لنا أن تلين قلوبنا وتخشع امتثالاً لقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾؟
وأنتَ يا مَن تعق والديك - خاصةً أمك - راجع نفسك فوراً وتراجع عن عقوقك؛ فأنت واقعٌ في كبيرةٍ تُغضب المولى عزَّ وجلَّ، أتتحمل غضب المولى؟ بادر إلى البر والإحسان لا تُسَوِّف ولا تُماطِل ولا تُؤجِل؛ هل تضمن لنفسك أن تعيش ولو دقيقةً واحدةً؟ سارع أخي الحبيب، ومَزِّق (شهادة وفاة الأخلاق والقيم) واجتهد في الحصول على شهادةٍ تنفعك في حياتك وآخرتك، شهادةٍ تُرضي بها ربك، شهادةٍ بوصِلِ ما قطعته، وبِرِ من أسأت إليه. أحْسِن إلى مَن أوصاك خالقُك برعايته وحُسن صحبته، وتُبْ توبةً نصوحاً؛ عسى أن يشملك الله برحمته فتكون ممن قال عنهم: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ فتفوز فوزاً عظيماً.
اللهم اجعلنا من البارين بوالدينا أحياءً وأمواتاً، ووفقنا ربنا إلى حُسن رعايتهما وصحبتهما – خاصةً أمهاتنا اللاتي ولدننا - واجعل ذلك في موازين حسناتنا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

http://bit.ly/2WS37x8