الجمعة، 13 نوفمبر 2020

فنجان القهوة وثلاثة دروس

                                                       الجمعة 13 نوفمبر 2020م


خاطرة الجمعة /265

(فنجان القهوة وثلاثة دروس)

اعتاد أستاذٌ جامعيٌ بعد أن أُحيل إلى التقاعد أن يدعو كل فترةٍ مجموعةً من طلابه الخريجين. التقى الخريجون في منزل أستاذهم العجوز بعد سنواتٍ طويلةٍ من مغادرة مقاعد الدراسة، وبعد أن حققوا نجاحاتٍ كبيرةً في حياتهم العملية، ونالوا أرفع المناصب، وحققوا الاستقرار المادي والاجتماعي. بعد عبارات التحية والمجاملة، بدأ كلٌ منهم يتأفف من ضغوط العمل والحياة التي تُسبب لهم الكثير من التوتر. غاب الأستاذ عنهم قليلاً ثم عاد يحمل إبريقاً كبيراً من القهوة ومعه فناجين وأكواب من كل شكلٍ ولون: بعضها من الكريستال، وبعضها من الصيني الفاخر، وبعضها من الميلامين، وبعضها من الزجاج العادي، وبعضها من البلاستيك. من تلك الفناجين والأكواب ما هو في منتهى الجمال تصميماً وألواناً، ومنها ما هو باهظ الثمن، ومنها العادي، ومنها النوع الذي تجده في أفقر البيوت.

قال الأستاذ لطلابه: "تفضلوا، وليسكب كل واحدٍ منكم القهوة لنفسه". وعندما بات كل واحدٍ من الخريجين ممسكاً بفنجانٍ تكلم الأستاذ فقال: "هل لاحظتم أن الفناجين الجميلة فقط هي التي وقع عليها اختياركم وأنكم تجنبتم الفناجين العادية؟ من الطبيعي أن يتطلع الواحد منكم إلى ما هو أفضل؛ وهذا بالضبط هو ما يسبب لكم القلق والتوتر. ما كنتم بحاجةٍ إليه فعلاً هو القهوة وليس الفنجان، ولكنكم تهافتم على الفناجين الجميلة الثمينة"! وأردف الأستاذ قائلاً: "وبعد ذلك لاحظتُ أن كل واحدٍ منكم كان مراقباً للفناجين التي في أيدي الآخرين؛ فلو كانت الحياة هي القهوة فإن الوظيفة والمال والمكانة الاجتماعية هي الفناجين، وهي بالتالي مجرد أدواتٍ ومواعين تحوي الحياة، أما نوعية الحياة التي تمثلها القهوة فتبقى هي هي نفسها لا تتغير، وعندما نركز فقط على الفنجان فإننا نُضيِّع فرصة الاستمتاع بالقهوة؛ فاسمحوا لي أن أنصحكم بعدم الاهتمام بالفناجين والأكواب، والتركيز بدلاً من ذلك على الاستمتاع بالقهوة"!

واستطرد يقول: "فالدرس الأول هو أن النظر إلى ما في أيدي الآخرين يُفسد علينا متعة الاستمتاع بما في أيدينا؛ إذا رأيتَ في يد شخصٍ شيئاً أجمل مما في يدك فلعله تعويضٌ عن شيءٍ حُرم منه، والبيوت أسرار، والناس صنادیق مُغلقة".

وتابع القول: "الدرس الثاني هو أن مشكلة الناس في هذا العصر أن معيار الحرمان عندهم هو المال؛ من كان له مالٌ فهو ذو حظٍ عظيمٍ، ومن ليس له مالٌ فيستحق الشفقة، دعوني لا أكون مثالياً؛ المال يدير عجلة الحياة، ولكنه ليس الحياة. صحيحٌ أنه يتيح لك أن تعيش حياتك برفاهية، ولكنه لا يكفي وحده ليجعلك تعيش بسعادة، أجمل ما في الحياة هي تلك الأشياء التي ليس لها ثمنٌ، ويقف المال أمامها فقيراً عاجزاً لا يستطيع شراءها؛ كحنانِ زوجةٍ تُحبك، أو حضنِ أبيك، أو أصدقاء مخلصين، أو أبناء أذكياء وأصحاء، أو دعوةِ أمٍ عند الصباح، أو بيتٍ يملؤه الحب؛ هذه الأشياء هي الحياة، والمال لا يستطيع شراءها"!

وأنهى الأستاذ كلامه بقوله: "الدرس الثالث هو أننا نهتم بالوسائل ونهمل الغايات؛ هكذا هم البشر في هذا الزمان يهتمون بالوسائد أكثر مما يهتمون بالنوم، يهتمون بالمستشفيات أكثر مما يهتمون بالصحة، يهتمون بالمدارس أكثر مما يهتمون بالتعليم، يهتمون بالمساجد أكثر مما يهتمون بالدين، يهتمون بوسائل الاتصال أكثر مما يهتمون بالتواصل"!

 

أحبتي في الله .. لم يكن هذا مجرد لقاءٍ على فنجان قهوةٍ، وإنما كان (فنجان القهوة وثلاثة دروس) من أستاذٍ حكيمٍ، انقطع عن عمله الوظيفي مع طلابه بتخرجهم، لكن ظلت صلته بهم قائمةً ومستمرةً كموجهٍ ومرشدٍ وخبيرٍ. المعلم الحقيقي لا يعتبر التعليم وظيفةً بل هو رسالةٌ لا ترتبط بزمانٍ ولا مكان. استثمر هذا الأستاذ المخلص لقاءه بطلابه ليعلمهم دروساً ثلاثة:

كان درسه الأول "هو أن النظر إلى ما في أيدي الآخرين يُفسد علينا متعة الاستمتاع بما في أيدينا"، وهذا ذكرني بالآية الكريمة: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، حيث يقول المفسرون: لا تمد عينيك معجباً، ولا تكرر النظر مستحسناً إلى أحوال الدنيا والمتمتعين بها، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تذهب سريعاً، وتمضي جميعاً، إنما جعلها الله فتنةً واختباراً، ليعلم سبحانه من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملاً.

 

وكان درسه الثاني هو "أن مشكلة الناس في هذا العصر أن معيار الحرمان عندهم هو المال؛ مَن كان له مالٌ فهو ذو حظٍ عظيمٍ"، ذكرني بقصة قارون حين خرج ﴿عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾، وتذكرتُ الآية الكريمة ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ فالمال والبنون -كما ورد في التفاسير- زينة الحياة الدنيا، لكن ما يبقى للإنسان وينفعه، هو الباقيات الصالحات، من طاعاتٍ واجبةٍ ومستحبةٍ من حقوق الله وحقوق عباده من: صلاةٍ، وزكاةٍ، وصدقاتٍ، وحجٍ، وعمرةٍ، وتسبيحٍ، وتحميدٍ، وتهليلٍ، وتكبيرٍ، وطلب علمٍ نافعٍ، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهيٍ عن منكرٍ، وصلة رحمٍ، وبرِ والدين، وقيامٍ بحق الزوجات والأبناء، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كل هذا من الباقيات الصالحات، وهي خيرٌ عند الله ثواباً وخير أملاً، فثوابها يبقى ويتضاعف، ويؤمل أجرها وبرها ونفعها عند الحاجة، فهذه التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون، ويستبق إليها العاملون، ويجد في تحصيلها المجتهدون.

 

وكان درسه الثالث هو "أننا نهتم بالوسائل ونُهمل الغايات"، وهذا ذكرني بقول أحد العلماء؛ إذ قال إن الله خلق الإنسان وأوجده في هذه الحياة لأجل تحقيق أمورٍ ثلاثة: هي عبادة الله، وتزكية النفس، وعمارة الأرض. فعبادة الله هي الغاية التي خلق الله تعالى الخلق لأجلها؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وبعث الله الرسل لتحقيقها؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾، وما إن تتحقق عبادة الله بإخلاص إلا وتبدو آثارها على الخلق ظاهرةً متمثلةً في صلاح الفرد فيسهل عليه أن يُزكي نفسه. وعن تزكية النفس يقول تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾؛ فتزكية النفس سببٌ للوصول إلى الجنة في الآخرة، وهي أيضاً سببٌ للوصول إلى جنة الدنيا وزهرتها؛ فهي تهذب أخلاق الإنسان وتُحسِّن سلوكه وتجعله مستعداً لإعمار الأرض. وعن عمارة الأرض؛ يقول تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، فالمتأمل في فقه البناء والعمارة في الإسلام يجد أن الإسلام اهتم بالإنسان أولاً، وبإعمار نفسه وتزكيتها ثانياً حتى يصل إلى إعمار الكون حوله، فإعمار النفوس هو الأساس الذي يُبنى عليه إعمار الأرض.

والدنيا دار ابتلاءٍ واختبار؛ يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾، فهو سبحانه قدَّر لعباده أن يحييهم ثم يميتهم، فمَن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء في الدارين، ومَن مالَ مع شهوات النفس، ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء. وليس معنى ذلك الانقطاع للعبادة بغير عمل، بل الجمع بين العبادة والعمل؛ يقول تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا﴾.

 

أحبتي .. نؤمن جميعاً بأن الآخرة هي دار القرار، وأن الدنيا مزرعتُها؛ فلتكن أهدافنا في الحياة واضحةً جليةً؛ نعبد الله على النحو الذي أمرنا به سبحانه وتعالى وأوضحه وبيَّنه لنا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ونُزكي أنفسنا قدر ما نستطيع بالعمل وليس بالكلام، نجمع بين التزامنا بالعبادات وأصول المعاملات، وبين تعميرنا للدنيا -قدر الاستطاعة- وتركنا من الآثار ما ينفعنا في آخرتنا يوم يقوم الحساب، وما ينفع غيرنا ممن يأتون بعدنا.

دعونا نستفيد من ذلك اللقاء؛ لقاء (فنجان القهوة وثلاثة دروس) عسى أن ينتبه الغافلون منا.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

 

https://bit.ly/3niH8eE