الجمعة، 16 أغسطس 2019

عناية الله

الجمعة 16 أغسطس 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٠
(عناية الله)

تمثلت (عناية الله) التي تحيط بالبشر في كل زمانٍ ومكان، في معجزةٍ ربانيةٍ وقعت قبل أيامٍ في مكة المكرمة، لم يشعر بها إلا قليلٌ من الناس!
كانت أعدادٌ كبيرةٌ من المُحْرمين يقفون على مداخل عرفات، وقد تعذر عليهم دخولها لعدم حصولهم على تصاريح الحج حسب الأنظمة المعمول بها، وقام جنود الأمن بمنعهم من الدخول. عيونهم تتطلع إلى عرفات، وأفئدتهم متعلقةٌ برحمة الله سبحانه وتعالى، وألسنتهم تلهج بالتلبية: "لبيك اللهم لبيك"، لا يملون من ذكر الله والدعاء له مخبتين خاشعين، لسان حالهم يقول: "لبينا يا الله فاقبلنا، إنا ضيوفك يا الله فلا تُرجعنا، لا تردنا ربنا ونحن واقفون ببابك". يمر الوقت عليهم وهم ممنوعون من الدخول إلى حيث رُكْن الحج الأكبر بالوقوف في عرفات. يدعون الله سبحانه وتعالى بتضرعٍ وتذللٍ وإخلاص. ثقتهم في الله مطلقة، وحسن ظنهم بالله كبير. ينتظرون معجزةً تحقق لهم أغلى أمانيهم، لا يحول دون تحقيقها سوى تلك الحواجز الحديدية الموضوعة أمامهم تسد الطريق عليهم وتحول بينهم وبين العبور إلى عرفات. لا يفكرون في طعامٍ أو شرابٍ، لا يشعرون بتعبٍ ولا إرهاقٍ - رغم وقوفهم تحت الشمس الحارقة لساعاتٍ طوال - كل ما يشغلهم هو الدعاء، يدعون ربهم ﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾، دامعةً عيونهم، منكسرةً نفوسهم، كلما طال انتظارهم قل أملهم حتى كاد أن يتلاشى؛ فها هو وقت العصر قد اقترب، وكاد النهار أن ينتهي، وإذا انتهى النهار تبخر أملهم وضاع حلمهم وتبددت أمنيتهم الغالية. وقبل الغروب بوقتٍ قصير، ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ إذا (عناية الله) لم تتخلَ عنهم، وإذا رحمته سبحانه وتعالى بهم تأتيهم من حيث لا يحتسبون، وإذا بالمعجزة الربانية تقع؛ فتتعالى صيحاتهم: "الله أكبر، الله أكبر". لم تصدر الأوامر من البشر بالسماح لهم بالدخول إلى عرفات، وإنما ﴿أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ﴾ رب البشر، من فوق سبع سمواتٍ بالسماح لهم بالدخول؛ فإذا بجنود الله تُنَفِّذ الأمر؛ فتطيح الريح بالحواجز الحديدية، وتفتح الأمطار الشديدة الطريق المغلقة لهؤلاء الذين وقفوا يدعون الله سبحانه وتعالى ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ فيتحقق أملهم ويعبرون إلى عرفات! إنها حقاً (عناية الله). في لحظاتٍ تبدلت الأحوال، دون تمهيد، اختفى قرص الشمس، دوى صوت الرعد دوياً شديداً، وجاءت ريحٌ عاصفٌ اقتلعت الحواجز الحديدية الثقيلة لتتطاير في الهواء كما لو كانت أوراقاً، وهطلت أمطارٌ غزيرةٌ؛ فوقف هؤلاء المحظوظون مكبرين؛ لم يحصلوا على تصريحٍ للحج من العباد، لكنهم حصلوا على هذا التصريح من رب العباد!
إنها (عناية الله) التي أدخلتهم إلى صعيد عرفات ملبيين مهللين؛ فمع هذا الطقس الغريب تحول الوضع عند الحواجز، فما كان لأحدٍ أن يوقف أحداً ليسأله هل معه تصريحٌ أم لا!
إنها واللهِ لمعجزةٌ كبيرةٌ، ونعمةٌ عظيمةٌ أنعم الله سبحانه وتعالى بها على بعض عباده ممن وقفوا ببابه، لم يملوا ولم ييأسوا، بل ظلوا يدعونه سبحانه وتعالى وهم ينتظرون رحمته، واثقين كل الثقة في أن العزيز الحكيم لن يخذلهم أبداً، يشعرون في قرارة أنفسهم بأنهم سيدخلون عرفات وسيكونون ممن كُتب لهم الحج، لكن لم يكن يخطر ببال أيٍ منهم للحظةٍ واحدةٍ كيف سيتحقق ذلك!

أحبتي في الله .. لم أتمالك نفسي وأنا أتابع تفاصيل هذه المعجزة الربانية؛ فإذا عيناي تفيضان بالدموع مستشعراً حال أولئك الذين مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليهم بفضله، وفتح لهم الأبواب الموصدة ليكونوا من بين حجاج هذا العام. أي شعورٍ جياشٍ يا تُرى أحسوا به؟ وأية سعادةٍ طاغيةٍ غمرتهم؟ وأي إحساسٍ بمعية الله وعظمته وقدرته ورحمته تملكهم في تلك اللحظات؟ أحس بهم وقد اختلطت تلبيتهم بالشكر والثناء، وامتزجت مشاعرهم بالفرح والبكاء.
لقد تابع الملايين من المسلمين في شتى بقاع الأرض - ممن لم يُكتب لهم أداء شعيرة الحج هذا العام - مسيرة الحجيج في الأيام العشر الأُوَل من شهر الله الحرام ذي الحجة من خلال شاشات التلفاز، وتابعوا أخبارهم من خلال وسائل الإعلام المختلفة وكلهم شوقٌ إلى أن يكونوا مع هؤلاء الحجيج. تابعوا مسيرتهم وقلوبهم تهفو إلى بيت الله الحرام وإلى الكعبة المشرفة وإلى كل مكانٍ من أماكن الشعائر المقدسة، داعين لأنفسهم بأن يكتب الله سبحانه وتعالى لهم زيارة بيته الحرام حجاجاً ومعتمرين في أعوام قادمةٍ، وداعين للحجيج من الأهل والأقارب والجيران والمعارف بأن يُتموا شعائرهم على أكمل وجه، ويعودوا إلى ديارهم سالمين غانمين مستبشرين القبول من الله عزَّ وجلَّ.

وكانت أخبار الطقس تصل إلينا، وشاهدنا بأم أعيننا هذا التحول الكبير في الطقس وتلك الأمطار الشديدة والريح العاصفة، لكن لم يخطر على بالنا أبداً أن مجموعةً من المسلمين كانت تلك العاصفة سبباً في دخولهم عرفات وإتمامهم شعائر الحج!
ما أقدرك يا الله، وما أرحمك يا الله، وما أرأفك يا الله يا رب العالمين. ومَن أصدق منك ربنا حديثاً وأنت سبحانك تقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؟ ومَن أوفى منك وعداً وأنت تقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾؟ ومَن أوضح منك بياناً إذ تقول: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾؟
وها هو رسولنا الكريم يوجهنا ويرشدنا ويهدينا؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ]، ويقول  عليه الصلاة والسلام: [ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ]، ويقول صلى الله عليه وسلم: [قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي]، ويقول كذلك: [مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ]، ويقول أيضاً: [لَا تَعْجِزُوا فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَهْلِكُ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ].
إنه الدعاء إذن، سلاح المؤمن، إنه - كما يقول أهل العلم - نعمةٌ عظيمةٌ وعبادةٌ في حد ذاته؛ طالما أنت تدعو الرحمن فأنت في عبادةٍ ولك الأجر على ذلك، والله سميعٌ عليمٌ بصيرٌ خبيرٌ يعلم كل ما في صالحك، ويدرك كل أحوالك، فهو الحكيم، يعرف متى يعطيك، ومتى يُبعد عنك ما تريد فقد يكون فيه شرٌ لك.
قال صلى الله عليه وسلم: [يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ: يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي]؛ فإذا جاء الداعي بشروط الدعاء - وأهمها الإخلاص والدعاء بما هو مشروع - واستمر عليه فإنّ ثمرة هذا الدعاء ستكون مضمونةً بإذن الله، فسيحصل على الخير وينال منه ما يريد، فدُعاء المُسلم لا يُهمَل بل يُعطىٰ إليه عاجلاً أو آجلاً؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عنهُ من السُّوءِ مثلَها]. قالوا: إذاً نُكثِرُ، قال: [اللهُ أكثرُ]. وعلى ذلك فقد قسم العلماء الدعاء والاستجابة إلى ثلاث مراتب؛ الأولى: يستجيب الله سبحانه وتعالى لدعائك، الثانية: لا يستجيب الله لدعائك لكنه يدخره لك فيجعله في ميزان حسناتك فينفعك يوم القيامة، الثالثة: يدفع الله به عنك بلاءً لم تكن تعلمه أنت ويعلمه الله علام الغيوب ومقدر الأقدار.
يقول أحد العارفين عن الدعاء أنه سببٌ عظيمٌ للفوز بالخيرات والبركات، وسببٌ لدفع المكروهات والشرورِ والكربات، وهو استعانةٌ من عاجزٍ ضعيفٍ بقويٍ قادرٍ، واستغاثةٌ من ملهوفٍ بربٍ مُغيثٍ، وتوجهٌ إلى مصرِّفِ الكون ومدبِّر الأمر، لِيُزيلَ عِلَّةً، أو يَرْفَعَ مِحْنَةً، أو يَكْشِفَ كُرْبَةً، أو يُحَقِّقَ رجاءً أو رَغْبَةً. فكم سمعنا عمَّن أُغلِقت في وجهه الأبواب، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ثم طَرَقَ باب مُسبب الأسباب، وألحّ على الله في الدعاء، ورفع إليه الشكوى، وبكى بين يدي الرب الرحيم، فَفُتِحَتْ له الأبواب، وانفرج ما به من شِدّةٍ وضيق. فالإلحاح في الدعاء سببٌ للإجابة؛ فالله عزَّ وجلَّ يفرح بانكسار عبده بين يديه يباهي به ملائكته، ويعطيه أكثر مما يتوقع ويتخيل.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ]، والحديث وإن كان سنده غير ثابتٍ، لكن معناه صحيح؛ يقول العلماء إن الإلحاح في الدعاء، هو الذي يفتح الأبواب الموصدة والطرق المغلقة، وهو الذي يسهل كل صعبٍ بإذن الله، وهو ملازمٌ للدعاء، فلا ييأس المسلم من الإجابة، وفي ذلك انقيادٌ لله واستسلامٌ له، وإظهارٌ لافتقار العبد إليه، وفيه رضى الله ومحبته، كما أنّه ليس اعتراضاً على القَدر، بل هو سببٌ مشروعٌ لبلوغ المراد، وهو من علامات العبودية والإيمان. ويقولون إن معنى الإلحاح في الدعاء هو لزومه، وتكراره والمداومة عليه، وعدم اليأس من الإجابة؛ وإن أبطأ حصول المطلوب. والمُلِّحون في الدعاء هم الملازمون لسؤال ربهم في جميع الحالات، اللائذون بباب كرمه، لا تقطعهم المحن عن الرجوع إليه، ولا تبعدهم النعم عن الإقبال عليه؛ لأن دعاء المُلِّح دائمٌ غير منقطعٍ، فهو يسأل ولا يرى إجابة، ثم يسأل، ثم يسأل، فلا يرى إجابة، وهكذا. فلا يزال يلح، ولا يزال رجاؤه يتزايد، وفي ذلك دلالةٌ على صحة قلبه، وصدق عبوديته، واستقامة وجهته. فقلب المُلِّح معلقٌ دائماً بمشيئة الله، واستعمال اللسان في الدعاء عبادةٌ، وانتظار مشيئة الله عبادةٌ، فيكون العبد بين عبادتين سريتين، ووجهتين فاضلتين؛ فلذلك يحبه الله تعالى.
يقول الشاعر:
يا مَن له عنت الوجوهُ بأسرِها
وله جميعُ الكائناتِ توحدُ
يا مُنتهىٰ سُؤلي وغايةَ مطلبي
مَن لي إذا أنا عن جنابِك أُطردُ
أنتَ المؤملُ في الشدائدِ كلِها
يا سيدي ولك البقاءُ السرمدُ
ولك التصرفُ في الخلائقِ كلِها
فلذاكَ تَهدي مَن تَشاءُ وتُسعدُ
فامنن عَليّ بتوبةٍ يا مَن له
قلبُ المُحبِ مُقدِّسٌ ومُوحِّدُ

أحبتي .. آمنا بالله، وشهدنا معجزاته، وعلمنا أنه من (عناية الله) أنه لا يُرجِع ضيفاً ولا يَرد ملبياً.
سبحانك يا الله، ها نحن عبيدك، نرفع إليك أكفنا بالدعاء، نتضرع إليك فلا تردنا خائبين. اكلأنا اللهم بعنايتك، واشملنا برعايتك، واكتب لنا اللهم حجاً مبروراً نختم به حياتنا وأعمارنا لنرجع إليك بصحائفنا خاليةً من الذنوب والخطايا كيوم ولدتنا أمهاتنا. إنك سبحانك ولي ذلك والقادر عليه.


http://bit.ly/2YRONZR