الجمعة، 17 يناير 2020

دعاةٌ مجهولون


الجمعة 17 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٢
(دعاةٌ مجهولون)

قبل عدة سنواتٍ، كان صاحبنا السعودي في رحلةٍ إلى قرقيزيا "إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً، تقع على الحدود مع الصين"، كتب يقول: دُعيت إلى زيارة شيخٍ كبيرٍ تجاوز السبعين من عمره، كان داعيةً من الجيل الأول، وكان يتكلم العربية الفصحى بلكنةٍ أعجميةٍ، إلا أنه ضليعٌ في علوم الشريعة، ذو باعٍ طويلٍ في الدعوة والإصلاح. كانت ضيافته كريمةً، حاول تدريبنا فيها على أكل الأرز بالأعواد الصينية، فكان لا يعلق بأعوادنا إلا الحبة والحبتين بعد عناءٍ، ثم تسقط في الطريق فلا تصل إلى أفواهنا إلا الأعواد الخالية، حتى اضطررنا لاستخدام الأيدي النجدية المحترفة في التعامل مع الأرز. انساب الحديث عذباً شيقاً مع هذا الشيخ الكريم عن جهودهم الدعوية، وجهادهم الإصلاحي الطويل، وتحت ضغط الفضول العارم سألتُه: "يا شيخ! كيف درَستَ كل هذه العلوم، وكوّنتَ كل هذه الحصيلة العلمية، وقد كنتم إلى عهدٍ قريبٍ في قرقيزستان تحت الحكم الشيوعي الغاشم الذي كان يقتل من ينطق العربية، أو يتسمى باسمٍ إسلامي، فضلاً عمّن يمارس شعائر الإسلام الظاهرة، وأنت يا شيخ وُلدتَ ونشأتَ تحت هذا الحكم، عشتَ صدر حياتك تحت هذا الحكم الشرس الذي انتهز فرصة سقوط الخلافة فطمس كل مظاهر الإسلام، وأعدم من المسلمين ما يزيد عن عشرين مليون مسلمٍ، وفرض الإلحاد، فلم يترك للمسلمين أية فرصةٍ لممارسة شعائر دينهم، فضلاً عن العمل في ميدان الدعوة والإصلاح"؟! تبسّم الشيخ الكبير، ورفع صدره إلى الأعلى، وكأنه يستنشق رائحة الظفر بعد الصبر، والانتصار بعد الانكسار، والفرج بعد الشدة والكرب، وقال: "نعم، كنّا تحت حكمهم، لكن لم نستسلم لهم!! كنّا أقوى منهم بإيماننا، وإصرارنا، وقدرتنا على التكيّف. كان آباؤنا يحفرون أنفاقاً تحت الأرض على عمقٍ بعيدٍ، وهذه الأنفاق تُفضي إلى أقبيةٍ وإلى فصولٍ ومدارس تستوعب عشراتِ وربما مئاتِ الأطفال، كلها تحت الأرض. وكان الوالدان المسلمان إذا تجاوز طفلهما الخامسة من عمره تسللوا به في جُنح الظلام، وساروا بحذرٍ خلف مرشد المدرسة حتى يبلغ الطفل فوهة النفق -وعادةً ما تكون هذه الفوهة في حجرةٍ من بيتٍ مهدوم، أو خرابةٍ مهجورةٍ- وهنا تستلمه المدرسة وتُدخله النفق لينضم مع رفاقه تحت طباق الأرض، ليغيب لمدة سنتين أو ثلاثٍ لا يظهر، ولا يتصل ولا حتى بوالديه، لكنه يخرج وقد حفظ القرآن أو أكثره، ومن الحديث ما قُدِّر له، ومن علوم العقيدة والفقه واللغة العربية"، سألتُ الشيخ عما درَسوه في العربية فقال: "حفظتُ ألفية ابن مالك"! ثم تحامل على نفسه ونهض متثاقلاً إلى كوّةٍ في الجدار ومد يده النحيلة إلى كتابٍ متهالكٍ، فجاء به وفتحه أمامي؛ فإذا هو نسخته الخاصة من شرح ابن عقيل، وكنتُ مأخوذاً بالدهشة والعَجب البالغ من شيءٍ أراه بعينيّ، وأسمعه بأذنيّ، لو حكاه لي الثقاة لشككت فيه!
كانت الشيوعية جاثمةً بكل جبروتها وعسفها وقسوتها على الناس حتى ظنت أنها قد قدرت عليهم، وقطعت صلتهم بالإسلام؛ لكنّ جيلاً كان يترعرع تحت الأرض، ويتشرب الإسلام من مصادره؛ الكتاب والسنة، ويتضلع من أعمق وأجمع مراجع الشريعة واللغة، كان تحت الأرض دعاةٌ ومصلحون نذروا حياتهم لله، فغابوا في جوف الأرض حيث لا شمس ولا هواء، ولا لهو، ولا لعب، وإنما عملٌ شاقٌ مضنٍ خطيرٌ ثمنه حياة أحدهم ومن معه لو افتضح أمره!
كانوا يبنون جيلاً جديداً في أقسى ظرفٍ يمكن أن يمر به مجتمع، ما يئسوا، وما ضعفوا، ولا استكانوا، ولا ألقوا السلاح، وما خضعوا لواقعهم المتوحش ولا استرهبتهم سطوته؛ فلما سقطت الشيوعية، وطوتها سُنة الله في الأشجار الخبيثة، خرجت طلائع ذلك الرعيل إلى الشمس لتعيد البلاد إلى هويتها، والعباد إلى دينهم، فما هي إلا بضع سنواتٍ حتى كانت حواضر تلك الولايات الشيوعية تضج بالأذان والصلاة من مساجدها التي لا تُحصى، وبأئمتها ودعاتها الذين نبتوا في تلك السنوات العجاف، وفِي أعماق الأرض!

أحبتي في الله .. يقول راوي القصة: هذا الدين مكينٌ، راسخٌ، أنزله الله ليبقى، ولينتصر، ولن تطمسه أية قوةٍ مهما بلغت قدرتها وشراستها؛ لكن قد يُبتلى الدعاة بأيامٍ شدادٍ، ليمتحن الله صدقهم وصبرهم، ليميز الله اليائسين الضعاف المهازيل من الأقوياء ذوي الصدق واليقين، فإذا ألقى الدعاة السلاح وأسلموا الثغور تحجّجاً بالظروف القاسية، وتذرعاً بالتغيرات الجارفة، إذا جلسوا يبكون على أبواب الدعوة التي أُقفلت، وتركوا خلفهم ألف بابٍ مفتوحٍ، وألف حيلةٍ ممكنةٍ، وألف وسيلةٍ متاحةٍ؛ فاعلم أنهم وقعوا في حبائل اليأس التي نصبها لهم الشيطان، وأنهم ما امتثلوا أمر ربهم بالتحرّف للدعوة، والانحياز إلى الممكن من برامجها، ومشروعاتها المتاحة، وإنما استكانوا للعذر المصنوع، والحجة المزيفة، وخسروا شرف الصمود وأجر الصبر، ويوشك الله أن يستبدلهم بغيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم.

هؤلاء الدعاة في هذه القصة (دعاةٌ مجهولون) ليسوا عرباً، مارسوا عملهم في الكهوف بإخلاصٍ تامٍ، ولسنواتٍ طويلةٍ، واثقين في وعد الله ثقةً كاملةً، أحسنوا الظن به، وتحملوا من أجل الدعوة إلى دينه كل المشاق والصعوبات التي نتصورها والتي لا نتصورها. هؤلاء (دعاةٌ مجهولون) لا يعلم أحدٌ منا أسماءهم، ولا يعرف صورهم، وهبوا أنفسهم بغير حدودٍ لقضية العمر، يعيشون من أجلها، ويموتون دونها؛ فحفظوا دين الله ونقلوه إلى أبنائهم بكل إخلاصٍ وتفانٍ وصدق؛ امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾.
إنها الدعوة إلى الله أُمِرَ بها رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام؛ بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾. وشرَّفه الله بأن وصفه بأنه داعٍ إليه ينير طريق الهداية للبشرية جمعاء كما لو كان سراجاً منيراً؛ يقول تعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾.
وهي الدعوة إلى الحق؛ يقول تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْئٍ﴾، ويقول: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾، وهي الدعوة إلى الصراط المستقيم؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾. كما أنها دعوة جميع الرسل؛ يقول تعالى: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾. وهي دعوةٌ إلى النجاة من النار وغفران الذنوب؛ قالها مؤمن آل فرعون لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾، وقالها الجن: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.

يقول العلماء إن الدعوة إلى الله واجبةٌ على كل مسلمٍ ومسلمةٍ، كلٌ حسب قدرته وعلمه؛ يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾، وهذا النص عامٌ، مطلقٌ في الزمان: ليلاً ونهاراً، ومطلقٌ في المكان: شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، ومطلقٌ في الجنس: العرب والعجم، ومطلقٌ في النوع: الرجال والنساء، ومطلقٌ في السن: الكبار والصغار، ومطلقٌ في اللون: الأبيض والأسود، ومطلقٌ في الطبقات: السادة والعبيد والأغنياء والفقراء. فالدعوة لهؤلاء جميعاً واجبةٌ لأن هذا الدين لكل الناس؛ قال الله تعالى: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: [لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ]، كما قال: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً]، وقال أيضاً: [نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمِعَ مقالتي، فبلَّغَها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ، غيرُ فَقيهٍ، وربَّ حاملِ فِقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ].
إن مقام الدعوة إلى الله من أشرف مقامات التعبد؛ يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
ومن ثمرات الدعوة إلى الله مضاعفة الأجور؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا]، ومن ثمارها الهداية واعتبار الداعي إلى الله من المحسنين؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

والدعوة إلى الله واجبٌ على مجموع الأمة؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فكل واحدٍ منا يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، فما قام به غيره سقط عنه، وما عجَز عنه لم يُطالب به.
ويحدد لنا الله سبحانه وتعالى منهج الدعوة وآدابها؛ يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، فكل مسلمٍ مطالبٌ بأن يكون داعيةً إلى الإسلام قدر ما يستطيع؛ فيبدأ بنفسه يصلح من نفسه ليكون قدوةً ونموذجاً ومثالاً طيباً للمسلم الصالح. ثم يكون مصلحاً لأسرته وعائلته وجيرانه وأصدقائه وزملائه، بالنصح والإرشاد والحكمة والموعظة الحسنة والصبر. ثم يكون سفيراً لدينه لغير هؤلاء من الناس؛ بسلوكه القويم ومعاملاته الراقية المتميزة التي تتسم بالصدق والأمانة والدقة والتواضع والبشاشة وعدم التحيز وسرعة الإنجاز.
ليست الدعوة إلى الله وظيفةً رسميةً، وليست قاصرةً على مؤسساتٍ بعينها ورجالٍ يعملون بها، وإنما هي واجبٌ علينا جميعاً.

أحبتي .. أولئك (دعاةٌ مجهولون) ضحوا بكل نفيسٍ وغالٍ من أجل الدعوة إلى الله الحق، وإلى الدين الذي أكمله لنا وأتمم به علينا نعمته؛ فماذا عنا نحن؟ ماذا قدمنا للدعوة؟ ليسأل كلٌ منا نفسه: "ماذا قدمتُ لديني؟" ثم يتصور للحظةٍ أنه يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى يسأله: "ماذا قدمتَ لدينك؟".
أحبتي .. إن كان منا مَن يجيد الكلام أو الكتابة، أو استخدام التقنيات الحديثة، أو التعامل مع شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، أو كان متميزاً في أي مجالٍ آخر، فليبادر إلى توظيف مواهبه وقدراته -وكلها من نعم الله عليه- في الدعوة إلى الله.
ما تزال الفرصة متاحةً أمامنا ونحن على قيد الحياة؛ أن يكون كلٌ منا داعياً إلى الإسلام قدر ما يستطيع؛ حَدِّد ما يمكن لك فعله، وابدأ بسرعةٍ في التنفيذ دون إبطاءٍ أو تسويفٍ، وحاسب نفسك بشدةٍ لا تراخيَ فيها، وبقسوةٍ لا لين معها، حتى تكون من المفلحين الفائزين.