الجمعة، 18 يناير 2019

إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً


الجمعة ١٨ يناير ٢٠١٩م

خاطرة الجمعة /١٧٠
(إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً)

رجلان حجا بيت الله الحرام، وأثناء العودة إلى ديارهما جلسا في صالة الانتظار بمطار جدة الدولي، فتحدث أحدهما إلى الآخر فقال: "أنا أعمل مقاولاً، وقد أنعم الله عليّ بالحج هذا العام للمرة العاشرة"، فأومأ الآخر برأسه، وكان اسمه سعيد، وقال: "حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً"؛ فابتسم الرجل وقال: "أجمعين. وأنتَ هل حججتَ قبل ذلك؟"، أجاب سعيد بعد تردد: "والله يا أخي إن لحجتي هذه قصةٌ طويلةٌ، ولا أريد أن أزعجك بتفاصيلها"، ضحك الرجل وقال: "بالله عليك أخبرني، فكما ترى نحن لا نفعل شيئاً سوى الانتظار"، ابتسم سعيد وقال: "نعم الانتظار هو ما تبدأ به قصتي؛ فقد انتظرت سنين طويلة حتى حججت؛ فبعد ثلاثين عاماً من العمل معالجاً فيزيائياً في مشفىً خاصٍ استطعت أن أجمع كلفة الحج. وفي اليوم الذي ذهبت فيه لأحجز لنفسي مكاناً في أحد أفواج الحجاج، صادفت إحدى الأمهات التي أعالج ابنها المشلول وقد كسا وجهها الهم والغم وقالت لي: "أستودعك الله يا أخ سعيد فلن ترانا في المشفى بعد اليوم". استغربت كلامها؛ وسألتها إن كانت غير راضيةٍ عن علاجي لابنها وتفكر في نقله لمكانٍ آخر، فقالت لي: "لا يا أخ سعيد، يشهد الله أنك كنت لابني أحَّن من الأب، وقد ساعده علاجك كثيراً بعد أن كنا قد فقدنا الأمل"، ومشت حزينة. استغرب الرجل وقاطع سعيد قائلاً: "إذا كانت راضيةً عن أدائك، وابنها يتحسن فلِمَ تَرَكَتْ العلاج؟"، أجابه سعيد: "هذا ما فكرتُ به وشغل بالي؛ فذهبت إلى إدارة المشفى وسألت؛ فتبين لي أن والد الصبي فَقَدَ وظيفته ولم يعد يستطيع تحمل نفقة العلاج". أبدى الرجل حزنه وقال: "لا حول ولا قوة إلا بالله، مسكينةٌ هذه المرأة. وكيف تصرفتَ؟"، أجاب سعيد: "ذهبتُ إلى المدير ورجوته أن نستمر في علاج الصبي على نفقة المشفى، ولكنه رفض رفضاً قاطعاً، وقال لي: هذه مؤسسةٌ خاصةٌ وليست جمعيةً خيريةً. خرجتُ من عند المدير حزيناً مكسور الخاطر على المرأة، وفجأةً وضعت يدي على جيبي الذي فيه نقود الحج فتسمرتُ في مكاني لحظةً، ثم رفعتُ رأسي إلى السماء وخاطبت ربي قائلاً: اللهم أنت تعلم بمكنون نفسي، وتعلم أنه لا شيء أحب إلى قلبي من حج بيتك، وزيارة مسجد نبيك، وقد سعيتُ لذلك طوال عمري ولكني آثرتُ هذه المسكينة وابنها على نفسي فلا تحرمني فضلك. وذهبتُ إلى المحاسب ودفعتُ كل ما معي له عن أجر علاج الصبي لستة أشهرٍ مقدماً، وتوسلت إليه أن يقول للمرأة بأن المشفى لديها ميزانيةٌ خاصةٌ للحالات المشابهة". تأثر الرجل ودمعت عيناه وقال: "بارك الله فيك، وفي أمثالك". ثم قال: "إذا كنتَ قد تبرعتَ بمالك كله فكيف حججت إذن؟"، فأجاب سعيد: "رجعتُ يومها إلى بيتي حزيناً لضياع فرصة عمري في الحج، ولكن الفرح ملأ قلبي لأني فرجتُ كربة المرأة وابنها، فنمتُ ليلتها ودمعتي على خدي؛ فرأيت في المنام أنني أطوف حول الكعبة، والناس يسلمون عليّ ويقولون لي: "حجاً مبروراً يا حاج سعيد فقد حججتَ في السماء قبل أن تحج على الأرض، دعواتك لنا يا حاج سعيد". فاستيقظتُ من النوم وأنا أشعر بسعادةٍ غامرة، فحمدتُ الله على كل شيءٍ ورضيت بأمره. وما إن نهضتُ من النوم حتى دق جرس الهاتف، وإذا به مدير المستشفى الذي قال لي: "أنجدني؛ فصاحب المشفى يريد الذهاب إلى الحج هذا العام وهو لا يذهب دون معالجه الخاص، لكن زوجة معالجه في أيام حملها الأخيرة ولا يستطيع تركها، فهلا أسديتني خدمة ورافقته في حجه؟"، وافقتُ على الفور، وسجدتُ لله شكراً. وكما ترى فقد رزقني الله حج بيته دون أن أدفع شيئاً، والحمد لله، وفوق ذلك فقد أصر الرجل على إعطائي مكافأةً مجزيةً لرضاه عن خدمتي له، وحكيتُ له عن قصة المرأة المسكينة فأمر بأن يُعالَج ابنها في المستشفى على نفقته الخاصة، وأن يكون في المشفى صندوقٌ خاصٌ لعلاج الفقراء، وفوق ذلك فقد عَيَّنَ زوجها بوظيفةٍ في إحدى شركاته. كما أنه أعاد إليّ مالي الذي دفعته. أرأيت فضلاً أعظم من ذلك؟ إنه فضل ربي". نهض الرجل وقبل سعيد على جبينه قائلاً: "واللهِ لم أشعر في حياتي بالخجل مثلما أشعر الآن؛ فقد كنتُ أحج المرة تلو الأخرى وأحسب نفسي قد أنجزتُ شيئاً عظيماً، وأن مكانتي عند الله ترتفع بعد كل حجةٍ، ولكني أدركتُ الآن أن حجك بألف حجةٍ من أمثالي؛ فقد ذهبتُ أنا إلى بيت الله، أما أنت فقد دعاك الله إلى بيته".
هذه قصةٌ منشورةٌ على مواقع التواصل الاجتماعي تبين لنا (إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً).

أحبتي في الله .. كنت أحدث أحد أصدقائي بهذه القصة فوجدته يقول: صحيح (إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً) صدق الله العظيم؛ فتعجبت وقلت له: "إنها ليست آيةً من آيات القرآن الكريم كما تعتقد، والقرآن الكريم كلام الله لا يجوز زيادة أو انتقاص كلمةٍ من كلماته أو حرفٍ من حروفه، ولا حتى تغيير تشكيلها".
ومع ذلك فإن معنى العبارة صحيحٌ؛ ففي القرآن الكريم آيتان مشابهتان في المعنى مع اختلافٍ في الألفاظ؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾.
يقول المفسرون للآية الكريمة: الأولى أن الله يتقبل عن المحسنين أحسن الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم، بأحسن ما كانوا يعملون، وفي هذا ترغيبٌ عظيمٌ وتشويقٌ للنفس الضعيفة إلى ثواب الله، كلما فترت. وإن الله لا يضيع ثوابَ عمل من أحسن فأطاع الله واتبع أمره، فيذهب به، بل يوَفّره أحوجَ ما يكون إليه. وسُمّي الثواب أجراً لوقوعه جزاءً على الأعمال وموعوداً به فأشبه الأجر.
وقال المفسرون للآية الثانية: إنا لا نضيع ثواب من أحسن عملاً فأطاع الله، واتبع أمره ونهيه، بل نجازيه بطاعته وعمله الحسن جنات عدن تجري من تحتها الأنهار. والمراد بإحسان العمل هو أن يريد العبد بعمله وجه الله مخلصاً له وحده، لا يريد به رياءً ولا سمعةً، وأن يكون فيه متّبعاً لشرع الله موافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذان هما شرطا حُسن العمل؛ فالعبرة هي بحُسن العمل وليست بكثرته. وهذا العمل الحسن لن يضيعه الله تعالى بل سيحفظه للعاملين وسوف يوفيهم أجورهم بحسب أعمالهم وبفضله سبحانه وكرمه وإحسانه.

ومما ورد في السُنة المشرفة قصة رجلٍ مسلمٍ يحب الخير لإخوانه، ويرجو لهم السلامة، مرّ بغصن شجرةٍ على ظهر طريقٍ، أشواكُه تؤذي المسلمين، فعمد إلى الغصن فقطعه، وحمله بعيداً عن ِ طريق ِالمسلمين؛ فاستحق بذلك رحمة الله تعالى، ورضوانه وجنّةَ الخلد ونعيمها. أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ في الجنةِ في شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانتْ تُؤْذِي المسلمينَ]. وفي روايةٍ: [مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فقالَ: واللهِ لأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ المسلمينَ لَا يُؤْذِيهِمْ، فَأُدْخِلَ الجَنَّةَ]. وفي روايةٍ: [بينما رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللهُ لهُ، فَغَفَرَ لهُ].
ومما ورد كذلك قصة رجلٍ آخر كان يمشي في طريقٍ، شعر بالعطش الشديد، بحث حوله فرأى بئراً؛ فنزل فيه وشرب وارتوى. لم يبتعد الرجل عن البئر كثيراً حين رأى كلباً يلهث، يأكل تراب الأرض من العطش، قال الرجل في نفسه: "بلغ العطشُ بالكلب مثل الذي كان بلغ بي"؛ فأخذته الرأفة بالكلب وقرر أن يسقيه، فخلع خفه ونزل إلى البئر فملأ الخف ماءً وحمله بفمه وصعد، فسقى الكلب. ولم يكن الله سبحانه وتعالى غافلاً عما فعله الرجل، فأكرمه غاية الإكرام، ورحمه واسع الرحمة، فشكر له صنيعه وغفر له؛ وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: [بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ بِي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ] قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا فَقَالَ: [نَعَمْ، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ].

أحبتي .. مِلاك ذلك كله الآية الكريمة: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ ما كانوا يَعمَلونَ﴾ فهذا وعدٌ من الله سبحانه وتعالى لكل مؤمنٍ يعمل صالحاً: حياةٌ طيبةٌ في الدنيا، وحُسن الجزاء في الآخرة، فصدق الله العظيم، ثم صدق من قال: "لا تعبدوا الله ليعطي، بل اعبدوه ليرضى؛ فإن رضيَ أدهشكم بعطائه".

اللهم إنا نسألك أن تهدينا لصالح الأعمال، لا يهدينا لها إلا أنت سبحانك. ونسألك اللهم الجنة وما قرّب إليها من قولٍ وعملٍ، ونعوذ بك من النار وما قرّب منها من قولٍ وعملٍ.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/H4M42d