الجمعة، 2 يوليو 2021

على نياتكم تُرزقون

 

خاطرة الجمعة /298


الجمعة 2 يوليو 2021م

(على نياتكم تُرزقون)

 

يُروى أنه كان في «دمشق» سائق سيارة أجرة استوقفه يوماً رجلٌ فقيرٌ وشبه عاجزٍ، سأله السائق: "إلى أين"؟ قال الرجل: "إلى أقصى جادة في الجبل، وما معي دراهم أعطيك إيَّاها"، قال له السائق: "تفضل"، وأوصله إلى آخر جادة، فلما نزل من المركبة، أقبل عليه أولاده، وسألوه: "أجئتنا بالخبز يا أبت"؟ فقال: "لا والله ما جئتُ بالخبز" وأخفى السبب في نفسه؛ أنه لا يملك المال.

‏أراد السائق أن يُكمل معروفه، فنزل إلى جادةٍ في أسفل الجبل، واشترى خمسة أكياس خبزٍ وعاد إلى الرجل، وأعطاه الخبز. أقسم السائق بالله أن أولاد الرجل الفقير التهموا نصف الخبز في دقائق، من شدة جوعهم. بعد ذلك نزل السائق بسيارته من الجبل إلى المدينة يسعى في كسب رزقه ويبحث عن زبونٍ وراكبٍ جديدٍ؛ فاستوقفه سائحان وطلبا منه أن يصحبهما إلى المطار؛ فأوصلهما إلى المطار، وأعطياه ألفين وخمسمائة ليرة، والتسعيرة الاعتيادية لهذه الرحلة خمسمائة ليرة! وهو في المطار جاءه سائحان آخران طلبا أن يوصلهما إلى فندق في «دمشق» وأعطياه مئتي دولار، وهو مبلغ يُعادل عشرة آلاف ليرة! رجع السائق إلى بيت الرجل الفقير أعلى الجبل، حاملاً ما اشتراه مما لذ وطاب من الفواكه والحلويات واللحوم، وقال للرجل الفقير: "ساق الله لي كل هذا الرزق بسببك، لأنني خدمتك وكانت خدمتي لك خالصةً لوجه الله تعالى، وعدتُ إليك لأني أردتُ أن أعوّد نفسي وأربيها على التعلق بالله تعالى فهو الرزاق، وأربّيها على التصدق وإخلاص النية".

 

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصة بقصةٍ أغرب منها حدثت في «الرياض» إذ كان هناك شخصٌ من سكان هذه المدينة حالته المادية ضعيفة؛ راتبه التقاعدي لا يتجاوز ثلاثة آلاف وخمسمائة ريال، عمل المستحيل لكي يزيد من دخله ولكن محاولاته كانت تبوء بالفشل، وكان يسمع من الناس أن «الإمارات» دولةٌ غنيةٌ وبها رزقٌ وبيعٌ وشراء، وكان يراوده التفكير دائماً بالذهاب إلى تلك الدولة ليبيع ويشتري هناك، كان يعتقد بأن «دبي» مثل الحراج في مدينته! وعندما استلم راتبه أعطى زوجته ألف وخمسمائة ريال، وأخذ ألفي ريالٍ وقال لزوجته: "سوف أذهب لأتاجر بهذين الألفين في «الإمارات»"، وزوجته مسكينةٌ لا تعرف «الإمارات» ولا التجارة، قالت له: "توكل على الله واذهب"، وقامت بتوديع زوجها ودعت له بالخير والبركة في هذه التجارة! ذهب الرجل واشترى تذكرة طائرة لمدينة «دبي»، وفي الطائرة كان الراكب بجواره شخصاً سعودياً أخذ يتحدث معه ويسأله عن سبب ذهابه إلى «دبي»، فقال له: "أنا إنسان على باب الله، وأردت أن أخوض غمار التجارة في «دبي» لعلي أكسب بعض المال"، سأله: "وكم معك من النقود"؟ قال: "ألف وثلاث مائة ريال، كانت ألفين فاشتريت تذكرة الطائرة بسبع مائة ريالٍ؛ وهذا ما بقي معي"، تبسم الرجل وسكت. وعند وصول الطائرة إلى «دبي» سأله الرجل: "أين ستسكن"؟ قال: "لا أعلم، سوف أبحث لي عن مكان"، قال له الرجل: "بل تأتي معي للمكان الذي سوف أسكن فيه"، قال: "اعفني؛ فأنا سأبحث عن مكانٍ يكون على قدر استطاعتي"، قال له الرجل: "لا تقلق؛ أنت ستكون في ضيافتي"، فرفض الفقير بعزة نفسٍ، إلا أن الرجل أصر وألح عليه حتى وافق على الذهاب معه؛ فلما وصلا إلى الفندق إذا هو فندقٌ فخمٌ، وقام الرجل وأوصل الفقير إلى غرفته، وقال له: "كُن جاهزاً في المساء فسوف آخذك معي إلى مكانٍ فيه بيعٌ وشراءٌ لتتاجر بريالاتك". وفي المساء مر الرجل على الفقير وأخذه معه إلى إحدى البنايات الشاهقة، ودخل معه إلى مكانٍ كبيرٍ يعج بأناسٍ من مختلف الجنسيات كانوا جالسين على طاولة اجتماعات، جلس الرجل وأجلس الفقير معه، وبدأ الحديث بين الرجل والموجودين باللغة الإنجليزية، والفقير لا يعرف الإنجليزية، وكان الرجل وهو يتحدث يشير إلى هذا الفقير، وعندما أشار إليه ارتفعت أصوات المجتمعين وغضبوا، والرجل يشير إلى الفقير مرةً أخرى حتى أن الفقير شك في الأمر وظن بأن الأمر فيه نصبٌ واحتيالٌ عليه؛ فأوجس في نفسه خيفةً وهَمّ بالهرب عدة مرات إلا إنه كان يتراجع حتى يرى النهاية. بعد قليلٍ هدأت الأصوات وقام الجميع يوقعون أوراقاً، ومن ضمنهم هذا الرجل الذي قام بإخراج دفتر شيكات، وحرر ثلاثة شيكات أعطاها لهم، وحرر الرابع وأعطاه للفقير وقال له: "احتفظ بهذا الشيك معك حتى نخرج"، فلما انتهى الاجتماع وذهب الرجل مع الفقير قال الرجل: "أنا جئتُ لغرض شراء برجٍ من الأبراج في «دبي» وكان هذا هو الموعد لتوقيع صفقة البيع فأردتُ أن تستفيد معي فاشترطتُ أن تكون أنت شريكٌ في السعي فغضبوا جميعاً، إلا إنني قلتُ إن لم يكن هذا الشخص شريكاً في السعي فسوف أتراجع عن الشراء فوافقوا، وهذا شيكٌ بمليوني درهمٍ إماراتي، ارجع إلى أهلك بمليونين بدل الألفين، واعلم أن هذا رزقٌ قد ساقه الله إليك؛ والدليل على ذلك أنني دائماً أركب في الدرجة الأولى إلا إنني هذه المرة لم أجد حجزاً في الدرجة الأولى، وحاولتُ بشتى الطرق ولكن دون جدوى، وما ذلك إلا لأن الله أراد لك هذا الرزق، فاذهب واحمد الله". وعاد الفقير إلى زوجته وقد أصبح غنياً، وأخبرها بما كان معه من الأمر فسجدت شكراً وحمداً لله عزَّ وجلَّ.

 

تقول الحكمة المشهورة (على نياتكم تُرزقون)؛ وانظر إلى رزق السائق ورزق الرجل الفقير، وعلى العكس منهما، فإن النية السيئة تكون دائماً خساراً على صاحبها، إنها الوجه الآخر لذات المقولة (على نياتكم تُرزقون)؛ إذ يروي أحدهم عن رجلٍ اصطحب زوجته إلى محل الهدايا، وقال لها: "أريد أن تختاري لأمي هديةً على ذوقك"، شعرت الزوجة بالغيرة بداخلها، فاختارت أقل هديةٍ قيمةً، وفي المساء أتى الرجل إلى زوجته، وقدَّم لها الهدية التي اختارتها، وقال لها: "أحببتُ أن تشتري هديتك بنفسك؛ لتكون كما تحبينها"، أصيبت بإحباط؛ لأنها لو أحبت لغيرها ما تُحب لنفسها لكانت هديتها أجمل.

 

علق أحدهم على مثل هذه القصة بقوله: (على نياتكم تُرزقون) تعني أنه عندما تكون نقياً من الداخل يمنحك الله نوراً من حيث ﻻ تعلم، ويحبك الناس من حيث ﻻ تعلم، وتأتيك مطالبك من حيث ﻻ تعلم، صاحب النية الطيبة يتمنى الخير للناس جميعاً دون استثناء؛ فـسعادة الآخرين لن تأخذ من سعادتك، وغناهم لن ينقص من رزقك، وصحتهم لن تسلبك عافيتك، فـكن صاحب نيةٍ طيبةٍ وأثرٍ طيب.

 

لم ترد كلمة "نوى" ولا مشتقاتها في القرآن الكريم، لكن وردت الإشارة إليها بمعناها في العديد من الآيات؛ من ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وقوله: ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ﴾، وقوله: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ﴾، وقوله: ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ . يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾، وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾، وقوله: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.

 

وعندما سُئل أحد العلماء عن قول (على نياتكم ترزقون) أجاب: هذا القول ليس مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعلمه ثابتاً في شيءٍ من الأحاديث الصحيحة، ولا هو ثابتٌ عن أحدٍ من الصحابة ولا عن أحدٍ من التابعين، ولكنه كلامٌ يُقال على أنه من الحِكَم، وله ما يشهد له من الأدلة؛ كالحديث القدسي {أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي}. فقوله لا بأس به إن شاء الله تعالى، ولا جرم أن النية الطيبة المقرونة بالعزيمة الصادقة والهمة الماضية لها دورها في استجلاب الرزق من الله تعالى، ولكن لا يُفهم من هذا القول ضرورة التلازم؛ فإنه من الناس من هو خبيث النية ولكنه يُرزق، إلا أن رزقه بهذه النية الخبيثة لا خير فيه ولا بركة، فالرزق الطيب الحلال والبركة في الأرزاق إنما تكون في كسب الرزق بالنية الصالحة. والنية الصالحة وحدها بدون كدٍ ولا جهدٍ ولا بذل أسبابٍ لا تكفي، بل لا بد معها من العمل وطَرْق أبواب الرزق الحلال. فالمطلوب من العبد أن يُصلح نيته في طلب الرزق، وأن يبذل الجهد في طلبه، والله تعالى يفتح له أبواب الرزق ويبارك له فيما رزقه؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للمَرءِ الصَّالح].

 

وقال عالمٌ آخر عن مقولة (بنياتكم تُرزقون) إنها من العبارات التي انتشرت بين الناس، وهي عبارةٌ صحيحة المعنى؛ لأنها لا تتنافى مع العقيدة أو المعاني الشرعية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى]، فمن نوى نيةً حسنةً كان له من الثواب قدر نيته، ومن نقصت نيته نقص ثوابه، حتى إن صاحب النية الصادقة يكون له أجر العامل نفسه ولو لم يعمل. ويشتمل هذا الحديث على قاعدة أن الأمور بمقاصدها؛ فإن النية هي الإرادة وهي القصد الباعث على العمل، ومقاصد العباد تختلف اختلافاً عظيماً بحسب ما يقوم في القلب؛ فمن نوى في عمله الله والدار الآخرة، كتب الله له ثواب عمله، وإن أراد به السمعة والرياء، فقد حبط عمله، فإن الحديث يربط بين النية والعمل، ومن أجل ذلك عُني الشرع عنايةً عظيمةً بإصلاح مقاصد العباد ونياتهم.

وقال بعض أهل العلم إن النية ثلث العلم؛ لأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة. وقال بعضهم: إنه نصف الإسلام؛ لأن الدين: إما ظاهرٌ وهو العمل، أو باطنٌ وهو النية.

 

أحبتي .. أختم ببشرى لكل مسلمٍ حريصٍ على زيادة رصيده من الحسنات، تُبين لنا أهمية النية قبل العمل؛ قال النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث القُدسيِّ الذي يَرويه عن ربِّ العزة: {إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلكَ، فمَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَناتٍ، إلى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إلى أضْعافٍ كَثِيرَةٍ، ومَن هَمَّ بسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ له سَيِّئَةً واحِدَةً}.

فلنعقد العزم على أن تكون نيتنا في كل قولٍ أو عملٍ نية خيرٍ خالصةً لوجه الله، ولندعو الله سبحانه وتعالى أن يُعيننا على فعل كل ما يكون فيه خيرٌ لنا في دنيانا وآخرتنا، وأن يتقبله منا، ويُضاعف لنا ثوابه، ويزيدنا من رزقه؛ فإنه قد صدق من قال: (على نياتكم تُرزقون).

 

https://bit.ly/3jD3byi