الجمعة، 22 يناير 2016

أروع حماة


22 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة / ١٥

(أروع حماة)

قال صديقي المغترب متابعاً ما انقطع من حديث في خاطرة الجمعة قبل الماضية: "لم تسمع الأغرب من ذلك بعد!"، قلت: "وهل أغرب مما سمعت؟!"، قال: "نعم"، وبدأ في رواية ما هو أغرب بالفعل!.
قال لي أنه أنهى المقابلة الشخصية بسفارة دولة الإمارات بالقاهرة، وكانت زوجته التي عقد قرانها من فترة وجيزة قد قدمت طلباً مماثلاً للعمل في نفس الوزارة، وأجرت مقابلة شخصية هي الأخرى، في الوقت الذي كانت لجان المقابلات تفضل استقدام زوجين عن استقدام فردين أعزبين؛ حيث كان العقد ينص على أن للزوجين بدل سكن يعادل ٦٠٪ من مرتب الزوج، ويكون البدل للأعزب ٤٥٪؛ ما يعني أن أعزبين يكلفان جهة التعاقد ٩٠٪ من المرتب، مقابل ٦٠٪ فقط للزوجين!.
واستطرد قائلاً أن نتيجة المقابلات أعلنت بعد أسبوع، وكان هو وزوجته من الناجحين، وعلقت السفارة مع كشوف الناجحين إعلاناً بضرورة استعدادهم للسفر وأنها سوف تعلن في الصحف اليومية متى يمكنهم الحضور لاستلام تذاكر السفر. طار صاحبنا هو وزوجته فرحاً، فها هو حلم حياتهما على بعد خطوة واحدة، وشرعا في السعي للحصول على إجازة بدون مرتب والموافقة على السفر من قبل الجهتين اللتين يعملان بهما.
انتهيا من جميع الإجراءات، وحضرا ما يلزم من أوراق، وجهزا حقيبتين للسفر، ولم يتبق إلا استلام التذاكر من السفارة. وإلى أن تعلن السفارة عن موعد استلام التذاكر اتفقا على أن يبدآ شهر العسل قبل السفر، وبالفعل تم الترتيب لذلك بشكل سريع، استعدا للزفاف بدون حفل، أخبرا أسرتيهما أنهما سوف يسافران من القاهرة إلى الإسكندرية، ولن يُعلما أحداً باسم الفندق الذي سينزلان فيه. وتم ذلك بالفعل، سافرا ونزلا في أحد فنادق عروس البحر الأبيض المتوسط. وفي كل صباح كان يذهب ليشتري الصحف اليومية الثلاث: "الأهرام، الأخبار، والجمهورية" عسى أن يقرأ إعلان السفارة. وبعد عدة أيام، طالع الإعلان المرتقب فإذا به ينص على "التوجه إلى السفارة اليوم قبل الساعة الواحدة ظهراً لاستلام تذاكر الطيران حيث تحدد موعد السفر صباح الغد". كانت الساعة قد قاربت الحادية عشرة صباحاً، كيف يمكن الوصول إلى السفارة خلال ساعتين؟ .. أخبر زوجته، وقاما على عجل بلملمة أغراضهما ومحاسبة الفندق، وركبا سيارة أجرة وتوجها بها مباشرة إلى مقر السفارة بالقاهرة. أخبرا السائق بضرورة الإسراع؛ فكان يسابق الريح ويترك لسيارته العنان فتنهب الطريق نهباً، وهما يدعوان الله أن يصلا في وقت مناسب. يمر الوقت؛ فيزداد القلق، وتتوتر الأعصاب، ويصل توترها مداه متجاوزاً مرحلة الاحتراق. ورغم مهارة السائق وسرعته المتهورة في بعض الأحيان وحرصه على الوصول بأسرع ما يمكن، فها قد حان ما كانا لا يرغبان أن يكون؛ تجاوزا الوقت المحدد في الإعلان، عندها توقف الكلام، وجفت الحلوق، وتجمد الدم في العروق، وزاغت العيون، وأوشك القلب أن يتوقف. وحين اقتربا من مقر السفارة، كانت أنفاسهما تلهث، وعيونهما تكاد تقفز من حدقاتها لترى هل باب السفارة مفتوح أم مغلق؟ ، اليأس يُحكم سيطرته على نفسيهما كلما اقتربا من السفارة لولا جذوة أمل تتلاعب بما تبقى لهما من أعصاب .. وصلت السيارة إلى مقر السفارة بالزمالك، هما الآن أمام باب السفارة، الساعة تشير إلى الثانية ظهراً، باب السفارة مغلق .. نزل من السيارة مسرعاً .. نادى على الحارس وسأله إن كان أحد الموظفين ما زال بالداخل، أجابه بما لم يكن يتمنى أن يسمعه، أجابه بالنفي؛ أحس بجفاف في حلقه، لكنه تابع متسائلاً بانكسار "هل ترك أحد الموظفين معك تذاكر سفر؟"، كانت الإجابة بالنفي كذلك. أُسقط في يده، عندما أخبره الحارس أن عدداً كبيراً من الأشخاص توافدوا في ذلك اليوم لاستلام تذاكر سفرهم، وأن السفر صباح اليوم التالي. ولما أراد أن يعود إلى السيارة أحس بقدميه تخذلانه .. إنه لا يقوى على المشي .. تظاهر بالتماسك؛ استجمع قواه الخائرة ومشى تلك الخطوات إلى السيارة كأنها أميال. دلف إلى السيارة صامتاً .. لم تسأله زوجته عن شيء فما تراه عيناها كان فيه الكفاية .. تبخر حلم السفر وضاعت فرصة العمل بالخارج. طلب من السائق التوجه إلى حيث مسكن أهل زوجته .. طوال الطريق لم ينبس أي منهما ببنت شفة .. صمت مطبق .. وأفكار متلاحقة وأسئلة متسارعة تتسابق دون ترتيب .. هل كان قرار سفرهما إلى الإسكندرية متعجلاً؟ هل يمكن أن يكون موظف السفارة في انتظارهما بالمطار ومعه تذكرتا السفر؟ .. ثم كيف يكون وضعهما الآن؟ حصلا على إجازة من العمل بدون مرتب .. ليس لهما شقة خاصة يقيمان فيها .. لا يملكان مالاً لشراء أثاث .. ماذا يقولان للأقارب والأصدقاء وزملاء العمل؟ .. أحس بأن الدنيا قد أظلمت في عينيه ورأسه توشك أن تنفجر ..
اقتربا من مسكن أهل زوجته، رأيا من بعيد أخاها يمشي أمام باب العمارة جيئة وذهاباً في عصبية لم يعهداها فيه .. توقفت السيارة ونزلا منها .. أعينهم بها دمعات اجتهدا في منعها .. رآهما أخوها فجرى نحوهما بلهفة وقد تحولت عصبيته فجأةً إلى ابتسامة عريضة مُرحباً بهما! .. كان لسان حالهما يقول إنه لا يعرف ماذا حدث .. ثم .. هل هي ثانية أم أكثر أم أقل تلك التي مرت قبل أن ينطق أخوها: "أسرعا .. تسلمنا تذكرتي سفركما" .. ماذا؟ .. ماذا قلت؟ تسلمتم ماذا؟ تذاكر السفر؟ من أين؟ من السفارة؟ هل هذا معقول؟. قال صديقي: قبل أن يجيب أخوها، تصورنا للحظة أن ما سمعناه محض خيال يكمل لنا مشهد الأمل المفقود، وإذا بكلمة واحدة من أخيها تعيدنا إلى الحياة أو كأنها أعادت الحياة إلينا .. قال: "نعم". عادت الروح إلى أوصالنا، وجرى الدم في عروقنا، وانطلقنا نصعد الدرج حتى وصلنا باب الشقة، والسؤال الوحيد الذي يشغلنا "كيف حدث هذا؟". يقول الصديق: صورة لن تُمحى من ذاكرتي ما عشت صورة حماتي واقفةً على باب الشقة ممسكةً بتذكرتي السفر في يدها ووجهها مشرق ضاحك، تقول: ارتاحا من السفر .. ما تزال أمامكما ساعات حتى موعد السفر! جمعتنا جلسة شرب الشاي المعهودة في بيت حماي، لكن شتان بين ما كنا عليه خلال الساعات السابقة وما نشعر به الآن .. يا الله .. كم أنت كريم .. كم أنت لطيف خبير ..
"والآن يا حماتي العزيزة، أخبرينا كيف حدث هذا؟"، يسأل صديقنا، قالت له: "كنت أتابع الصحف اليومية من يوم سفركما إلى الإسكندرية، حتى قرأت الإعلان صباح اليوم، قدَّرت أنكما لن تتمكنا من الوصول إلى السفارة قبل الموعد المحدد، قررت أن أتوجه إلى السفارة لاستلام تذكرتي سفركما بنفسي، أخذت معي كل ما يثبت علاقتي بكما: بطاقتي الشخصية، وصورة عن بطاقة حماك، وتوكيلاً عاماً منه لي وثقه قبل سفره إلى مقر عمله بالسعودية، وصورة عن شهادة ميلاد ابنتي، وعدة صور من حفل عقد القرآن أظهر فيها معكما، توجهت إلى السفارة وقابلت الموظف المختص، وقلت له أنكما مسافران وسوف تصلان في وقت متأخر اليوم وأني أتيت لاستلام تذكرتي السفر، رفض أن يعطيني التذكرتين وقال لي لابد من حضورهما بنفسيهما، طلبت منه مقابلة أحد المسئولين في السفارة، فاتصل من هاتف مكتبه بالقنصل وحكى له ما حدث، ثم طلب مني أن أتبعه حيث مكتب القنصل، استمع لي القنصل باهتمام واطلع على جميع الأوراق التي أحملها، وحينما رأى صور حفل عقد القران تبسم وقال لي: لكن لابد أن تتركي لنا صوراً من هذه الأوراق وتوقعي على إقرار باستلام التذكرتين، ففعلت، وتسلمت تذكرتي السفر، هذا ما حدث معي، أخبراني أنتما ماذا حدث معكما؟" .. نظرتُ إلى زوجتي، ونظرت زوجتي إليّ، وانفجرنا ضاحكين ونحن نقول: "نحن؟ .. لم يحدث معنا أي شيء! .. فقط، كنا أمواتاً فأحيانا الله"!!!.
أحبتي في الله .. هل من حماة أروع من حماة صديقنا هذا؟ اهتمت، وتابعت، وقدرت الموقف تقديراً صحيحاً، وأعدت ما أمكنها من أدلة وبراهين وإثباتات تقليدية وغير تقليدية، واتخذت قراراً صائباً، ونفذته، ولم يثنها رفض طلبها في البداية، وأصرت على مقابلة المسئول، وتمكنت بصدقها وإصرارها من إقناعه، وعادت بعد أن حققت هدفها الذي خططت له .. يا لها من حماة رائعة! ..
اعذروني أن أطلت ..
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.