الجمعة، 31 ديسمبر 2021

غض البصر

 

خاطرة الجمعة /324


الجمعة 31 ديسمبر 2021م

(غض البصر)

 

يقول الراوي: حدثنا ثقةٌ من إخواننا فقال: تردد عليَّ شابٌ صغيرٌ كان يأتي الدرس مرةً ثم يغيب مراتٍ، لم أرَ مثله في مهارة التعرف على الناس، خاصةً على الفتيات؛ إذ كان شاباً رياضياً وسيماً يبحث عن فتاةٍ جميلةٍ ليتزوجها. زارني بعد انقطاعٍ لفترةٍ شاكياً أحواله؛ فنصحته بالزواج السريع، خصوصاً أنه ميسور الحال، فقال -لكثرة ما طافت عيناه- بأنه لم يجد بعد الفتاة التي يُعجبه جمالها، فأوصيته بتقوى الله وأن يختار ذات الدين، وأن يُبادر إلى الحلال، فاستمع إليّ ثم مضى.

بعد فترةٍ أخبرني بأنه وجد مبتغاه، وقد خطب وتزوج، فحمدتُ الله، ودعوتُ له: "بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير"، ثم قلتُ له: "إن من رحمة الله بك أن يَسّر لك الأمر، ولم يخرج بك الشيطان إلى مصيبةٍ لا تنجو منها، فاستغفِر الله مما مضى، وعاهِد الله على الاستقامة فيما بقي". مضت مدةٌ ثم اتصل بي وأخبرني على الهاتف أن بينه وبين زوجته خلافات؛ فهو يريدها أن تستتر قليلاً! وهي تقول: "أنا أبقى مثلما أخذتني"، واستيقظت فيه بقية غيرةٍ فأصرّ، وأصرّتْ، وتلاحيا، ثم تذكر أن له شيخاً قديماً، فطلب منها أن يكون هو الحكم، وقبلت هي بفطرتها، فاتصل بي وأخبرني بأنه قد عجز عن إقناعها، ويجب أن أعتبره مثل ابني وزوجته مثل بنتي، فهل أرضى أن يبقى حالهما هكذا؟ وافقتُ وضربتُ لهم موعداً، وأتيا، فلما دخلت مع زوجها، استغفرتُ الله ونظرتُ إلى الأرض، لم تكن امرأةً جميلةً فحسب، بل لو جُمع نصف جمال نساء أهل الأرض ثم أُلقي على امرأةٍ واحدةٍ لكانت هي تلك المرأة، وصرتُ أستغفر الله في سري، وأقول يا رب: "ما الذي أدخلني في هذا الأمر؟ بنتٌ من بنات المسلمين، هبها سترك ورضاك"، وجلستُ وأنا غير مرتاحٍ، وتكلم زوجها، وتكلمت هي وأنا أنظر إلى غير الجهة التي جلست بها، وكانت تسأل أسئلةً توحي بأنها لم تسمع أن هناك في أحكام المسلمين حلالاً أو حراماً! صرتُ أستعين بالله، وأجتهد بإخلاص النية ما استطعتُ، وأرجو الله أن يدفع عنها وعن زوجها الأذى، ويرزقهما حُسن الرجعة إليه، وصرتُ أدعو بأن تنتهي أسئلتهما في أقصر وقت، وأجبتهما بما أعرف، ومزجتُ الفتوى مع التقوى، والحكم مع الموعظة، وشرحتُ لهما ما ظننته يُقربهما إلى الطاعة، ثم انصرفا فتنفستُ الصعداء، وحدّثتُ نفسي ألا أدخل في مثل هذا ثانية.

مرت مدةٌ من الزمن وكنتُ واقفاً يوماً عند الصندوق بعدما اشتريتُ أغراضاً من أحد المحلات، فإذا بشخصٍ يتناول شيئاً من فوق أحد الرفوف يكاد يصدمني فابتعدتُ عنه، ونظرتُ إليه؛ فإذا بها تلك الأخت التي زارتني قبل مدةٍ مع زوجها، فدُهشتُ أنا وفوجئت هي، واحترتُ لثوانٍ فيما أصنع، وخشيتُ إن تجاهلتها أن تُسيء الظن بكل أهل الدين، وإن كلمتها أن أفتح باباً يفرح الشيطان به، وظننتُ أن الناس كلهم ينظرون إليَّ وإليها، أنا بلحيتي ولباسي، وهي بسفورها وتبذلها، ثم اتخذتُ قراراً وأطرقتُ إلى الأرض قائلاً: "السلام عليكِ يا أختي، كيف أحوالكم؟ أرجو أن تكونوا بخير، وسلمي على زوجك، السلام عليكم"، وانصرفتُ، وفم صاحب الصندوق مفتوحٌ من الدهشة، وخرجتُ وأنا أحس بألمٍ شديدٍ لحالها، وأدعو على من يجعل بنات المسلمين هكذا نهباً لكل عين، وترقرقت دمعةٌ على خدي شفقةً عليها وحيرةً مما يلزم لإصلاح مثل تلك الأحوال.

في اليوم التالي اتصل بي زوجها بالهاتف وقال بدهشةٍ واستغرابٍ شديدين: "ما الذي قلته لزوجتي البارحة؟"، سقط قلبي من الحيرة والاندهاش؛ أستغفر الله أن أكون قد قلتُ ما لا ينبغي قوله! لعلها ماكرةً أو ساذجةً أو توهمت شيئاً لم أقله، مرت ثوانٍ كأنها دهرٌ ريثما أردف زوجها قائلاً: "هل تعلم أنها لم تنم البارحة، وبقيت تبكي طوال الليل بسببك!"، فاستعذتُ بالله، وخفتُ حقيقةً، وقبل أن أتكلم تابع حديثه: "لقد قالت لي زوجتي: عندما وضع أستاذك بصره في الأرض وكلمني، شعرتُ لأول مرةٍ في حياتي أنني أعصي الله، ولا أدري كيف عدتُ إلى البيت وكأنني لستُ تلك الفتاة الفاتنة التي تُسَر كلما تسمرت الأبصار تنظر إلى فتنتها الخارقة وجمالها الأخاذ، وفي البيت أحسستُ بكل الغفلة التي كنتُ فيها، ومن دون أن أدري صرتُ أبكي بحرقةٍ وكلي حياءٌ من الله على ما مضى". قال الأستاذ: "كاد يتوقف قلبي من الفرح بعدما كاد يتوقف من الخوف، وصرتُ أتمتم: الحمد لله .. الحمد لله، ثم لم أعد أستطيع الكلام فأغلقتُ الهاتف، وبدأتُ أنا أبكي ثم علا مني النشيج".

قال الأستاذ: "مرت على تلك الحادثة حوالي ثلاث عشرة سنة، ولم أرَ تلك الأخت من يومها، وقد أخبرني زوجها أنها مع الأيام التزمت بشرع الله، وحافظت على ما أمر الله به من اللباس والعبادة، فضلاً عما أكرمها الله به من خُلُقٍ نادرٍ وكريم. لا أدري إن أصبتُ أو أخطأتُ في اجتهادي، لكنني أشعر بنعمة الله عليّ كلما تذكرتُ تلك الحادثة، ومن أعماق قلبي أسأل الله لكل أخٍ وأختٍ تمام الهداية والرحمة والثبات.

 

أحبتي في الله .. إنه (غض البصر) الذي كان سبباً في هداية تلك المرأة وعودتها إلى الصراط المستقيم. وهو (غض البصر) الذي كان سبباً في إسلام فتاةٍ أمريكيةٍ من شابٍ مسلم؛ فهذه قصةٌ من واقع الحياة حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية لشابٍ مغربيٍ فقيرٍ كان يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، ذات يومٍ كان يصعد في المصعد إلى طابقٍ في إحدى ناطحات السحاب مع مجموعةٍ من الناس، في طابقٍ معينٍ نزل كل الأشخاص فبقي الشاب وحيداً إلى جانب فتاةٍ أمريكيةٍ جميلةٍ جداً تلبس لباساً متبرجاً كباقي النساء هناك، لما وجدت نفسها أنها بقيت لوحدها مع الشاب شعرت بالخوف منه، لكنها لاحظت أن الشاب لا ينظر اليها أبداً؛ فخشيت أن يؤذيها هذا الشاب أو يفعل بها ما هو منتشرٌ ببلدها من حالات اغتصابٍ، وأخذ الفكر يشغلها والخوف يتملكها؛ فظلت تراقب هذا الشاب، فنظرت إليه فوجدته ينظر إلى الأرض، ولم ينظر أو يلتفت إليها؛ فتعجبت الفتاة، واستمرت تراقبه وهو على نفس الحالة، إلى أن وقف المصعد وخرج الشاب وهو على نفس حالته، لم يرجف لها جفنه، فإذا بها تلاحقه وتسأله وهو ما زال ينظر إلى الأرض: "هل لي بسؤال؟"، فقال: "تفضلي"، قالت: "ألستُ جميلةً؟"، قال: "لا أدري؛ فلم أنظر إليكِ"، قالت: "نعم، وهذا سبب سؤالي، لماذا لا تنظر إليّ؟"، فأجابها: "هذه تعاليم ديننا وآدابه"، قالت: "أدينك يمنعك من النظر إلى المرأة؟"، قال: "نعم؛ يمنع النظر إلى المرأة الأجنبية، أي الغريبة عنا، حفظاً لنا وعفافاً للمرأة"، قالت: "أي دينٍ هذا؟"، قال: "إنه الإسلام"، فتعجبت، وسألته: "أتتزوجني؟"، قال لها: "أنا مسلمٌ، ما دينك أنت؟"، قالت: "لستُ مسلمة"، قال: "لا يجوز"، فقالت: "هل لو دخلتُ دينك هذا تتزوجني؟"، قال: "نعم"، فقالت: "ماذا أفعل لأكون مسلمة؟"، شرح لها ما يجب عليها أن تفعله لتكون مسلمةً، ولما أسلمت تزوجها، وكانت هذه الفتاة ثريةً فأخذت كل أموالها وذهبت مع الشاب إلى بلده، فلم يعد يُعاني من الفقر؛ بسبب أنه اتقى الله وغض بصره.

 

أحبتي في الله .. أمر الله الرجال بغض البصر؛ يقول تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾، والنساء كذلك مأموراتٌ بغض البصر؛ يقول تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ...﴾. ويُلاحظ المفسرون لهاتين الآيتين أن الله تعالى قد جعل الأمر بغض البصر مُقدماً على حفظ الفرج، لأن كل الحوادث مبدؤها من النظر؛ قال الشاعر:

كلُّ الحوادثِ مَبداها منَ النَّظرِ

ومُعظَمُ النَّارِ من مُستصغرِ الشَّررِ

كَمْ نظرةٍ فعلتْ في قلبِ صاحبِها

فِعْلَ السِّهامِ بلا قوسٍ ولا وتَرِ

 

و(غض البصر) سبيلٌ إلى الجنة؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: [اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ]. وهو من آداب الطريق، وأحد حقوقها؛ قال -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه رضي الله عنهم: [إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ علَى الطُّرُقَاتِ]، فَقالوا: ما لَنَا بُدٌّ، إنَّما هي مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قالَ: [فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا]، قالوا: وَما حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قالَ: [غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بالمَعروفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ].

 

ويقول العلماء إن (غض البصر) المقصود منه أن يُغمض المسلم بصره عما حُرّم عليه، ولا ينظر إلا لما هو مباحٌ له النظر إليه، فإذا سار الإنسان في طريقٍ أو كان في مكانٍ به آخرون فوقع بصره على ما حرّم الله تعالى بغير قصدٍ منه، وهذا يُسمى «نظر الفجأة»، عليه أن يصرف بصره سريعاً ولا يتمادى؛ قال صلى الله عليه وسلم: [... لا تُتبعِ النَّظرةَ النَّظرَةَ، فإنَّ لَكَ الأولى، ولَيسَتْ لَكَ الآخرَةُ]؛ ذلك أن النظر من أهم المنافذ إلى القلب، فإذا كان إطلاقه بغير قيدٍ ولا ضابطٍ حرّك الهوى في قلب صاحبه، وجعله يقع في شَرَك الفواحش والفتن.

وذكر العلماء من فوائد (غض البصر) أن الجزاء من جنس العمل، فمَن غضَّ بصره عما حَرَّمَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليه، عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خيرٌ منه، فكلما أمسك نور بصره عن المحرَّمات، كلما أطلق اللهُ نورَ بصيرته وقلبه، فرأى به ما لا يراه من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلهِ عزَّ وجلَّ إِلاَّ بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ]. ورُوي أنه: "مَن غضَّ بصره عن محارم الله، عوَّضه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه"، وقال بعضهم: "من حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته"، وقيل: "مَن غضَّ بصره، أنار الله بصيرته".

وعن (غض البصر) قال الشاعر:

يا رامياً بِسِهامِ اللَحْظِ مُجْتَهِداً

أنْتَ القَتيلُ بِما تَرْمي فَلا تُصبِ

وقال آخر:

وأغُضُ طَرْفي إنْ بَدَتْ لي جارَتي

حَتى يُواري جارَتي مَأواها

 

إن (غض البصر) فتنةٌ متجددةٌ، تزداد خدتها بمرور الأيام؛ إذ كانت تقتصر فيما مضى على مجاهدة النفس حتى لا تنظر النظر المحرم في الشوارع والمحلات وأماكن تجمع الناس خارج بيوتنا، أما اليوم فقد صارت مجاهدة النفس أصعب -لكنها أكثر ثواباً بإذن الله- إذ أصبح التلفاز ينقل إلينا داخل بيوتنا صور الأجانب والأجنبيات وكل من هو غريبٌ علينا، محرمٌ علينا النظر إليه. وزاد الطين بلة -وزاد في الأجر والثواب بإذن الله- انتشار الأطباق اللاقطة للقنوات التلفزيونية الفضائية التي تُبث من جميع أنحاء العالم، بما فيها من قنواتٍ إباحية، وحتى الكثير من القنوات غير الإباحية لا التزام فيها بحشمةٍ ولا بوقار، بل إن معظمها تتسابق على أن تكون القناة الأكثر عُرياً والأشد إثارةً بهدف جذب أكبر عددٍ ممكنٍ من المشاهدين لها، لأغراضٍ معظمها تجاري. ثم، ومع الانتشار الواسع لشبكة الإنترنت وسهولة الدخول على أي موقع في العالم على مدار اليوم كله ومشاهدة الصور والڤيديوهات والأفلام، وتبادلها، ونشرها، وانتقال هذه التقنيات من أجهزة الحاسوب الثابتة إلى الهواتف النقالة، صارت فتنة (غض البصر) أكثر صعوبةً، وأعلى أجراً وثواباً بإذن الله. وأخطر ما في هذا الأمر هو تكراره حتى تصبح مُشاهدة المحرمات أمراً اعتيادياً مألوفاً لا ينجُ منه إلا من رحم ربي؛ قال أحد الصالحين: "أصعب الحرام أوله، ثم يسهل، ثم يُستساغ، ثم يؤْلَف، ثم يحلو، ثم يُطبع على القلب، ثم يبحث القلب عن حرامٍ آخر".

 

أحبتي .. أعجبني قول أحدهم: "إن أقوى معركةٍ في حياتك هي الثبات على الدين في زمن المتغيرات"؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾؛ فلندعو الله أن يُثَبِّتنا على ديننا، ويُعيننا على أنفسنا، ويهدينا سُبلنا، ويشغلنا بطاعته عن معصيته؛ قال بعض الصالحين: "إذا دعتك نفسك إلى المعصية فحاورها حواراً لطيفاً بهذه الآية ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾". اللهم حصِّن فروجنا، وطهِّر قلوبنا، وارزقنا (غض البصر) والبُعد عن الحرام. اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، إنك على كل شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير.

 

https://bit.ly/3Jy1FYq