الجمعة، 30 يونيو 2017

من السنن المهجورة

الجمعة 30 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة /٩٠
(من السنن المهجورة)

كنا نتحدث في مواضيع شتى ومسائل متفرقة، كعادتنا كلما اجتمعنا، يذكر أحدنا معلومةً جديدةً أو خبراً مفيداً أو ملخصاً لمقالٍ قرأه أو كتابٍ يطالعه أو آيةً قرآنيةً لفتت انتباهه أو حديثاً شريفاً ربما استمع إليه لأول مرة، أو سُنةً (من السنن المهجورة) ينبغي الاهتمام بها، وغير ذلك من موضوعات. فذكر واحدٌ منا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اَللَّذَّاتِ: اَلْمَوْتِ] {الهاذم هو القاطع، وذُكر بلفظ الهادم وهو المزيل كالذي يهدم البناء، كما ذُكر بلفظ الهازم بمعنى الغالب}. ورغم أن البعض ضعَّف الحديث إلا أن معناه مهمٌ وآثار العمل به مفيدة. قال صاحبنا: "أعتقد أن ذكر الموت كما أمرنا الرسول الكريم هو (من السنن المهجورة) التي علينا أن نهتم بها ونحافظ عليها"، وافقه الجميع على رأيه، لكني لاحظت نوعاً من الضيق من ذكر موضوع الموت لم يعبر عنه صراحةً إلا أصغرنا سناً حيث قال: "ألا يوجد (من السنن المهجورة) إلا هذا الحديث يا شيخنا؟"، قالها وهو يضفي على حديثه لمسةً من المرح، لكن ما خفي كان واضحاً.

ألاحظ أن بعض الناس يتجنب الحديث عن أي موضوعٍ فيه ذكرٌ للموت، كما ألاحظ أن كثيراً منهم لا يرتاحون حتى لسماع لفظه، ويأنفون من ذكر الموت ويتحاشون ذلك قدر إمكانهم، كما لو كان ذكره يأتي به قبل موعده! غالب ظني أن هؤلاء يتهربون من ذكر الموت لأنه يذكرهم بتقصيرهم في أداء حقوق الله عليهم. لكن، من منا ليس مقصراً؟ نحن جميعاً مقصرون، بدرجة أو أخرى، لذا فإن ذكر الموت نافعٌ لنا ومفيدٌ لنفيق من غفلتنا ونصلح من أحوالنا.

أحبتي في الله .. الموت حقٌ لا ريب فيه وهذا معلومٌ للجميع؛ يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾، أما الأجل فهو من تقدير الله سبحانه وتعالى لا يعلمه أحدٌ لا زماناً ولا مكاناً، يقول سبحانه: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
يقول أهل العلم عن الموت أن الله فاطر السماوات والأرض  ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ جعل الموت حلقةً من حلقات الحياة يتم به الاختبار والابتلاء؛ فالموت ليس فَناءً، بل هو انتقالٌ من دارٍ إلى دار، بينهما برزخٌ يفصل بين حياتين: حياة الاختبار والابتلاء، وحياة الجزاء والبقاء. والحياة الحقيقية هي حياة الآخرة وإن آثر أكثر الناس الحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُ‌ونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَ‌ةُ خَيْرٌ‌ وَأَبْقَىٰ﴾، وقال: ﴿إِنَّمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَ‌ةَ هِيَ دَارُ‌ الْقَرَ‌ارِ‌﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلّا عَيْش الآخِرَةِ]. والموت هو اليقين حقّاً، وإن أعرض الناس عنه وحادوا، والحياة الدنيا دار البلاء والاختبار والعمل لما بعد الموت. قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَ‌ةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾، وقال: ﴿وَاعْبُدْ رَ‌بَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ أي: الموت. ولما مات عثمان بن مظعون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ، مَا يُفْعَلُ بِي]. فالموت حقٌ لا يُعرض عن ذكره إلا غافل، ولا يفر منه إلا جاهل، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّ‌ونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَ‌دُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
وفي ذكر الموت فوائد عظيمة: فهو أدعى لقصر الأمل في الدنيا والزهد في زخارفها، والحرص على العمل الصالح وإحسانه، ومحاسبة النفس على ما فعلت، والمبادرة للتوبة النصوح، وأداء الحقوق إلى أصحابها، ثم هو يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي.
انظروا أحبتي سُنة المصطفى عليه الصلاة والسلام في ذكر الموت في كل حين: وقت الصلاة: [اذكر الموت في صلاتك، فإن المرء إذا ذكر الموت في صلاته فحريٌ أن يحسن صلاته]، و[إذا قمت في صلاتك فصلِ صلاة مودع]. وفي الصباح والمساء: [إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح]. وفي الصحة والفراغ: [وخذ من حياتك لموتك ومن صحتك لمرضك، ومن فراغك لشغلك]. وعند النوم: [اللهم إني أسلمت نفسي إليك]، [باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين]. وعند الاستيقاظ: [الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور]. وفي حياتنا كلها: [كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ].
الموت راحةٌ للمؤمن من تعب الدنيا ونصبها، ونهايةٌ سعيدةٌ لهذا الابتلاء الذي عاناه فيها، أما الكافر فبالموت يبدأ شقاؤه وعناؤه والعياذ بالله؛ مُرَّ على رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: [مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ]، قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟"، قَالَ: [الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ].
وتبدو راحة العبد المؤمن في بشارة الملائكة له عند الموت، لا تخف ولا تحزن وأبشر بالجنة؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَ‌بُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُ‌وا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَ‌ةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ‌ رَّ‌حِيمٍ﴾. والبلاء الذي يتعرض له المؤمن قبل موته يكفر عنه ذنوبه ويرفع درجته؛ فإنه كما قال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: [ما يصيب المسلم من نَصَب، ولا وَصَب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: [إِذَا ابْتَلَى اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ قَالَ اللَّهُ لِلْمَلَكِ اكْتُبْ لَهُ صَالِحَ عَمَلِهِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ فَإِنْ شَفَاهُ غَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ وَإِنْ قَبَضَهُ غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ].
يقول أحد الصالحين: كل يوم يفجعنا الموت بفجيعته، فتبكي منا العيون وترتجف القلوب، ويشتد بنا الخوف من الموت، ويستشعر كل منا قرب لحظة النهاية. ثم ندفن ميتنا ونعود أدراجنا، وتبدأ دموعنا في الجفاف، وتبدأ حياتنا في العودة إلى سابق حالها، غفلةً، ونسياناً للحظة اللقاء! هذا المشهد نراه من حولنا يتكرر بصورةٍ متتابعة، فلا الرحيل انتهى، ولا نحن تذكرنا وتدبرنا! من أين إذن نأتي لقلوبنا بواعظٍ أشد لها من الموت؟
إن الأسباب وراء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتذكر الموت ليست قاصرةً على مجرد الاتعاظ والتذكرة، بل لأن فكرة الموت تجمع حولها كثيراً من المعاني الإيمانية والمبادئ الحياتية والدوافع السلوكية التي قد تغير طبيعة حياة الإنسان من لهوٍ وعبث إلى قيمةٍ وأثر. فالحياة في نظر الإسلام هي هبةٌ ربانيةٌ من الله سبحانه للناس، خلقهم فيها واختبرهم وأمرهم ليصلحوها ويصلحوا فيها بالقول والعمل، ويعمروها بالصلاح والعبودية لله سبحانه. والأبناء والأحفاد والذريات والمال والمتاع أيضاً منه سبحانه وتعالى فإذا قضى الله سبحانه الموت على أحدٍ فإنا له وإليه راجعون، والعبد عبده، والخلق خلقه والأمر أمره لا إله إلا هو، فهو يهب الحياة والنعمة، وهو سبحانه يقبض الروح ويوقف الإنعام إذا شاء. فتأتي فكرة الموت هنا لتؤكد على ذلك المعنى تأكيداً يضطر الإنسان المؤمن إلى الاستشعار بالفقر والضعف الكاملين تجاه ربه سبحانه، والحاجة التامة له عز وجل ولإنعامه وعطاياه، فيرجوه ويسأله، ويحسن عمله ويطهر عبوديته. كذلك فلا لذة دائمةً في الحياة الدنيا يمكن أن يركن إليها الإنسان، وإنما اللذات منتهيةٌ وزائلة، فاللذة الحقة هي لذة المتاع في الآخرة، وإنما لذة الدنيا في استشعار معنى العبودية في كل شأن من شؤونها والركون إلى جانب الله سبحانه والرضا بأقداره، لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتدبر الموت لأن هاذم اللذات يقلل الارتباط بالدنيا ويقوي الارتباط فيما عند الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ]، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: "إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ"، قَالَ: [لَيْسَ ذَاكِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ  بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ].

أحبتي .. فلنتذكر الموت دائماً، فهو للإنسان أكبر واعظ، يجعلنا نحسن العبادة لله سبحانه وتعالى، ونتقن أعمالنا التي فيها عمار الدنيا، ونتميز في معاملة الناس بالحسنى كما نحب أن يعاملونا، ونكثر من عمل الخير في مختلف مجالاته، فضلاً عن أننا نكسب ثواب إحياء سُنةٍ (من السنن المهجورة) للنبي عليه الصلاة والسلام.
جعلنا الله ممن صلح عمله وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/4YHiQo