الجمعة، 29 يناير 2021

الخيرة فيما اختاره الله

 

خاطرة الجمعة /276


الجمعة 29 يناير 2021م

(الخيرة فيما اختاره الله)

 

تعطلت إحدى السفن التجارية وهي في عرض البحر من كثرة الحمل الذي فيها فأصبحت مهددةً بالغرق، فاقترح ربانها أن يتم رمي بعض المتاع والبضاعة في البحر ليخفف الحمل على السفينة وتنجو؛ فأجمع التجار الذين يركبون السفينة على أن يتم رمي كامل بضاعة أحدهم لأنها كثيرة، فاعترض هذا التاجر على أن تُرمى بضاعته هو لوحده، واقترح أن يُرمى قسمٌ من بضاعة كل تاجرٍ بالتساوي حتى تتوزع الخسارة على الجميع، ولا تصيب شخصاً واحداً فقط، فثار عليه باقي التجار، ولأنه كان تاجراً جديداً ومستضعفاً تآمروا عليه ورموه في البحر هو وبضاعته وأكملوا طريق سفرهم. ‏أخذت الأمواج تتلاعب بهذا التاجر، وهو موقنٌ بالغرق وخائفٌ، حتى أُغمي عليه، وعندما أفاق وجد أن الأمواج ألقت به على شاطئ جزيرةٍ مجهولةٍ ومهجورة. ما كاد التاجر يفيق من إغمائه ويلتقط أنفاسه حتى سقط على ركبتيه وطلب من الله المعونة والمساعدة، وسأله أن ينقذه من هذا الوضع الأليم.

مرت عدة أيام كان التاجر يقتات خلالها من ثمار الشجر وما يصطاده من أرانب، ويشرب من جدول مياهٍ قريب، وينام في كوخ ٍصغيرٍ بناه من أعواد الشجر ليحتمي فيه من برد الليل وحر النهار.

وفي ذات يومٍ، وبينما كان التاجر يطهو طعامه، هبت ريحٌ قويةٌ وحملت معها بعض أعواد الخشب المشتعلة وفي غفلةٍ منه اشتعل كوخه؛ فحاول إطفاء النار لكنه لم يستطع، فقد التهمت النار الكوخ كله بما فيه. هنا أخذ التاجر يصرخ لماذا يا رب؟ لقد رُميتُ في البحر ظلماً وخسرت بضاعتي، والآن حتى هذا الكوخ الذي يؤويني احترق ولم يتبقَ لي شيءٌ في هذه الدنيا، وأنا غريبٌ في هذا المكان. لماذا يا رب كل هذه المصائب تأتي عليّ؟ ونام التاجر ليلته وهو جائعٌ من شدة الحزن، لكن في الصباح كانت هناك مفاجأةٌ بانتظاره؛ إذ وجد سفينةً تقترب من الجزيرة، وتُنزل منها قارباً صغيراً لإنقاذه، وعندما صعد التاجر على سطح السفينة لم يصدق نفسه من شدة الفرح، وسأل بحارة السفينة كيف وجدوه وكيف عرفوا مكانه؟ فأجابوه: لقد رأينا دخاناً فعرفنا أن شخصاً ما يطلب النجدة لإنقاذه؛ فجئنا لنرى. وعندما أخبرهم بقصته وكيف أنه رُمي هو وبضاعته من سفينة التجار ظلماً، أخبروه بأن سفينة التجار لم تصل إلى وجهتها وغرقت في البحر! فقد أغار عليها القراصنة وقتلوا كل من فيها وسلبوا بضاعتهم. فسجد التاجر يبكي ويقول: "الحمد لله يا رب، أمرك كله خير".

 

أحبتي في الله .. تذكرني قصة هذا التاجر بقصةٍ ذكرها الإمام ابن الجوزي رحمه الله، وهي تحكي عن مَلِكٍ كان له وزيرٌ صالحٌ يرضى دائمًا بقضاء الله، فما كان يحدث أمرٌ -خيراً كان أو شرًا- إلا وحمد الله ورضى بقضائه قائلًا: (الخيرة فيما اختاره الله). وذات مرةٍ كان الملك يأكل شيئاً من الفاكهة وجرح السكين إصبعه، فقال الوزير الصالح كلمته المعهودة: (الخيرة فيما اختاره الله)، فغضب الملك كثيرًا لهذا الأمر، وقال: أي خيرةٍ في مكروهٍ أصابني، فقد جرح السكين يدي وسال منها الدم الكثير. وأمر الملك بأن يُجَّرَد الوزير من منصبه ويُزج به في السجن عقابًا له على ما قال. بعد أيامٍ قليلةٍ خرج الملك في رحلة صيدٍ، وأنساه الصيد مرور الوقت فابتعد كثيرًا عن بلده، ودخل في قريةٍ يعبد أصحابها النار، فلما رآه أهل القرية أمسكوا به، وقرروا تقديمه كقربانٍ لألهتهم -وكانت هذه عادةً متبعةً عندهم- ولما جردوه من ملابسه حتى يقذفونه في النار، رأوا الجرح في إصبعه، فاستبعدوه وأخلوا سبيله، لأن من شروط القربان أن يكون سليمًا معافىً ليس به شائبة، واعتبروا الجرح في يده عيبًا ونقصًا فيه لذا تركوه، فعاد إلى بلده وتذكر كلام الوزير أن (الخيرة فيما اختاره الله)؛ فأمر بأن يؤتىَ بالوزير ويُعاد إلى منصبه، ولما رآه قال له: لقد عرفتُ الخيرة فيما حدث لي، وأن الله اختار لي ما يُنجيني من الموت، أما أنت فما هي الخيرة من دخولك السجن؟ فقال الوزير: لو لم أدخل السجن لكنتُ خرجتُ معك في رحلة الصيد، وكنتُ سأكون أنا بديلك في النار؛ فأنا صحيحٌ معافىً، كانوا سيتقربون بي لألهتهم، وأحمد الله أنى كنتُ في السجن حينها، فقد كان سجني خيرةً اختارها الله لحمايتي من الوقوع في مثل هذا الموقف.

 

كما تذكرني قصة ذلك التاجر بما رواه أحد الدعاة المشهورين عن رجلٍ قَدِم إلى المطار، وكان حريصاً على رحلته، ولأنه كان مجهداً فقد أخذته نومةٌ أفاق منها فإذا بالطائرة قد أقلعت، وفيها ركابٌ كثيرون يزيدون على ثلاثمائة راكب، وفاتته الرحلة فضاق صدره وندم ندماً شديداً، ولم تمضِ سوى دقائق على هذه الحال التي هو عليها حتى أُعلن عن سقوط الطائرة، ومقتل جميع من كانوا على متنها!

 

قال أحد الصالحين: "لا يكُنْ تَأخُّرُ أَمَدِ العَطاء مَعَ الإلْحاحِ في الدّعَاءِ مُوجبًَا ليأسِك؛ فهو ضَمِنَ لَكَ الإجابَةَ فيما يختارُهُ لكَ، لا فيما تختاره لنَفْسكَ، وفي الوقْتِ الذي يُريدُ، لا في الوقْت الذي تُريدُ". وعلق على هذا عالمٌ جليلٌ فقال: أي لا يكن تأخر وقت العطاء المطلوب مع المداومة في الدعاء موجبًا ليأسك من إجابة الدعاء ومدعاةً لانقطاع الدعاء؛ فهو سبحانه ضمن لك الإجابة بقوله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ فإذا دعوتَ الله، وسجدتَ له، واعترفتَ بفقرك وضعفك وحاجتك، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فقد استجاب لك، ولكن فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك، فإنه أعلم منك بما يَصلُح لك، فربما طلبتَ شيئًا كان الأولى منعه عنك، فيكون المنع عين العطاء، فربما منعك فأعطاك، وربما أعطاك فمنعك، وكذلك ضمن لك الإجابة في الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد؛ فما نحن إلا عبادٌ لله، نثق ونرضي ونصبر على قضائه وقدره.

 

يقول الشاعر:

وَكَمْ للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفيٍّ

يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ

وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ

فَفَرَّجَ كُرْبَة َ القَلْبِ الشَّجِيِّ

وَكَمْ أمْرٍ تُساءُ بهِ صَباحًا

وَتَأْتِيْكَ المَسَرَّة ُ بالعَشِيِّ

إذا ضاقتْ بكَ الأحْوالُ يَومًا

فَثِقْ بِالْواحِدِ الفَرْدِ العَلِيِّ

وَلاَ تَجْزَعْ إذا ما نابَ خَطْبٌ

فَكَمْ للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفيّ

 

سبحان الله الذي خلق الإنسان ظلوماً حتى لنفسه فقد يكره أمراً خشية أن يكون شراً له وهو في الواقع خيرٌ له، وخَلَقَه عجولاً؛ يستعجل الخير ويحب أمراً يظن أنّ الخير فيه ولا يدري أنّ فيه شراً له؛ يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. وقد يكون الخير كامناً في الشر ونحن لا نعلم؛ يقول تعالى: ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.

علينا أن نُسلم بأن (الخيرة فيما اختاره الله)؛ فكم من مرةٍ أردنا شيئاً وبذلنا جهدنا للحصول عليه، ومنعه الله عنا فتملكنا الحزن والأسى وأصابنا هَمٌ وغمٌ وظننا أن في المنع ضرراً لنا، ثم تدور الأيام وتكشف لنا أن المنع كان لحكمةٍ ربانيةٍ لم نكن نعلمها، وأنه كان لمصلحتنا، ولو كان ما تمنيناه لأنفسنا تحقق لجلب لنا الأذى من حيث لم نكن نحتسب. كم من مرةٍ حدث هذا معنا فحمدنا الله على ما اختاره لنا، وعرفنا أن (الخيرة فيما اختاره الله) وليس فيما اخترناه لأنفسنا.

 

أحبتي .. الله سبحانه وتعالى علاَّم الغيوب، ويعلم ما هو مقدرٌ لنا في المستقبل، أما نحن كبشرٍ فعاجزون عن معرفة ما يكون بعد طرفة عين، فهذا غيبٌ لا يعلمه إلا الله؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾. ولا ندري فقد يجعل سبحانه من المحنة منحةً، وقد يقلب المَضَّرة لتصير في عاقبتها مَسَّرة. ليس علينا إلا أن نجتهد ونأخذ بالأسباب، ثم نتوكل على الله، ونُسَّلم أمورنا كلها له، ونُحسن الظن به، ونثق في أن اختياره لنا هو الأحسن وهو الأفضل وأن فيه الخير والصلاح والنفع لنا، إن لم يكن في حياتنا وأمور معاشنا ففي ديننا، وإن لم يكن في دنيانا ففي آخرتنا، ونُصدق قوله تعالى: ﴿مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ﴾؛ فما علينا إلا أن نشكر ونؤمن، ونعتقد اعتقاداً جازماً بأن (الخيرة فيما اختاره الله)، وأنه -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما أصابَك لم يكُنْ لِيُخْطِئَك، وما أخطَأَك لم يكُنْ لِيُصيبَك].

اللهم اجعلنا ممن يُحسنون الظن بك، واكتب اللهم لنا الخير حيثما كان وأينما كان، ورضِّنا به، وبارك لنا فيه.

https://bit.ly/2NOHNrR