الجمعة، 7 يناير 2022

نعمة القرآن

 

خاطرة الجمعة /325


الجمعة 7 يناير 2022م

(نعمة القرآن)

 

تحت عنوان: "امرأة تركيةٌ .. بكت وأبكتني!!" كتبت سيدةٌ عربيةٌ تقول: كنتُ في الحرم المكي فإذا بمن يطرق على كتفي وتقول بلكنةٍ أعجميةٍ: "حاجة!"، التفتُ فإذا امرأةٌ متوسطة السن غلب على ظني أنها تركيةٌ سلمتْ عليّ؛ فوقعت في قلبي محبتها! سبحان الله الأرواح جنودٌ مجندةٌ، كانت تُريد أن تقول شيئاً وتحاول استجماع كلماتها، أشارت إلى المصحف الذي كنتُ أحمله وقالت بعربيةٍ مكسرةٍ ولكنها مفهومة: "إنتَ تقرأ في قرآن"، قلتُ: "نعم!"، وإذا بالمرأة يحمَّر وجهها وقد اغرورقت عيناها بالدموع، اقتربتُ منها وقد هالني منظرها، بدأتْ في البكاء!! والله إنها لتبكي كأن مصيبةً حلت بها! سألتها: "ما بكِ؟"، قالت بصوتٍ مخنوقٍ حتى حسبتُ أنها ستموت بين يديّ، وكانت تنظر إليّ نظرةً عجيبةً وكأنها خجلانة: "أنا ما أقرأ قرآن!"، قلتُ لها: "لماذا؟"، قالت: "لا أستطيع ...."، ومع انتهاء حرف العين .. انفجرت باكيةً ظللتُ أربتُ على كتفيها وأهدئ من روعها؛ قلتُ لها: "أنت الآن في بيت الله .... إسأليه أن يُعلمكِ .. إسأليه أن يُعينكِ على قراءة القرآن"، كفكفتْ دموعها، وفي مشهدٍ لن أنساه ما حييتُ رفعتْ المرأة يديها تدعو الله قائلةً: "اللهم افتح ذهني .. اللهم افتح ذهني أقرأ قرآن .. اللهم افتح ذهني أقرأ قرآن"، قالت لي: "أنا هموت وما قرأت قرآن"، قلتُ لها: "لا، إن شاء الله سوف تقرأينه كاملاً وتختمينه مراتٍ ومراتٍ قبل أن تموتي". سألتها: "هل تقرأين الفاتحة؟"، قالت: "نعم .. الحمد لله رب العالمين، الفاتحة"، وجلستْ تُعدد قصار السور، كنتُ متعجبةً من عربيتها الجيدة إلى حدٍ بعيدٍ، والسر كما قالت لي أنها تعرفتْ على بعض الفتيات العربيات المقيمات قريباً منها، وعلمتُ أنها بذلتْ محاولاتٍ مُضنيةً لتتعلم قراءة القرآن، ولكن الأمر شاقٌ عليها إلى حدٍ بعيدٍ، قالت لي: "إذا أنا أموت ما قرأت قرآن .. أنا يدخل نار!"، واستطردتْ: "أنا أسمع شريط .. دايماً .. بس لازم في قراءة! هذا كلام الله .... كلام الله العظيم!". لم أتمالك نفسي من البكاء؛ امرأة أعجميةٌ تعيش في بلادٍ علمانيةٍ تخشى أن تلقى الله ولم تقرأ كتابه .. منتهى أملها في الحياة أن تختم القرآن قبل أن تموت .. ضاقت عليها الأرض بما رحبت وضاقت عليها نفسها لأنها لا تستطيع تلاوة كتاب الله!

فما بالنا؟! ما بالنا قد هجرناه؟ ما بالنا قد أُوتيناه فنسيناه؟ ما بالنا والسُبل ميسرةٌ لنا لقراءته وتلاوته وفهمه وحفظه، فاستبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير ولم نعكف عليه؟

لقد كانت دموعها الحارة أبلغ من كل موعظةٍ، ودعاؤها الصادق كالسياط تُذكِّر من أُعطي (نعمة القرآن) فأباها وانشغل عنها .. فسبحان مقلب القلوب ومُصَّرِفها! هذه امرأةٌ أعجميةٌ همها أن تختم القرآن، فما بال هممنا نحن قد سقطت وضعفت وفترت؟ على أي شيءٍ تحترق قلوبنا؟ وما الذي يُثير مدامعنا ويُهيِّج أحزاننا؟

اللهم أبرم لنا أمر رُشدٍ .. وسبحان من ساق إليّ هذه المرأة المسلمة التي ذكرتني ووعظتني .. اللهم افتح ذهنها ويسِّر لها تلاوة كتابك يا رب .. اللهم كما أحبتْ كلامك فأحبها، وارفع درجتها، واكتبها عندك من الذاكرين.

 

أحبتي في الله .. يقول العلماء إن إنزال القرآن يُعَدُّ مِنَّةً عُظمى على هذه الأمة؛ وذلك لصلاح أمر الناس كافَّة؛ أفراداً وجماعاتٍ، رحمةً بهم ولهم؛ لتبليغهم مُراد الله تعالى منهم؛ قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾؛ فالصلاح الفردي يكون بتهذيب النفس وتَزْكِيتها، كما يكون بصلاح الظاهر كالعبادات من صلاةٍ وحجٍ، وغيرهما، ويكون بصلاح الباطن بتطهير النفس من الأخلاق الرذيلة -كالحسد، والحقد، والبُغض والكِبر- والتخلُّق بالأخلاق الحميدة؛ أُسوةً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قالت عنه السيدة عائشة -رضي الله عنها- واصفةً خُلقَه: "كان خُلُقُه القرآن". وصلاح الجماعة إنما يكون بصلاح الفرد؛ لأن إصلاح الكلِّ لا يكون إلا بصلاح أجزائه، وما جاءت الشريعة إلا لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. ولا تكون الاستفادة حقَّةً وكاملةً من هذا الكتاب، إلا بدوام الصلة به -عِلماً وعملاً، تلاوةً وتدبُّراً، فهماً وتذكُّراً- قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، ويتحقق ذلك باتباع المنهجية التي تَعلَّمها صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنهم، وحمَلوها إلى العالمين، فكان القرآن رائدَهم ومرجعهم الذي لا يَحيدون عنه، ولا يهجرون آياته.

 

يقول أهل العلم إن القرآن نعمة الله الكبرى لإنقاذ البشرية؛ فهو أجلَّ وأعظم النعم على الإطلاق، جاء للبشر بالإصلاح، وكرَّم الله تعالى به الإنسان، وجعل سعادته وشقاءه منوطين بعمله وإيمانه، وأن الجزاء على الكُفر والظُلم والفساد في الأرض يكون بعدل الله تعالى. والقرآن معجزةٌ تُخاطب الضمير والوجدان وتستثير الإنسان لتحكيم عقله، والاعتبار بما أبدع الله عزَّ وجلَّ في الكون من آياتٍ بيناتٍ وشواهد واضحاتٍ على وجوده وألوهيته ووحدانيته، وصِدقِ رسوله فيما أخبر به عنه من أحوال المعاد، وما دعا إليه من عبادته والعمل بشريعته التي تُحقق السعادة الأبدية وتكفل للناس ما يصبون إليه من طُمأنينةِ نفسٍ وراحة بالٍ، وأي نعمةٍ أعظم من ذلك؟

 

وشكر (نعمة القرآن) -كما يُبين لنا العلماء- يكون بالتخلق بأخلاقه، وتطبيق ما جاء فيه من طاعاتٍ سواءً تعلق الأمر بالأوامر أم بالنواهي؛ وذلك يعني عرض الناس أنفسهم على القرآن لقياس المسافات التي تفصلهم عن الأخلاق التي ينشدها؛ فالتخلق بأخلاق القرآن الكريم هو أفضل طريقةٍ لشكر هذه النعمة التي لا تُضاهيها نعمةٌ؛ كما جاء في الحديث الشريف: [وَفَضْلُ كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ]. ولهذا كان الاشتغال بكتاب الله عزَّ وجلَّ هو أشرف ما يوجد في الحياة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ]؛ فإن الله إنما يُفاضل بين الناس بقدر تعلمهم لكتابه وتعليمه للغير بطُرقٍ شتى تبدأ بقراءته وحفظه واستظهاره، وفهمه، وتدبره، وتنتهي بتطبيقه. ومن فضائل القرآن كذلك أن من يتمسك به لن يضل أبداً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أبشِروا وأبشِروا أليس تشهَدونَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ؟] قالوا: نَعم، قال: [فإنَّ هذا القرآنَ سبَبٌ طرَفُه بيدِ اللهِ وطرَفُه بأيديكم؛ فتمسَّكوا به فإنَّكم لنْ تضِلُّوا ولن تهلِكوا بعدَه أبدًا]. إن مجرد قراءة كتاب الله عزَّ وجلَّ تُكسب الأجر العظيم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ ﴿الم﴾ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ]. وأكثر من ذلك يرتفع قارئ القرآن إلى درجة الملائكية حين يقرؤه بمهارةٍ، ويُضاعَف الأجر لمن يقرؤه ويجد صعوبةً في قراءته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وهو حافِظٌ له، مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، ومَثَلُ الذي يَقْرَأُ وهو يَتَعاهَدُهُ، وهو عليه شَدِيدٌ؛ فَلَهُ أجْرانِ]. والمشغول بكتاب الله له أجره على الله الذي تكفل بأن يُعطيه أفضل ما يُعطي السائلين؛ جاء في الحديث: [يقولُ الرَّبُّ تباركَ وتعالى: مَن شغلَه القُرآنُ عَن مَسألتي أعطيتُه أفضَلَ ما أُعطي السَّائلِينَ].

وإذا كان هذا هو شأن المتعاطي للقرآن في الحياة الدنيا، وهي دار عملٍ، فشأنه في الآخرة وهي دار جزاءٍ أعظم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]. وأكثر من ذلك فإن القرآن الكريم يُدافع عن صاحبه يوم القيامة؛ جاء في الحديث: [يَجِيءُ صاحِبُ القُرآنِ يومَ القِيامةِ، فيقولُ القرآنُ: يا رَبِّ حُلَّهُ، فيَلْبسُ تاجَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ زِدْه، فيَلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ ارْضَ عَنه، فيَرضَى عنه، فيُقالُ لهُ: اقْرأْ، وارْقَ، ويُزادُ بِكُلِّ آيةٍ حسنةً] فهذه مكانةٌ لا يُدركها أحدٌ إلا صاحب القرآن.

 

في مقابل ذلك فإن من يُهمل القرآن ولا يهتم به يكون لا قيمة له ولا فائدة منه؛ فقد ورد في الحديث: [إنَّ الَّذِي لَيْسَ في جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ كَالبَيْتِ الخَرِبِ] ومعلومٌ أن البيت الخرب لا فائدة فيه. كما أن غياب القرآن من حياة الناس يكون سبباً في فتنةٍ؛ فقد ورد في الأثر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَلاَ إِنّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ]، قالوا: مَا المَخْرَجُ مِنْهَا -يَا رَسُولَ الله-؟ قالَ: [كِتَابُ الله، فِيهِ نَبَأُ مَا كان قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبّارٍ قَصَمَهُ الله، وَمَنْ ابَتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلّهُ الله، وَهُوَ حَبْلُ الله المَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الّذِي لاَ تَزِيعُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الالْسِنَةُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلاَ يَخْلُقُ عَلى كَثْرَةِ الرّدّ، وَلاَ تَنْقَضَي عَجَائِبُهُ، هُوَ الّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتّى قالُوا: ﴿إِنّا سَمِعْنَا قُرْآنَا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ﴾، مَنْ قالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ].

وفي وصف القرآن الكريم قال النبي عليه الصلاة والسلام: [إنَّ هذا القرآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ فتَعَلَّموا مَأْدُبَتَه ما استطعتم، وإنَّ هذا القرآنَ هو حبلُ اللهِ، وهو النورُ المبينُ، والشفاءُ النافعُ، عِصْمَةُ مَن تَمَسَّك به، ونجاةُ مَن تَبِعَه، لا يَعْوَجُّ فيُقَوَّمُ، ولا يَزِيغُ فيُسْتَعْتَبُ، ولا تَنْقَضِي عجائبُه، ولا يَخْلَقُ عن كَثْرَةِ الرَّدِّ].

 

وعن (نعمة القرآن) قال الشاعر:

إلهي عَلَى كلِّ الأمورِ لَكَ الحمْدُ

فليسَ لما أوليتَ من نِعمٍ حَدُّ

لكَ الأمرُ من قَبلِ الزمانِ وبَعدَهِ

ومالكَ قَبلٌ كالزمانِ ولا بَعدُ

لكَ الحَمدُ ربيِّ عنْ كِتابٍ ومِلَّةٍ

بها يَهتدي إنْ زاغَ عنْ نَهجهِ العَبْدُ

 

أحبتي .. هذا هو القرآن الكريم، كلام الله العظيم، ودستور كل مسلمٍ، فلنعرض أنفسنا عليه، ولينظر كلٌ منا إلى منزلة القرآن في قلبه، وكم من الوقت يُعطيه لكلام الله يومياً؟ وكم يحفظ من سوره؟ وإلى أي مدىً يصل فهمه وتدبره لآيات القرآن؟ وهل هو ملتزمٌ بما في كلام الله من أحكامٍ؟ هل يُحل حلاله ويُحَّرِم حرامه؟ هذه الأسئلة وغيرها تفيدنا في تقويم علاقتنا بكتاب الله عزَّ وجلَّ، ومن ثمَّ تصويب وتصحيح مسارنا حتى لا نكون مقصرين في شكر الله سبحانه وتعالى على (نعمة القرآن)، وحتى يكون القرآن شاهداً لنا لا علينا، ويكون شفيعاً لنا؛ قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ]، وحتى نكون من أهل الله؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ]، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: [هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ].

اللهم ارحمنا بالقرآن، واجعله لنا إماماً ونوراً وهدىً ورحمةً. اللهم ذكِّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، واجعله لنا حُجةً يا رب العالمين.

 

https://bit.ly/3f5mYTa