الجمعة، 9 سبتمبر 2022

الدعوة إلى الله

 

خاطرة الجمعة /360


الجمعة 9 سبتمبر 2022م

(الدعوة إلى الله)

 

قصةٌ حقيقيةٌ عن شخصيةٍ غير عاديةٍ، قصة داعيةٍ إسلاميٍ استثنائيٍ بكل ما تحمله كلمة استثنائيٌ من معانٍ؛ عُرضت عليه الملايين ليميل إلى الدُنيا ويجني الأموال، لكنه ترك ذلك كله وراء ظهره، ومنذ أربعين عاماً وهو يؤسس للإسلام في دولةٍ كانت بلا إسلام!

هذا الداعية تمسكت به السعودية ليعمل بها أستاذاً تقديراً لعلمه، وطلبته الكويت ليعمل لديها في الموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف الكويتية، وعينته باكستان نائباً لرئيس الجامعة وعميداً لكلية الدراسات العليا ورئيساً لقسم الفقه والحديث.

تبدأ قصته تحديداً عام 1982م؛ فأثناء زيارته ضمن وفدٍ إلى وزارة الأوقاف الكويتية، قال وزير الأوقاف الكويتي لأعضاء الوفد إن وزيراً من كوريا الجنوبية زار الكويت وقال للوزراء الكويتيين: "الناس في كوريا يموتون على الكُفر، لماذا لا تأتون وتنشرون الإسلام؟"، وسأل الوزير أعضاء الوفد: "من منكم يريد تحمل هذه المسئولية؟"، قال هذا الداعية الاستثنائي بدون تردد: "أنا أذهب إلى هناك، أنا لها".

إنه الإمام الشيخ الدكتور/ عبد الوهاب زاهد الحق، سافر إلى كوريا الجنوبية، وترك الوظيفة القيمة والمنصب المرموق في الكويت، واتجه إلى دولةٍ لم يكن يعرفها، ولا يعرف أي شيءٍ عنها ولا أي شيءٍ فيها، بل كان يعتقد في أول الأمر أنها دولةٌ إفريقيةٌ! دخلها حاملاً رسالة الإسلام بنية (الدعوة إلى الله) ونشر الإسلام. تعلم لغة الكوريين ودرس ثقافتهم وفهم عقولهم ودرس مُعتقداتهم، ووجد أغلبهم يعتقدون أن للكون سبعة آلهةٍ، ووجد منهم ملايين من النصارى وملايين من المُلحدين واللادينيين. على يديه اعتنق الآلاف من الكوريين الإسلام، وفي مراكزه الإسلامية التي ساهم وساعد وجاهد في إنشائها، والمنتشرة في مدنٍ كوريةٍ كثيرةٍ، يتهافت الناس للتعرف على الإسلام، وفي المساجد الكبيرة التي عمل على بنائها وتوزيعها وفقاً لأعداد المسلمين في المدن، يُمكنك أن ترى حقيقة انتشار الإسلام في كوريا.

كتب الشيخ/ عبد الوهاب زاهد الحق، للكوريين بلغتهم عشرات الكُتب حتى أصبح التعرف على الإسلام ظاهرةً لافتةً، والإقبال على التحول إلى الإسلام يحدث بشكلٍ يوميٍ، والأعداد في ازدياد.

للشيخ أكثر من خمسةٍ وخمسين كتاباً إسلامياً بعدة لغاتٍ؛ جميعها تُبسّط الإسلام وتوصل رسالته وتوضح معانيه للناس في دولةٍ ينهشها الإلحاد، وينتشر فيها الانتحار والكُفر، ويأبى الله إلا أن يسطع فيها نور الإسلام.

عرض أحد رجال الأعمال المصريين على الشيخ/ عبد الوهاب أن يكون شريكه في مشاريعه في كوريا بنسبة 50% دون مقدمٍ مع عربونٍ بمليون دولار، قال له الشيخ/ عبد الوهاب: "لقد تركتُ بلاد العرب وأنا عميد كلية دراساتٍ وأنا كذا وأنا كذا وأنا كذا، ليس من أجل المال، الحمد لله رب العالمين، لستُ بحاجةٍ إلى مالٍ، أنا هنا لأدعو إلى الإسلام، أنا هُنا لأُنقذ شخصاً كورياً من النار"، فرح رجل الأعمال المصري برفض الشيخ/ عبد الوهاب وسأله: "ماذا تريد؟"، قال له: "أريد مسجدين لمدينتين في كوريا"، أرسل له الرجل تكلفة مسجدٍ وهو مسجد أبو بكر الصديق؛ أحد أكبر وأهم مساجد كوريا، ونجح الشيخ/ عبد الوهاب في بناء المسجد الثاني في مدينةٍ ثانيةٍ، وسُمي مسجد عمر بن الخطاب، ومن عددٍ لا يُذكر من المساجد، انطلقت رسالة الإسلام، ليصل عدد المساجد الآن إلى أكثر من سبعين مسجداً، عدا عن المُصليات غير الرسمية، وعشرات المراكز الإسلامية، ومئات الآلاف من المسلمين، عشرات الآلاف منهم يعيشون في العاصمة سيول.

نجح الشيخ فيما جاء من أجله، خاطب عقول الكوريين وكسب قلوبهم؛ يقول الشيخ عبد الوهاب: "أنا افتخر بالمسلمين الجُدد في كوريا، سيكونون أمامي يوم القيامة، كتبتُ لهم ثلاثةً وعشرين كتاباً باللغة الكورية؛ في العقيدة الإسلامية والإيمان، والصراع بين الخير والشر، وفلسفة الشرك منذ عصر نوحٍ عليه السلام، كتبتُ لهم كتاباً عن أنبياء الله آدم ونوح وإبراهيم -عليهم السلام-، وكتبتُ لهم عن حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، وكتبتُ عن حياته في مكة، وحياته في المدينة، بأسلوبٍ مُبسطٍ لتُقرأ دون مُعاناةٍ ولا مللٍ، تركتُ لهم الإسلام مُترجماً".

الدكتور/ عبد الوهاب زاهد الحق الحلبي، من مواليد مدينة حلب في سورية عام 1941م، في الأربعينات من عُمره كان حاصلاً على بكالوريوس في علوم التفسير والحديث من جامعة الأزهر الشريف في مصر، وماجستير في الحديث الشريف ودكتوراه في الفقه المقارن.

تفرغ لنشر الإسلام في كوريا منذ عام 1984م وحتى اليوم، وهو مفتي المسلمين في كوريا، وإمام وخطيب مركز ومسجد أبي بكر الصديق، له زوجةٌ واحدةٌ، وسبعة أبناءٍ، وخمسة وثلاثون حفيداً. يقول إن والده -رحمه الله- رأى له في المنام مائةً وعشرين حفيداً. اللهم بارك لنا في عُمره، وفي عِلمه، ووفقه إلى ما فيه الخير للإسلام والمسلمين.

 

أحبتي في الله.. هذا الرجل وأمثاله -وهم قليلون- هم رجال الحق و(الدعوة إلى الله) سُبحانه وتعالى.

والدَّعوة لغةً مصدر دَعا يدعو دَعوَةً، وجمعها دَعْوات ودَعَوات. والدعوة تأتي بمعنى الدُعاء، والدعوة الإسلاميّة هي الدعوة إلى الإسلام، وشهادة أنّ لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله.

أما الدَّعوة اصطلاحاً فتأتي بمعنى نشر رسالة الإسلام وتبليغها للناس، وهي -كما يقول أهل العلم- الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى، وبما جاء به رُسله عليهم السلام؛ بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمّن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله، وملائكته، وكُتبه، ورُسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشرّه، ودعوة العبد إلى عبادة الله -تعالى- كأنّه يراه. وقيل في تعريف الدعوة إنها نشر الإسلام بين الناس وتعليمهم إياه؛ بحيث يطبقونه في واقع حياتهم.

 

يقول العلماء إن الآية الكريمة: ﴿...رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ تُبين أن مُهمة الرُسل هي (الدعوة إلى الله) تعالى تبشيراً بالخير وتحذيراً من الشر. وقد خاطب سُبحانه نبينا عليه الصلاة والسلام بالقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾؛ موضحاً أن (الدعوة إلى الله) هي الهدف من رسالته، ثم أمره أن يُبين لأمته أن هذه هي مهمته ومهمة أتباعه؛ فقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾؛ فالرسل وأتباعهم مأمورون بدعوة الناس إلى توحيد الله وطاعته، وإنذارهم عن الشرك به ومعصيته، وهذا مقامٌ شريفٌ، ومرتبةٌ عاليةٌ لمن وفقه الله تعالى للقيام بذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. ولما عرف الصالحون شرف هذه المُهمة حرصوا عليها، ولم يسيروا إليها مشياً بل سعوا لها سعياً، قال تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾.

 

وعن (الدعوة إلى الله) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا]. هذا هو الفضل العظيم؛ فإن الداعي إلى الله يجري له ثواب من اهتدى بدعوته، وهو نائمٌ في فراشه، أو مشتغلٌ في مصلحته؛ بل إن ذلك يجري له بعد موته، لا ينتهي ذلك إلى يوم القيامة.

 

والأمة كلها -كما يُخبرنا العلماء- يقع عليها عبء (الدعوة إلى الله)؛ فلا ينبغي أن يتخلف أحدٌ من المُسلمين عن هذا الميدان، ولا ينبغي أن يزدري المرء نفسه ويظن أنه أقل من أن يدعو إلى الله. إن (الدعوة إلى الله) واجبةٌ على كل مؤمن؛ يقول تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾، وهي ليست قاصرةً على من يعتلي المنابر ويُلقي الدروس والمُحاضرات، وإنما هي واجبٌ على كل مُسلمٍ يُحب الخير للآخرين كما يُحبه لنفسه، ويتطلع إلى أن يكون من المُفلحين؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ].

 

أحبتي.. فلنتعاهد جميعاً أمام الله سُبحانه تعالى بألا يمر يومٌ إلا وقد تقربنا إلى الله عزَّ وجلَّ بعملٍ من أعمال (الدعوة إلى الله)؛ سواءً بهداية الآخرين من غير المُسلمين، أو بتصحيح مفاهيم خاطئة عند بعض المُسلمين، أو -على الأقل- بالعزم الأكيد والنية الصادقة ومُكابدة هوى النفس حتى يُصبح كلٌ منا نموذجاً وقدوةً يتمثلها الآخرون؛ بالالتزام بالعبادات، والصدق والإخلاص في المُعاملات، وحُسن الخُلُق. على كلٍ واحدٍ منا أن ينوي (الدعوة إلى الله) حسب طاقته وقدرته؛ ويقول كما قال شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾.

اللهم أعنّا، ويسّر لنا أمورنا وأحوالنا، واهدنا للنهوض بواجب الدعوة إليك، وإلى شريعتك السمحاء، شريعة الإسلام.

https://bit.ly/3D9whyL