الجمعة، 13 ديسمبر 2019

الدعاء يرد القضاء


الجمعة 13 ديسمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٧
(الدعاء يرد القضاء)

امرأةٌ سعوديةٌ تحكي قصةً غريبةً عن زوجها فتقول: كان زوجي شاباً يافعاً مليئاً بالحيوية والنشاط، وسيماً جسيماً ذا دينٍ وخلقٍ باراً بوالديه. تزوجنا وسكنتُ معه في بيت والده كعادة الأسر السعودية، ورأيتُ من بره بوالديه ما جعلني أتعجب منه وأحمد الله أن رزقني هذا الزوج. رُزقنا ببنتٍ بعد زواجنا بعامٍ واحدٍ، ثم انتقل عمله إلى المنطقة الشرقية، فكان يذهب لعمله أسبوعاً ويمكث عندنا أسبوعاً، وأكمل على ذلك ثلاث سنين. في أحد أيام شهر رمضان المبارك، وكانت ابنتنا قد بلغت سن الرابعة، تعرض زوجي لحادث سيارةٍ، وهو في طريقه إلينا في الرياض، أُدخل على إثرها المستشفى، ودخل في غيبوبةٍ، أعلن بعدها الأطباء المختصون المعالجون له وفاته دماغياً وتلف ما نسبته 95% من خلايا المخ. كانت الواقعة أليمةً جداً علينا جميعاً، وخاصةً على أبويه المسنين، وكانت تزيدني حرقةً أسئلة ابنتنا "أسماء" عن والدها الذي شُغفت به شغفاً كبيراً وتعلقت به.
بعد مرور خمس سنين على وجود زوجي في المستشفى في حالة موتٍ دماغيٍ ميئوسٍ من علاجها؛ أشار عليّ بعضهم بأن أطلب الطلاق منه بواسطة المحكمة، حيث أفتى بعض المشايخ لي بجواز الطلاق فيهذه الحالة، لكنني رفضتُ ذلك الأمر رفضاً قاطعاً، وقلتُ لهم: "لن أطلب الطلاق طالما أنه موجودٌ على ظهر الأرض، فإما أن يُدفن كباقي الموتى، أو أن يتركوه لي حتى يفعل الله به ما يشاء".
ظللنا نتناوب على زيارته في المستشفى يومياً، طوال خمسة عشر عاماً، وهو لا يزال على حاله لا يتغير منه شيء. كنت خلال هذه السنوات قد وجهتُ اهتمامي لابنتي الصغيرة، وأدخلتها مدارس تحفيظ القرآن حتى حفظت كتاب الله كاملاً وهي لم تتجاوز العاشرة، أخبرتها وقتها بتفاصيل حالة والدها؛ فكانت تذكره حيناً بالبكاء وأحياناً بالصمت. كانت "أسماء" ذات دينٍ؛ تصلي كل فرضٍ في وقته، وتقوم الليل؛ فأحمد الله أن وفقني لتربيتها، وكانت عندما تذهب معي لرؤية والدها تقرأ عليه ما تيسر من القرآن الكريم وتتصدق عنه بين الحين والآخر.

في أحد الأيام - بعد خمس عشرة سنة - قالت لي "أسماء": "يا أماه، اتركيني عند أبي، سأنام عنده الليلة"، وبعد ترددٍ وافقت، وكانت ليلةً عجيبةً لا تُنسى أخبرتني عنها ابنتي فقالت: "جلستُ بجانب أبي أقرأ سورة البقرة حتى ختمتها، ثم غلبني النعاس فنمت؛ فوجدتُ كأن ابتسامةً علت محياي، واطمأن قلبي لذلك؛ فقمتُ من نومتي وتوضأت وصليتُ ما شاء الله أن أصلي، ثم غلبني النعاس مرةً أخرى. وأنافي مصلاي سمعتُ كأن شخصاً يقول لي: «انهضي، كيف تنامين والرحمن يقظان؟ كيف وهذه ساعة الإجابة التي لا يرد الله عبداً يسأله فيها؟» فنهضتُ كأنما تذكرتُ شيئاً غائباً عني، فرفعتُ يديَّ ونظرتُ إلى أبي وعيناي تغرورقان بالدموع، وقلت: «ربِ يا حي يا قيوم يا عظيم يا جبار يا كبير يا متعال يا رحمن يا رحيم .. هذا والدي عبدٌ من عبادك أصابته الضراء فصبرنا.. وحمدناك وآمنا بما قضيته له.. اللهم إنه تحت مشيئتك ورحمتك.. اللهم يا من شفيتَ أيوب من بلواه، ورددتَ موسى إلى أمه، وأنجيتَ يونس في بطن الحوت، وجعلتَ النار برداً وسلاماً على إبراهيم .. اشفِ أبي مما حل به.. اللهم إنهم زعموا أنه ميئوسٌ منه.. اللهم - ولك القدرة والعظمة - الطف به وارفع البأس عنه». ثم غلب النوم عينيّ فنمت قُبيل الفجر، وإذ بصوتٍ خافتٍ يناديني: «من أنتِ؟ وماذا تفعلين هنا؟»، فنهضتُ على الصوت .. اِلتفَّتُ يميناً وشمالاً فلم أرَ أحداً، ثم سمعتُ نفس الصوت مرةً أخرى فإذا بصاحب الصوت أبي! فما تمالكتُ نفسي؛ قمتُ واحتضنته فرِحةً مسرورةً .. وهو يُبعدني عنه ويستغفر ويقول: «اتقِ الله؛ لا تحلين لي»، قلتُ له: «أنا ابنتك أسماء» فسكتَ .. وخرجتُ إلى الأطباء أخبرهم فأتوا ولما رأوه تعجبوا؛ فقال الطبيب الأمريكي بلكنةٍ عربيةٍ متكسرةٍ: «سبحان الله»، وقال طبيبٌ آخر مصريٌ: «سبحان من يحيي العظام وهي رميم» .. وأبي لا يعلم ما الخبر حتى أخبرناه بما حدث له، وبما كانت عليه حالته؛ فبكى وقال: «الله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين .. واللهِ ما أذكر إلا أنني قُبيل الحادث نويتُ أن أتوقف لصلاة الضحى، فلا أدري أصليتها أم لا؟»". 
تقول الزوجة: فرجع إلينا أبو "أسماء" كما عهدته، وقد قارب عمره ستةً وأربعين عاماً، ورُزقت منه بولدٍ بلغ عمره الآن سنتين ولله الحمد، فسبحان الله الذي رده لنا بعد خمسة عشر عاماً، وحفظ ابنته، ووفقني للوفاء وحسن الإخلاص له حتى وهو مغيبٌ عن الدنيا.



أحبتي في الله .. تقول هذه الزوجة: لا تتركوا الدعاء؛ (الدعاء يرد القضاء)، ومَن حَفظ الله حفظه الله. ولا تنسوا البر بوالديكم. ولنعلم أن الله عزَّ وجلَّ بيده تصريف الأمور وتقديرها، وليس لأحدٍ سواه فعل ذلك. إنها قصةٌ للعبرة؛ لعل الله أن ينفع بها. فإلى من ضاقت به السبل، وعظمت عليه الكُرَب، وأُقفلت من دونه الأبواب، وتقطعت به الأسباب: اقرع باب السماء بالدعاء، واستيقن بالإجابة، لا تيأس، ما دام ربك الله، عليك أن تدعو، وأنت تُحسن الظن بالله سبحانه، وتيقن بقرب الفرج والإجابة.                

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾، كما يقول: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾، ويقول كذلك: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول عزَّ من قائل: ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾،ويقول: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾. ويقول على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾، ويقول: ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾.

وقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: [إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ]، وفي روايةٍ: [الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ]. يقول العلماء إن معنى "مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ" أي: يغلب على ظنكم أن الله تعالى يتقبل دعاءكم، ويحقق مرادكم، وهذا من إحسان الظن بالله تعالى، وقد جاء في الحديث القدسي: {أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي؛ إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ}.

يقول أهل العلم إن لقبول الدعاء شروطاً منها: الدعاء لله وحده لا شريك له، بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى، بصدقٍ وإخلاصٍ. ومنها: ألا يدعو المرء بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ أو يستعجل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يزَالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَم يدعُ بإِثمٍ، أَوْ قَطِيعةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتعْجِلْ] قيل: يا رسول اللَّه مَا الاستعجال؟ قَالَ: [يَقُولُ: قَدْ دعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَم أَرَ يَسْتَجِيبُ لي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْد ذَلِكَ، ويَدَعُ الدُّعَاءَ]. وفي هذا الحديث أدبٌ من آداب الدعاء، وهو الإلحاح وملازمة الطلب، وعدم اليأس من الإجابة؛ لما فيذلك من الانقياد والاستسلام، وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف: "لأنا أشد خشيةً أن أُحرم الدعاء من أن أُحرم الإجابة". وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا]، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: [اللَّهُ أَكْثَرُ].

وينبغي للداعي أن يدعو بقلبٍ حاضرٍ، وأن يتحرى أوقات الإجابة؛ كالثلث الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة، وعند الإفطار من الصيام، ووقت المطر. وليعلم أن (الدعاء يرد القضاء)؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [لا يردُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ، ولا يزيدُ في العمرِ إلَّا البرُّ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [... وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]، كما يدل على ذلك حديث القنوت الذي جاء فيه: [وَقِنِي شَرَّ مَا قْضَيْتَ].

أحبتي .. أوصيكم ونفسي بالإكثار من الدعاء؛ فهو عبادةٌ سهلةٌ لا مشقة فيها، لا تُكلف مالاً ولا جهداً، ولا تستلزم وضوءً ولا طهارةً ولا استقبال قبلةٍ ولا سفراً، ولا تستغرق وقتاً .. إنها عبادةٌ ميسرةٌ لمن يسرها الله له. فلندعو الله دائماً - خاصةً في أوقات الاستجابة - ولنكن موقنين بالإجابة، فمن ذا الذي يرفع يديه للكريم مؤمناً مخلصاً خاشعاً منيباً موقناً فيردهما صفراً خائبتين؟ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ].

اللهم إنا ندعوك باسمك الأعظم الذي إذا دُعيتَ به أجبت، وإذا سُئلتَ به أعطيت، وإذا اُسترحمتَ به رحمت، وإذا اُستجرتَ به أجرت، وإذا اُستغفرتَ به غفرت، أن تكفر عنا سيئاتنا، وتغفر لنا ذنوبنا، وتقبل منا أعمالنا، وتتوفنا وأنت راضٍ عنا.

http://bit.ly/34ixA9N