الجمعة، 22 مارس 2019

شطر الإيمان


الجمعة 22 مارس 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٩
(شطر الإيمان)

يقول راوي القصة: سألني صاحبي وهو يحاورني: "كيف تتوضأ؟"، قلت ببرودٍ: "كما يتوضأ الناس!"، فأخذته موجةٌ من الضحك حتى اغرورقت عيناه بالدموع ثم قال مبتسماً: "وكيف يتوضأ الناس؟!"، ابتسمت ابتسامةً باهتةً وقلت: "كما تتوضأ أنت!"، قال في نبرةٍ جادةٍ: "أما هذه فلا؛ لأني أحسب أن وضوئي على شاكلةٍ أخرى غير شاكلة أكثر الناس"، قلت على الفور: "فصلاتك باطلةٌ إذن!"، فعاد إلى ضحكه، ولم أشاركه هذه المرة حتى الابتسام، سَكَتَ ثم قال: "يبدو أنك ذهبت بعيداً؛ أنا أعني، أنني أتوضأ وأنا في حالةٍ روحيةٍ شفافةٍ _ علمني إياها شيخي _ فأجد للوضوء متعة، ومع المتعة حلاوة، وفي الحلاوة جمال، وخلال الجمال سموٌ ورفعةٌ ومعانٍ كثيرةٌ لا أستطيع التعبير عنها!". ارتسمت علامات استفهامٍ كثيرةٍ على وجهي، لكنه لم يمهلني حتى أسأل وواصل: "أسوق بين يديك حديثاً شريفاً فتأمل جيداً كلمات النبوة الراقية السامية؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوْ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنْ الذُّنُوبِ]، وفي حديثٍ آخر  قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ]، وفي حديث ثالثٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلاَّ انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ]. سكت صاحبي لحظاتٍ وأخذ يسحب نفساً من الهواء العليل منتشياً بما كان يذكره من كلمات النبوة .. ثم حدَّق في وجهي وقال: "لو أنك تأملت هذه الأحاديث جيداً، فإنك ستجد للوضوء حلاوةً ومتعةً وأنت تستشعر أن هذا الماء الذي تغسل به أعضاءك، ليس في الحقيقة سوى نورٍ تغسل به قلبك!"، قلت: "سبحان الله، كيف فاتني هذا المعنى!؟ والله أنني أتوضأ منذ سنواتٍ طويلةٍ غير أني لم أستشعر هذا المعنى، إنما هي أعضاءٌ أغسلها بالماء ثم أنصرف، ولم أخرج من لحظات الوضوء بشيءٍ من هذه المعاني الراقية!"، قال صاحبي وقد تهلل وجهه بالنور: "وعلى هذا حين تجمع قلبك وأنت في لحظات الوضوء، تجد أنك تشحن هذا القلب بمعانٍ سماويةٍ كثيرةٍ، وكل ذلك ليس سوى تهيئةٍ للصلاة! فما بالك بالصلاة نفسها! المهم أن عليك أن تجمع قلبك أثناء عملية الوضوء وأنت تغسل أعضاءك"، قلت: "هذا إذن مدعاةٌ لي للوضوء مع كل صلاةٍ؛ أجدد الوضوء حتى لو كنت على وضوء .. نورٌ على نورٍ .. ومعانٍ تتولد من معانٍ!"، قال وهو يبتسم: "بل هذا مدعاةٌ لك أن تتوضأ كلما خرجت من بيتك لتواجه الحياة وأحداثها بقلبٍ مملوءٍ بهذه المعاني السماوية!"، قلت وأنا أشعر أن قلبي أصبح يرف ويشف ويسمو: "أتعرف يا صاحبي أنك بهذه الكلمات قد رسمت لي طريقاً جديداً في الحياة، ما كان يخطر لي على بال، وفتحت أمام عيني آفاقاً رائعةً كانت محجوبةً أمام بصري؛ فجزاك الله عني خير الجزاء".

يقول راوي القصة منذ ذلك اليوم كلما هممتُ أن أتوضأ، سرعان ما أستحضر كلمات صاحبي، فأجدني في حالةٍ روحيةٍ رائعةٍ وأنا أغسل أعضائي بالنور لا بالماء! يا الله كم من سنواتٍ ضاعت من حياتي، وأنا بعيدٌ عن هذه المعاني السماوية الخالصة .. يا حسرةً على العباد! لو وجد الناس دفقةً من هذه المعاني السماوية تنصب في قلوبهم، لوجدوا أُنساً ومتعةً وجمالاً وصقلاً واضحاً لقلوبهم أثناء عملية غسل أعضائهم بهذا النور الخالص.

وعن الوضوء يقول أحدهم: كان أخٌ مسلمٌ يتوضأ في أحد المغاسل في إحدى الدول الأوروبية فجاءه شخصٌ من الخلف وأمسك به في ازدراءٍ وقال له: "أنتم المسلمون قذرين؛ تضعون أقدامكم القذرة في مكانٍ نظيفٍ نغسل فيه وجوهنا وأيدينا!"، فرد عليه المسلم ببراعة: "قل لي، كم مرةً تغسل وجهك في اليوم؟"، أجابه: "مرةً في الصباح، وأحياناً أغسله مرةً أخرى في المساء"، فرد عليه أخونا المسلم: "نحن نغسل أقدامنا خمس مراتٍ في اليوم؛ فقل لي ما الأنظف قدمي أم وجهك؟"، فسكت ولم يرد!

أحبتي في الله .. إنه الوضوء (شطر الإيمان) الذي له - كما يقول العلماء - دورٌ كبيرٌ في حياة المسلم المؤمن؛ فهو يجعله دائماً في حيويةٍ وتألقٍ لأنه لا يُعتبر فقط تنظيفاً وتطهيراً للأعضاء الظاهرة من الجسم، بل هو تنظيفٌ للروح الداخلية للإنسان؛ فالروح تحتاج لطهارةٍ مثلما الجسد بالضبط.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾. وقال تعالى: ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ. فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾.
يقول أهل العلم أنَّ للوضوء فضائل كثيرةً منها أنه سببٌ في مغفرة الذنوب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ غَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ، ثُمَّ قَامَ إِلَى صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا مَشَتْ إِلَيْهِ رِجْلَاهُ، وَقَبَضَتْ عَلَيْهِ يَدَاهُ، وَسَمِعَتْ إِلَيْهِ أُذُنَاهُ، وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ عَيْنَاهُ، وَحَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ سُوءٍ].
ولا تصح صلاةٌ إلا بالوضوء؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لا تُقْبَلُ صَلاةُ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ].
والوضوء نصف الإيمان؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ].
 وهو سبيلٌ إلى الجنة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلالٍ عند صلاة الفجر: [يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ]، قال: "ما عملتُ عملًا أرجى عندي أني لم أتطهر طُهورًا في ساعة ليلٍ أو نهارٍ إلا صليتُ بذلك الطُّهور ما كُتب لي أن أصلِّي".
والوضوء يرفع درجات العبد في الجنَّة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟]، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: [إِسْباغُ الْوُضُوءِ عَلى المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخطى إِلى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بعْد الصَّلاةِ، فَذلِكُمُ الرِّباطُ، فَذلكُمُ الرِّباطُ].
 وهو يحُلُّ عُقَدَ الشيطانِ؛ قال صلى الله عليه وسلم: [يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ؛ فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ].
كما أنه نورٌ للمسلم يوم القيامة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ، حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوءُ].
وهو يُميِّز الأمة المحمدية عن غيرها يوم القيامة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ].

وقد أكد بحثٌ علميٌ حديثٌ أن الوضوء، الذي هو (شطر الإيمان)، وسيلةٌ فعالةٌ للتغلب على التعب والإرهاق، كما أنه يجدد نشاط الإنسان، ويعيد توازن الطاقة التي تسري في مسارات جسم الإنسان، ويصلح ما بها من خللٍ بعد تنقية المرء من ذنوبه وخطاياه التي لها تأثيرٌ على الحالة النفسية والجسمية. كما ثبت أن عمليات التدليك لأعضاء الجسم أثناء الوضوء للصلاة تعيد للمرء حيويته ونضارته، بالإضافة إلى أنها تساعد خلايا المخ على التجدد والاستمرار في ضخ الدم. والوضوء يجدد كل خلايا الجسم ويمدها بالطاقة اللازمة التي تشع من أجسامنا، ويعمل على إعادة التوازن النموذجي للمجال الحيوي المحيط بالإنسان، ويصلح أي خللٍ في مسارات الطاقة، وفي ذلك حمايةٌ من الآثار السلبية للتكنولوجيا الحديثة وتلوث البيئة وغيرها من المجالات المختلفة المؤثرة على الطاقة الحيوية للإنسان.

أحبتي .. هذه دعوةٌ لاستحضار كل هذه المعاني السامية والفضائل عندما نتوضأ. كما أنها دعوةٌ لأن نحافظ على وضوئنا طوال اليوم على سبيل الاستحباب؛ لقوله صلوات الله وسلامه عليه: [... وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ].
وأختم ببشارةٍ غفل عنها البعض؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قال: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ، فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ].

اللهم نعوذ بك أن نكون من الغافلين، واجعلنا اللهم من التوابين ومن المتطهرين، واكتبنا من أصحاب الجنة يا رب العالمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.