الجمعة، 12 أكتوبر 2018

حرب أكتوبر

الجمعة 12 أكتوبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٦
(حرب أكتوبر)

سألني حفيدي عن سبب عطلة المدرسة يوم الأحد الماضي؛ فكانت مناسبةً للحديث معه عن (حرب أكتوبر) ١٩٧٣م وقتال العدو الصهيوني المغتصب لأراضينا، وكيف كانت هذه الحرب ضرورةً لتحرير الأرض واستعادة الكرامة. ما لم أكن أتوقعه هو سؤاله التالي: "هل شاركت يا جدي في هذه الحرب؟"، قلت له: "شاركت ولم أشارك"، قال: "كيف؟! لم أفهم، أهي فزورةٌ؟"، قلت له: "ليست فزورةً؛ ولكن أنْصِّت إليّ ستعرف كيف أني شاركت ولم أشارك"، قال: "أُنصتُ إليك جدي، وكلي آذانٌ صاغيةٌ". قلت: "فلنبدأ من البداية".

أحبتي في الله .. حكيتُ لحفيدي القصة بدايةً من نكبة فلسطين عام ١٩٤٨م وحرب العرب الأولى مع العصابات الصهيونية التي انتهت بتقسيم فلسطين وإعلان قيام ما يُسمى بدولة إسرائيل، ثم تَوَسُّع هذا الكيان أثناء حرب ١٩٦٧م حين احتل أجزاءَ أخرى من الأراضي العربية، منها شبه جزيرة سيناء كلها من حدودنا الدولية إلى الضفة الشرقية لقناة السويس؛ حيث أنشأ الإسرائيليون "خط بارليف" وتمترسوا خلفه.
كنا في ذلك الوقت شباباً، وكنا تواقين للقيام بواجبنا الوطني والإسهام في معركة التحرير ودحر العدوان؛ فطالبنا بذلك، كما طالبنا بمحاسبة المسئولين عن هزيمتنا في حرب ١٩٦٧م. واضطررنا إلى الخروج في مظاهراتٍ حاشدةٍ في شهر فبراير ١٩٦٨م تنديداً بما اعتبرناه أحكاماً مخففةً صدرت بحق هؤلاء المسئولين، وللمطالبة بأن يكون لنا دورٌ في تحرير أراضينا المحتلة؛ فصدر بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨م، ثم صدرت بعده توجيهاتٌ بتشكيل ما سُمي "كتائب خدمة الجبهة" وتم فتح باب التطوع فيها أمام من يرغب من طلاب الجامعات والمعاهد العليا. كانت حرب الاستنزاف على أشدها، وهي التي استمرت من ١٩٦٨م إلى ١٩٧٠م، وكان العدو الصهيوني يمتلك حينئذٍ سيطرةً كاملةً على سماء بلادنا وأجوائنا دون رادعٍ، وبدأ في ضرب المدنيين؛ فكانت الغارة على مدرسة بحر البقر بمحافظة الشرقية التي أُستشهد فيها الكثير من أطفال المدرسة، ثم كانت الغارات على مصنع في أبي زعبل وعلى محطة محولات السد العالي بنجع حمادي، الأمر الذي دفع القيادة السياسية للتعاقد على صواريخ روسيةٍ حديثةٍ من طراز "سام" لإنشاء حائط صدٍ يحول دون عربدة الطائرات الإسرائيلية. وصلت الصواريخ وكان لابد من تركيبها في خطوط المواجهة الأمامية مع العدو في سريةٍ تامةٍ وباستخدام كل أساليب الخداع والتمويه اللازمة.
التحقت بكتائب خدمة الجبهة؛ تلقينا تدريباً عسكرياً مكثفاً بالمدينة الجامعية لجامعة عين شمس، وتم استخراج بطاقات هويةٍ لنا من المخابرات الحربية، وارتدينا الزي العسكري الخاص بجنود الجيش المصري، ثم توجهنا في سيارات نقل الجنود إلى كتائب سلاح المهندسين التي توزعنا عليها. شاركت في هذه الكتائب مرتين: مرةً في شهر يناير ١٩٦٩م في منطقة "عجرود" القريبة من مدينة السويس، وأخرى في شهر يناير ١٩٧٠م في منطقة "أبو سلطان" بالقرب من مدينة فايد على طريق الإسماعيلية. كانت ملحمةً وطنيةً رائعةً بدأت قبل (حرب أكتوبر) بهدف بناء شبكة صواريخ حديثةٍ تمثل حائط صدٍ للطائرات، ثم تحولت أثناء الحرب إلى نظام غطاءٍ جويٍ محكمٍ لقواتنا المسلحة وقت أن عبرت قناة السويس، وحين بدأت في تطوير هجومها بعد العبور.
عند وصولنا لكتيبة المهندسين التي التحقنا بها، أُعطي كل واحدٍ منا جاروفاً طويلاً وطُلب منه أن يحفر لنفسه "حفرةً برميليةً"، وهي حفرةٌ بطول الفرد ينزل فيها وقت الغارات مرتدياً خوذته الفولاذية، مما يكفل له أقصى حمايةٍ ممكنة.
عشنا حياة الجنود كما هي على الطبيعة دون أن نتلقى معاملةً خاصةً، كان نومنا في الخيام مثلهم، وأكلنا وشربنا مما يأكلون منه ويشربون، واستخدمنا حماماتهم، وشاركناهم نوبات الحراسة الليلية. أذكر أن أحد الطلبة خرج من خيمته في الليل ليتوجه إلى الحمام فاعترضه الجندي المناوب شاهراً سلاحه في وجهه، طالباً منه كلمة سر الليل، وهي كلمةٌ كانت تتغير كل ليلة ونُخطر بها، وإذا بزميلنا من هول المفاجأة يرتبك فينسى كلمة السر، ولولا مرور أحد الضباط للتفتيش وقتها لكان زميلنا هذا قد ضُرب بالرصاص الحي. وأذكر زميلاً لنا كانت نوبة حراسته "كنجي" وهي الفترة من الساعة الثانية إلى الساعة الرابعة صباحاً؛ فغلبه النوم ووقع سلاحه من يده، وتصادف مرور أحد الضباط للتفتيش فأخذ السلاح وأيقظ زميلنا وأمر بتحويله فوراً للمحاكمة العسكرية، وقام بتكليف زميلٍ آخر بالحراسة، ولما عرفوا في الصباح أن المناوب هو طالبٌ من طلاب كتائب خدمة الجبهة اكتفوا بترحيله إلى القاهرة وإلغاء مشاركته في هذه الكتائب.
كانت التوجيهات لنا جميعاً، جنوداً وطلاباً، أن نلعب في النهار مباريات كرة قدمٍ، غير ملتزمين بارتداء الزي العسكري، بحيث تبدو الوحدات العسكرية في حالة ترهل وخمول أبعد ما تكون عن الاستعداد لمعركة، وكان ذلك جزءاً من خطة التمويه التي تم تنفيذها بنجاحٍ على طول خط المواجهة مع العدو.
أما في الليالي غير القمرية فقد كنا نعمل بمنتهى الحماس والهمة والنشاط في تجهيز الموقع لنصب أحدث أنواع الصواريخ المضادة للطائرات. استطاعت الوحدات العسكرية جميعها إتمام بناء حائط الصد الصاروخي الذي فوجئت به إسرائيل، والذي كان الأساس في استحداث فرعٍ جديدٍ للقوات المسلحة أُطلق عليه اسم "الدفاع الجوي" لعب دوراً متميزاً خلال (حرب أكتوبر).
أذكر أنه كانت تأتينا كل يومٍ قافلة خدماتٍ تتكون من عدة سياراتٍ محملةً بالماء والطعام وكل ما يلزم موقعنا والمواقع المجاورة من أجهزةٍ وأدواتٍ ومواد مطلوبةٍ، وحدث أن طائراتٍ عسكريةً إسرائيليةً ظلت تترصد هذه القافلة وتقصفها على مدى أربعة أيامٍ متتاليةٍ، فبقينا في موقعنا في الصحراء دون طعامٍ أو ماءٍ طوال هذه المدة. كان الوضع صعباً للغاية؛ اُضطر قائد الكتيبة لصرف الأغذية المعلبة لنا كبديلٍ للطعام الذي كان يصلنا في جبهة القتال، أما الماء فلم يكن له بديلٌ؛ فكانت حياة كلٍ منا مرهونةً بما كان متبقياً من ماءٍ في زمزميته؛ منه يشرب ويغتسل، أما الوضوء فكان البديل له التيمم، وأما غسيل الملابس فقد كان ترفاً لم نفكر فيه، خاصةً أننا لم نكن نعلم مع بدء الغارات متى ستنتهي، ولا أتصور الآن كيف كان الأمر لو استمر الوضع لأكثر من تلك الأيام الأربعة.
ذكرياتٌ كثيرةٌ ما تزال حاضرةً في ذهني عن كتائب خدمة الجبهة، وهي بصدقٍ من أجمل وأروع أيام عمري. من ذلك، يوم أبلغتنا قيادة الكتيبة أن سلاح الإشارة سيوفر لنا خطاً هاتفياً كي يتصل كلٌ منا بأسرته، وفي اليوم المشهود، وقفنا في طابورٍ طويلٍ، يحمل كلٌ منا في يده ورقةً كتب فيها رقم الهاتف الذي سيتم بواسطته التواصل مع أسرته. مشاعر مختلطةٌ من السعادة والترقب اجتاحتنا. عندما يصل أحدنا لدوره يقوم الفني من سلاح الإشارة بالاتصال برقم الهاتف وإعطاء السماعة لصاحب الدور ليتحدث فيما لا يزيد عن دقيقةٍ واحدةٍ فقط، عليه ألا يعطي خلالها أية بياناتٍ أو معلوماتٍ لأهله، يكفي أن يخبرهم أنه بخير. كنا نستمع لمكالمات بعضنا البعض، منا من كلم أمه أو أباه، ومنا من لم يكن بجوار الهاتف إلا أخاه الصغير وانتهت مدة الاتصال دون أن يتحدث مع أحد الكبار، ومنا من كلم البقال أو المكوجي وطلب منه أن يطمئن أهله عليه!
وإن أنسى لا أنسى ما حييت يوم أن أغارت طائرةٌ عسكريةٌ إسرائيليةٌ على موقعنا؛ أُطلقت صفارات الإنذار، فقفز كلٌ منا، نحن الطلاب، في حفرته البرميلية مرتدياً خوذته، وأما الجنود فقد توزعوا على المدافع المضادة للطائرات واستعدوا بإحضار القذائف، ووقف جنديٌ مدربٌ على تمييز الطائرات يحمل نظارته المكبرة بكلتا يديه موجهاً نظره نحو السماء، أعلن بصوتٍ جهوريٍ أن الطائرة من طراز سكاي هوك على ارتفاع خمسة كيلومترات؛ فإذا بالجنود يقفزون إلى المدافع ويختارون الذخيرة المناسبة لهذا النوع من الطائرات. ثم عاد في تقديره لنوع الطائرة قائلاً "كما كنت" وأعلن أنها طائرةٌ من طراز فانتوم على ارتفاع ثلاثة كيلومترات؛ فإذا بالجنود بسرعةٍ ومهارةٍ يقومون بالانتقال إلى مدافع أخرى، ويغيرون نوع القذائف لتناسب هذا الطراز من الطائرات. اقتربت الطائرة من الموقع، وبدأ التعامل معها بالقذائف المضادة، وهي ما تزال في حالة انقضاضٍ بمقدمتها. بالنسبة لي كان شكل الطائرة مخيفاً مرعباً، مرت الثواني الخاطفة لهذه الغارة كما لو كانت دهراً، لا يملك أيٌ منا سوى أن يلجأ إلى الله؛ يقرأ ما استطاع أن يتذكره من قرآنٍ وما يخطر على باله من أدعية. وحانت لحظة اقتراب الطائرة من الأرض، حتى أنني ظننت أن قائدها قد أفلت منه الزمام أو أن إحدى قذائفنا قد أصابت الطائرة؛ فهي تتجه نحونا بسرعةٍ عاليةٍ، تكاد تصطدم بالأرض، لم أفهم وقتها لماذا لم يقم الطيار بإطلاق النار حتى هذه اللحظة؟ وإذا بالطائرة تعود للارتفاع بزاوية حادة وبنفس السرعة، وإذا برشاشاتٍ مثبتةٍ في جناحيها تطلق عشرات القذائف وهي تحلق فوق الموقع قبل أن تنهي مهمتها وترجع من حيث أتت. انتهت الغارة، وبدأ إحصاء الخسائر من الشهداء والمصابين والأضرار المادية، وكانت كلها ولله الحمد قليلةً. لكن صورة الطائرة وهي تنقض على الموقع لم يبرح خيالي حتى هذه اللحظة.

أحبتي .. شهدت (حرب أكتوبر) بطولاتٍ كثيرةً؛ هناك من ضحى بروحه، وهناك من أصيب، أما أنا فقد كانت مشاركتي محدودةً جداً ومتواضعةً، لكني أعتز بها؛ لم أشارك في الحرب، لكن كان لي شرف الإعداد لها. ربما رويت هذه الذكريات لأبنائي، أكثر من مرةٍ، لكني أكتبها اليوم ليقرأها أحفادي ليتعلموا، هم وغيرهم، درساً مهماً هو أن حب الوطن الحقيقي لا يكون بمجرد أن نقول "تحيا مصر"، أو نضع العلم في سياراتنا ونزين به شرفات منازلنا، أو نردد النشيد الوطني. حب الوطن هو كل ذلك معاً مضافاً إليه عملٌ صادقٌ ومخلصٌ لخدمة أهدافٍ واضحةٍ ترقى بها بلادنا.

اللهم اهدنا، وألف بين قلوبنا، ووحد صفوفنا، وأعز أوطاننا، وانصرنا على أعدائنا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/yiQsXy