الجمعة، 19 يناير 2018

خُلُق الوفاء

الجمعة 19 يناير 2018م

خاطرة الجمعة /١١٨
(خُلُق الوفاء)

يُحكى عن أستاذٍ جامعيٍ أُعد حفلٌ لتكريمه عقب عودته من الخارج بعد غيابٍ لأكثر من خمسة عشر عاماً، وهو يشغل الآن منصب كبير استشاري أمراض القلب في مشفىً عالميٍ مرموقٍ. عند دخوله القاعة التي سوف يُكرم فيها استوقفه منظر بائع صحفٍ كبيرٍ في السن يفترش صحفه؛ فتذكر ملامحه المحفورة في ذهنه، واستمر في المشي حتى دخل القاعة وجلس سارحاً مع بائع الجرائد. عندما نُودي على اسمه ليتسلم وسام التكريم قام من مكانه، لكنه لم يتوجه إلى المنصة بل توجه إلى خارج القاعة، والكل ينظر إليه في ذهولٍ والنظرات تتابعه؛ فذهب إلى بائع الصحف ووضع يده على كتفه وأمسك بيده؛ فخاف البائع ووعده بألا يفترش الأرض في هذا المكان مرةً أخرى، قال له الأستاذ الجامعي أنه لن يفترش الأرض مرةً أخرى لا في هذا المكان ولا في غيره!. ظل البائع يقاوم بيدٍ مرتجفةٍ، والدكتور يمسك بيد البائع بكل قوته وهو يقوده إلى القاعة، ولاحظ البائع أن عيون الدكتور تدمع فسأله: "ما بك يا بني؟"، لم يُجب الدكتور وقاد البائع حتى المنصة والكل ينظر إليه في اندهاش، وبكى الدكتور بكاءً شديداً وأخذ يعانق البائع ويقبل رأسه ويده، ثم سأله: "ألم تعرفني يا أستاذ خليل؟"، أجاب البائع: "لا والله، العتب على النظر"، قال الدكتور: "أنا تلميذك ضياء، في المدرسة الابتدائية سنه 1966م"، فنظر البائع إلى الدكتور واحتضنه، وقام الدكتور وأخذ الوسام وقلده لمعلمه القديم، وقال للحاضرين: "هؤلاء هُمْ من يستحقون التكريم، إنهم هُمْ الذين علمونا".
إنها قصة وفاءٍ نادرٍ.

وهذه قصة وفاءٍ أخرى يرويها طبيبٌ فيقول أنه دخل عليه رجلٌ عجوزٌ يناهز الثمانين من العمر حوالي الساعة الثامنة من صباح يومٍ مشحونٍ بالعمل لإزالة بعض الغرز من إبهامه، وذكر أنه في عجلةٍ من أمره لأن لديه موعداً في التاسعة. يقول الطبيب: "تحدثت معه قليلاً وأنا أزيل الغرز وأهتم بجرحه"، سألته لماذا هو في عجلةٍ من أمره؟ أجاب: "إني ذاهبٌ لدار رعاية المسنين لتناول طعام الإفطار مع زوجتي"، فسألته عن سبب دخول زوجته دار الرعاية، فأجاب: "إنها هناك منذ فترةٍ لأنها مصابةٌ بمرض الزهايمر الذي أفقدها الذاكرة"، سألته: "وهل ستقلق زوجتك لو تأخرتَ عن الميعاد قليلاً؟"، أجاب: "أنها لم تعد تعرف من أنا، إنها لا تستطيع التعرف علىّ منذ خمس سنواتٍ مضت"، قلت مندهشاً: "ولازلت تذهب لتناول الإفطار معها كل صباحٍ على الرغم من أنها لا تعرف من أنت ؟!"، ابتسم الرجل وهو يضغط على يدي وقال: "هي لا تعرف من أنا، ولكني أعرف من هي". يقول الطبيب: "اضطررت لإخفاء دموعي حتى رحيله، وقلت لنفسي هذا هو نوع الحب الذي أريده في حياتي".

أحبتي في الله .. الوفاء من أنبل الصِفات والأخلاق الإنسانيّة، هو خُلُقٌ من أخلاق الإسلام الراقية، وصِفَةٌ من صفات النفوس الأبيّة، خُلُقٌ إذا انتشر بين الناس ملأ حياتهم صفاءً ونقاءً، وظللهم بروح المودة والإخاء والمحبة والألفة، هو خُلُقٌ اجتماعيٌ إسلاميٌ من أجمل ما يُوصف به المرء، هو الإخلاص والصدق في المعاملة دون خيانةٍ أو غدرٍ، وهو الخُلُق الكامل الذي يدُل على تمام مكارم الأخلاق عند المرء.

الوفاء لغةً: ضد الغَدْر؛ يُقال وَفَى بعهده وأَوْفَى إذا أتمه ولم ينقض حفظه.
والوفاء اصطلاحاً: حفظٌ للعهود والوعود، وأداءٌ للأمانات، واعترافٌ بالجميل، وصيانةٌ للمودة والمحبة.

الوفاء من صفات الله سبحانه وتعالى؛ قال في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وقال عز وجل: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.
والوفاء من صفات الأنبياء والمرسلين؛ قال تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى . وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى . أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾، وقال سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا . وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾.
والوفاء من سمات المؤمنين المتقين؛ قال سبحانه: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، وقال عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
وأمرنا سبحانه وتعالى بالوفاء؛ فقال: ﴿وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
ووعد الله الذين يوفون بعهده بمحبته؛ يقول سبحانه: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، ووعدهم بالجنة؛ قال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، قال ابن جرير: وعهده إياهم أنهم إذا أوفوا بعهد الله بعبادته بإخلاصٍ وبغير شركٍ أن يدخلهم الجنة. ووعدهم كذلك بمضاعفة الأجر والثواب؛ قال عز وجل: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾. كما وعدهم بالفوز بالنعيم المقيم في الجنة؛ قال سبحانه وتعالى عن أولي الألباب ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ أَنَّ ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ . سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾. ووصفهم عز وجل بالأبرار؛ فقال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا . عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا . يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾، وأثابهم حسن الثواب؛ قال سبحانه: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا . وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا . مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا . وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا وتَذْلِيلًا﴾.
وقد جعل القرآن الكريم الخروج عن فضيلة الوفاء كالخروج عن فضيلة الإنسانية؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ﴾.
ورغم كل ذلك فإن (خُلُق الوفاء) لا يُقَدِّره للأسف إلّا القليلون؛ قال تعالى: ﴿وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾.
والإسلام ينهى عن الخيانة؛ حتى من يُخشى خيانتهم من الأعداء فلا ينبغي خيانتهم؛ لأن الخيانة خُلُقٌ ذميمٌ والله لا يحب الخائنين؛ قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾، قال ابن كثير: "أي: أَعْلِمْهُم بأنك قد نقضتَ عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حربٌ لهم، وهم حربٌ لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهُمْ في ذلك".

وفي السُنة النبوية وصايا كريمةٌ تحض على الوفاء وتأمر به، وتعيب من اتصف بضده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [..ولا دينَ لمنْ لا عهدَ له]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إن خيار عباد الله الموفون المطيبون]. وعَنِه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ثلاثٌ لَيْسَ لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فِيهِنَّ رُخْصَةٌ بِرُّ الوَالِدَيِنِ مُسْلِماً كان أوْ كافِراً، والوَفاءُ بالعَهْدِ لِمُسْلِمٍ كانَ أوْ كافِرٍ، وأداءُ الأَمانَةِ إلى مُسْلِمٍ كانَ أوْ كافِرٍ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ما نقَض قومٌ العهدَ قط إلا كان القتل بينهم ...]. وعن ابن عبَّاسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُما، أنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جاءت إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قال: [نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ].
ومن وفائه صلى الله عليه وسلم لزوجاته، أنه كان يُكْرم صديقات زوجته خديجة رضي الله عنها بعد موتها، فكان إذا أُتيَ بالشيء يقول: [اذهبوا به إلى فلانةٍ؛ فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانةٍ؛ فإنها كانت تحب خديجة] وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قالت: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: [إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ]، ما هذا الوفاء العجيب؟! يذكرها بعد وفاتها بسنواتٍ، وعائشة رضي الله عنها لم ترها، وهذا أعجب، فقد تغار من ضرَّةٍ معها تقاسمها زوجها، لكنها تغار من ميتةٍ، وذلك يبرز كمّ الوفاء منقطع النظير من سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وما أجمل عبارة: [إنها كانت.. وكانت]، والحذف يفيد العموم والشمول والمعاني الغزيرة الجميلة غير المحصورة، وهذا من وفائه صلى الله عليه وسلم، إنه (خُلُق الوفاء) في أعلى مراتبه.

ومن نماذج حسن الوفاء على زمن الصحابة رضي الله عنهم؛ أنه أتى شابَّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وكان في مجلسه، وهما يقودان رجلاً من البادية فأوقفاه أمامه، قال عمر: من هذا؟ قالا: يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا، قال: أقتلت أباهم؟ قال: نعم قتلته، قال: كيف قتلتَه؟ قال: دخل بجمله في أرضي، فزجرته فلم ينزجر، فرميته بحجرٍ وقع على رأسه فمات، قال عمر: النفس بالنفس، لا بد أن تُقتل كما قتلت أباهما، قال الرجل: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي رفع السماء بلا عمدٍ ‏أن تتركني ليلةً؛ لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأُخبِرُهم ‏بأنك ‏سوف تقتلني ثم أعود إليك، واللهِ ليس لهم عائلٌ إلا الله ثم أنا، قال عمر: مَن يكفلك أن تذهب إلى البادية ثم تعود إليَّ؟ فسكت الناس جميعاً؛ لأنهم لا يعرفون اسمه ولا داره ‏ولا قبيلته، فكيف يكفلونه؟ وعمر مُتأثرٌ؛ لأنه ‏وقع في حيرةٍ، هل يُسرع بقتل الرجل فيموت أطفاله جوعاً هناك؟ أو يتركه فيذهب بلا كفالةٍ فيضيع دم المقتول؟ نكَّس عمر ‏رأسه والتفت إلى الشابَّين وقال: أتعفوان عنه؟ قالا: لا، مَن قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين، قال عمر: مَن يكفل هذا أيها الناس؟ فقام أبو ذرٍ الغفاريّ وقال: يا أمير المؤمنين، أنا أكفله، قال عمر: هو قَتْل، قال: ولو كان قاتلاً! قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه، قال: كيف تكفله؟ قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين فعلمت أنه لا يكذب، وسَيَفِي بعهده إن شاء الله، قال عمر: يا أبا ذر، أتظن أنه لو تأخَّر بعد ثلاثٍ أني تاركك؟ قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين. فذهب الرجل وأعطاه عمر ثلاث ليالٍ يُهيِّئ فيها نفسه ويُودع ‏أطفاله وأهله وينظر في أمرهم بعده، ثم يأتي ليُقْتَص منه؛ لأنه قتل. لم ينسَ عمر الموعد، وبعد ثلاث ليالٍ، وفي العصر ‏نادى ‏منادٍ في المدينة: الصلاة جامعةٌ، فجاء الشابَّان، واجتمع الناس، وأتى أبو ‏ذرٍ ‏وجلس أمام عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: ما أدري يا أمير المؤمنين! وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس، وكأنها تمرُّ سريعةً على غير عادتها. وقبل الغروب بلحظاتٍ، إذا بالرجل يأتي، فكبَّر عمر وكبَّر المسلمون‏ معه، فقال عمر: أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك ما شعرنا بك ‏وما عرفنا مكانك. قال: يا أمير المؤمنين، والله ما عليَّ منك، ولكن عليَّ مِنَ الذي يعلم السرَّ وأخفى، ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ‏ الطير لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل، وخشيت أن يُقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس، فسأل عمر بن الخطاب أبا ذر: لماذا ضمنته؟ فقال أبو ذر: خشيت أن يُقال: لقد ذهب الخير من الناس، فوقف عمر وقال للشابَّين: ماذا تَرَيَان؟ قالا وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه ووفائه بالعهد، وقالا: نخشى أن يُقال: لقد ذهب العفو من الناس، قال عمر: الله أكبر، ودموعه تسيل على لحيته.

يقول الشاعر:
إن الوفاءَ على الكريمِ فريضةٌ
واللـؤمُ مقـرونٌ بذي الإخـلافِ
وترى الكريمَ لمن يُعاشرُ مُنصفاً
وترى اللئيمَ مُجانبَ الإنصافِ

أحبتي .. ليعلم كلٌ منا أنه سيُسأل عن وفائه يوم القيامة؛ فقد قال عز وجل: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ فماذا يكون جوابنا إذا سُئلنا عن وعودنا وعهودنا وعقودنا التي أمرنا الله تعالى بالوفاء بها وأدائها؟ قال سبحانه: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾، وقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، ماذا يكون جوابنا إذا أخلفنا وعودَنا وضيعنا عهودَنا وخُنَّا أماناتِنا؟
فلنحرص أحبتي على الوفاء بعهودِنا:
تجاه المولى سبحانه وتعالى؛ فنشهد له بالوحدانية، ونُسَلِّم بألوهيته وحده لا شريك له، ونؤدي فرائض ديننا، ونُجْبِر نقصها بالنوافل، ونكثر من ذكر الله واستغفاره.
يقول الشاعر:
مـا كان لِله مِنْ وُدٍّ ومِـنْ صِلَـةٍ
يَظـلُّ في زَحْـمَةِ الأَيَّــامِ مَوْصُـولا
يظلُّ ريّانَ مِنْ صِدقِ الوَفـاءِ بِـه
يُغْني الحياةَ هُدىً قد كان مأمولا
ما أَجْملَ العُمـرَ في بِرّ الوفاءِ
وما أَحْلى أَمانيـه تقـديراً وتفعيـلا
وما يكـون لِغَيْـر الله لا عَجَـبٌ
إِذا تَـغَـيَّـرَ تـقـطـيـعــاً وتـبْـديـــلا
ولنحرص على الوفاء بعهودِنا تجاه الناس؛ فنسارع برد المظالم وإرجاع حقوق الآخرين التي في ذممنا وأعناقنا لهم، سواءً كانت حقوقاً ماديةً أو أدبيةً، ثم نُتْبِع ذلك بالاعتراف بالجميل وتقدير الآخرين، والأَوْلى بذلك الوالدان والزوج والأبناء ثم الإخوة والأهل والأقارب وذوي الأرحام ثم الجيران ثم غيرهم من الناس مسلمين وغير مسلمين.
ولنحرص على الوفاء بعهودِنا تجاه أنفسنا؛ فنوفي نذورَنا ونلتزم بوعودِنا وعهودِنا وعقودِنا، فلا نجور ولا نخون ولا نغدر ولا نتجاوز ولا نتحايل ولا نماطل ولا نطفف.

نحن جميعاً في حاجةٍ ماسةٍ إلى هذا الخُلُق العظيم في حياتنا، في حاجةٍ إلى (خُلُق الوفاء) الذي يجمع بين مجامع الخير كلها: التواضع والأمانة والشجاعة والعدل والإنصاف وحفظ الحقوق ورد الجميل وتحمل المسئولية والإيثار والنبل، والذي ينظم حياتنا كلها؛ فيجعلها صافيةً هانئةً مستقرةً خاليةً من المشاكل والضغائن والعداوات والمظالم.
اللهم اجعلنا من الأوفياء الأمناء المخلصين، وباعد بيننا وبين الغدر والخداع والخيانة ونقض العهود.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://goo.gl/V289Zn