الجمعة، 31 أغسطس 2018

عن الصدق والصادقين


الجمعة 31 أغسطس 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٠
(عن الصدق والصادقين)

تقول الأسطورة الروسية أن الصدق والكذب التقيا من غير ميعادٍ، فنادى الكذب على الصدق قائلاً: "طقس اليوم جميل". نظر الصدق حوله، نظر إلى السماء، فوجد الطقس جميلاً حقاً.
قضيا معاً بعض الوقت، حتى وصلا إلى بحيرة ماءٍ، أنزل الكذب يده في الماء ثم نظر للصدق وقال: "الماء دافئٌ وجيدٌ، فإذا أردت يمكننا أن نسبح معاً؟".
ويا للغرابة؛ كان الكذب محقاً هذه المرة أيضاً، فقد وضع الصدق يده في الماء فوجده دافئاً وجيداً.
قاما بالسباحة بعض الوقت، وفجأةً خرج الكذب من الماء، ثم ارتدى ثياب الصدق وولى هارباً واختفى.
خرج الصدق من الماء غاضباً عارياً، وبدأ يركض في جميع الاتجاهات بحثاً عن الكذب لاسترداد ملابسه. الناس الذين رأوا الصدق عارياً أداروا نظرهم من الخجل والعار. أما الصدق المسكين، فمن شدة خجله من نظرات الناس إليه عاد إلى البحيرة واختفى هناك إلى الأبد.
ومنذ ذلك الحين يتجول الكذب في العالم كله لابساً ثياب الصدق، محققاً كل رغبات الناس، والناس لا يريدون بأية حالٍ أن يروا الصدق عارياً.
حقاً أصبح الكذب يتجول في كل مكان بثباتٍ كما لو كان صدقاً!

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه الأسطورة بقول الشاعر:
الكذبُ راقَكَ أنه متجملٌ
والصدقُ ساءكَ أنه عريانُ
من ساءَ من مرضٍ عضالٍ طبعهُ
يستقبحُ الأيامَ وهي حسانُ
وببيت شعرٍ آخر يقول:
والصدقُ يبرزُ في المحافلِ عارياً
والكذبُ لا يكفيهِ ألفُ ستارِ

أثارت الأسطورة في ذهني بعض أسئلةٍ منها: هل اختفى الصدق حقيقةً؟ هل يتشح الكذب بثياب الصدق فعلاً؟ هل لا يريد الناس أن يروا الصدق عارياً؟ وهل يحبون رؤية الكذب الذي يُقدَم إليهم مرتدياً ثياب الصدق؟

(عن الصدق والصادقين) تتفاوت الآراء وتتابين؛ إذا اعتقد البعض أن الصدق قد اختفى، اختلفتُ في الرأي معهم؛ فلا أعتقد أبداً أن الصدق قد اختفى، أو أنه يمكن أن يختفي إلى الأبد. وإذا ظن البعض أنه لا وجود في عالم اليوم للصادقين فأنا لا أشاطرهم الرأي؛ الصادقون كانوا وسيظلوا موجودين، وإن قَلَّ عددهم وخفتت أصواتهم، وخفَّ تأثيرهم.
أما الناس فإن منهم من يميلون مع الهوى ويصدقون الكاذبين؛ فيرتاحون إلى من يُزين لهم أعمالهم، تماماً كما يفعل الشيطان مع الإنسان ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾؛ فيصدقون من يتوهمون أنه يحقق لهم مصالحهم حتى ولو كان كاذباً؛ وما قصة خروج آدم عليه السلام من الجنة إلا مثالٌ على ذلك؛ حينما كذب الشيطان على آدم عليه السلام وقال له: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ﴾. المشكلة ليست في أن يكذب الشيطان، المشكلة في أن هناك من يصدق كذبه ويظنه الصدق؛ فمن الناس من يُخدَع بمن يُحسِن الكلام ويُـشهد الله على ما في قلبه فيصدقونه وهو كاذب؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾.
ومن الناس من أدمن الكذب، هؤلاء لأنهم عودوا أنفسهم على الكذب في الدنيا تراهم يحلفون لله يوم القيامة، وهم وقوفٌ بين يديه عزّ وجلّ، يحلفون له سبحانه بالكذب كما كانوا يحلفون للناس! يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾.

و(عن الصدق والصادقين) يقول أهل العلم إن الصدق من صفات الله عز وجل؛ قال سبحانه: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ﴾، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾. والصدق من صفات الأنبياء والرسل: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾؛ فهذا إبراهيم عليه السلام دعا الله سبحانه وتعالى وقال: ﴿.. اجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾، فاستجاب له ربه ووهبه الصدق ووصفه به: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾، ووصف إدريس عليه السلام بذات الصفة: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ..﴾. ووهب سبحانه لكلٍ من إبراهيم وإِسْحَاق وَيَعْقُوب عليهم السلام لسان صدقٍ عليا: ﴿.. وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾. ووصف عزّ وجلّ إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾، أما يوسف عليه السلام فسُمي صديقاً من كثرة وشدة صدقه: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ..﴾.
وأمر الله نبينا الكريم أن يسأله الصدق في المُدخَل والمُخرَج، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم معروفاً بالصدق في قومه، قبل البعثة، فلُقِّب بالصّادق الأمين، حتى إنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما صَعِدَ عَلَى جبل الصَّفَا، للجهر بالدعوة قال لبطون قريشٍ: [أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟]، قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقاً، وفي روايةٍ: ما جربنا عليك كذباً. وبعد البعثة المباركة جاء الوحي ليثبت صفة الصدق فيه عليه الصلاة والسلام؛ قال عزّ وجلّ: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ..﴾.
ولقد أمرنا الله تعالى بالصدق فقال سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، وحثنا على الصدق في الشهادة ولو على أنفسنا أو الوالدين أو الأقربين؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ..﴾، وقال: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾، ونهانا عن الكذب؛ فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، وكتب عدم الفلاح على الكاذبين؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: [عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقاً. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً].
ولما للصدق من رابطةٍ قويةٍ بالإيمان، فقد جوّز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتصف المؤمن بما لا يُحمد من الصفات إلا أن يكون كاذباً؛ فقد سأل الصحابة فقالوا: يا رسول الله أيكون المؤمن جباناً؟ قال: [نعم]، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: [نعم]، قيل له: أيكون المؤمن كذَّاباً؟ قال: [لا].

يقول الشاعر (عن الصدق والصادقين):
الصدقُ أفضلُ شيءٍ أنت فاعلهُ
لا شيءَ كالصدقِ لا فخرٌ ولا حسبُ
ويقول آخر:
والمرءُ ليس بصادقٍ في قولهِ
حتى يؤيدَ قولهُ بفعالهِ
وهذا ثالثٌ يقول:
الصدقُ من كرمِ الطباعِ وطالما
جاءَ الكذوبُ بخجلةٍ ووجومِ
ويقول رابعٌ:
ألا إن الصدوقَ ينالُ خيراً
ويكتسبُ الفضائلَ والسيادة

أحبتي .. أتأمل قول الله سبحانه وتعالى: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ وأقول في نفسي: "إذا كان أهل الصدق سيُسألون، فيكف يكون السؤال والحساب لأهل الكذب؟!".
تذكروا أحبتي هذه الحكمة ولا تنسوها أبداً: "الصدق في أقوالِنا أقوى لنا، والكذب في أفعالِنا أفعى لنا".
عليكم بالصدق، التزموه قولاً وعملاً، وربوا أبناءكم عليه، فالخير، كل الخير، في اتباعه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾، احذروا الكذب وحَذِّروا أبناءكم منه؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُون﴾. علموهم أن الصدق من صفات المؤمنين؛ قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾، وقال سبحانه:﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾، وأخبروهم أن في الصدق سكينة الروح وراحة النفس وطمأنينة القلب؛ قال عليه الصلاة والسلام: [… فإن الصدق طمأنينةٌ، والكذب ريبةٌ].
واسعوْا واجعلوهم يسعوْن معكم للفوز بثمرة الصدق: الجنة ومرضاة الله، وذلك هو الفوز العظيم؛ يقول تعالى: ﴿هَذَا يَوْم يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

اللهم اجعلنا مع الصادقين، وحبب إلينا الصدق حتى ننال مرتبة الصديقين فنحظى برضاك ورضوانك ونكون من الفائزين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/KhHzAy