الجمعة، 30 نوفمبر 2018

عماد الدين


الجمعة 30 نوفمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٦٣
(عماد الدين)

بالأمس عدتُ من العمل إلى بيتي متعباً منهكاً؛ فقالت لي زوجتي: "هلَّا بدلت ثيابك وارتحت قليلاً ريثما ينضج الطعام؟". ذهبتُ إلى غرفة نومي وبدلتُ ثيابي وتمددتُ على سريري وأغمضتُ عينيّ، لم أفتحهما إلا على صوت المؤذن يؤذن لصلاة العصر، فخرجتُ من الغرفة متوجهاً إلى المطبخ فوجدتُ زوجتي منهمكةً في إعداد الطعام، سألتها: "ماذا أعددتِ لنا من طعامٍ لنا اليوم يا حبيبة القلب؟"، لكنها لم ترد! فعاودتُ السؤال مرةً أخرى فلم ترد، وكررتُ السؤال للمرة الثالثة فتفاجأت بأنها لم ترد كذلك! كانت دهشتي أكبر من غضبي؛ إذ أنها المرة الأولى منذ عشرين عاماً، هي مدة حياتي الزوجية، أخاطب فيها زوجتي ولا تعيرني أي اهتمام! التفتُ فإذا بابني يدخل المطبخ، فطلبتُ منه إحضار زجاجة ماءٍ من الثلاجة، فلم يرد عليّ هو الآخر؛ فازداد تعجبي منه، وهو الشاب الدمث الذي يُضرب به المثل في الأدب وحُسن الخلق! هممتُ بالخروج من المطبخ فإذا بزوجتي تقول لابني: "اذهب وأيقظ أباك لتناول الغداء"، هنا بلغ مني الذهول مبلغه! اتجه ابني بالفعل إلى غرفتي ليوقظني! صرخت فيه بصوتٍ عالٍ: "أنا هنا"، فلم يلتفت إليّ ومضى مسرعاً وتركني غارقاً في ذهولي. بعد دقيقةٍ أو يزيد عاد إلى المطبخ وقد ارتسم الرعب على وجهه، فسألته أمه: "هل أيقظتَ أباك؟"، فتلعثم قليلاً، ثم قال: "حاولتُ إيقاظه مراراً وتكراراً لكنه لم يُجب!"، فازدادت دهشتي، ماذا يقول هذا الولد؟! وإذا بزوجتي تهرول مسرعةً إلى غرفة نومي وخلفها الأولاد مذعورين، فتبعتُهم لأجدها تحاول إيقاظ شخصٍ آخر في سريري، يشبهني تماماً، ويلبس نفس ثيابي! وما إن يَئِسَتْ من إيقاظه حتى بدأت عيناها تغرورقان بالدموع، وبدأ أولادي في البكاء والنحيب ومناداة ذلك الرجل المُلقىٰ على فراشي والتعلق بثيابه أملاً في أن يرد عليهم. وأنا لا أصدق ما يجري حولي! يا إلهي ما الذي يحدث؟! مَن هذا الرجل الذي هو نسخةٌ مني؟! لماذا لا يسمعني أحد؟! لماذا لا يراني أحد؟! خرج ابني مسرعاً ليعود بعد قليلٍ ومعه أبي وأمي وإخوتي، وأُجهش الجميع بالبكاء، وأمي تعانق ذلك الرجل النائم مكاني وتبكي بكاءً حاراً، فذهبتُ إليها محاولاً لمسها والحديث معها وإفهامها أني مازلتُ بجوارها إلا أنه حِيل بيني وبين ما أردت. التفتُ إلى أبي وإلى إخوتي محاولاً إسماع صوتي لهم، ولكن دون جدوى!
ذهب إخوتي للإعداد للجنازة، وخرَّ أبي على الكرسي يبكي، وأنا في ذهولٍ تامٍ وإحباطٍ شديدٍ من هول ذلك الكابوس المزعج الذي أحاول الاستيقاظ منه.
جاء المغسل وبدأ في تغسيل ذلك الجسد الملقى على فراشي بمساعدة أبنائي، ولفه بالكفن، ووضعه في التابوت. وتوافد الأصدقاء والأحباب إلى البيت والكل يعانق أبي المنهار ويُعَزُّون إخوتي وأبنائي ويدعون لي بالرحمة ولهم بالصبر والسلوان. ثم حملوا التابوت إلى المسجد ليُصَلُّوا عليه، وخلا المنزل إلا من النساء. فخرجتُ مسرعاً خلف الجنازة المتجهة إلى المسجد حيث اجتمع الجيران والأصدقاء واصطفوا خلف الإمام ليصلوا عليّ.
وسط هذا الزحام الشديد وجدتني أخترق الصفوف بيسرٍ وسهولةٍ دون أن ألمس أحداً. كبَّر الإمام التكبيرة الأولى وأنا أصرخ فيهم: "يا أهلي يا جيراني على من تصلون؟! أنا معكم ولكن لا تشعرون! أناديكم ولكن لا تسمعون! بين أيديكم ولكن لا تبصرون!". فلما استيأستُ منهم تركتُهم يُصَلون وتوجهتُ إلى التابوت وكشفتُ الغطاء أنظر إلى ذلك النائم فيه، وما إن كشفتُ عن وجهه حتى فتح عينيه ونظر إليَّ وقال: "الآن انتهى دوري، أنا إلى الفناء أما أنت فإلى البقاء!"، ثم قال: "لازمتُك ما يزيد عن أربعين عاماً واليوم مآلي إلى التراب، ومآلك إلى الحساب!".
لم أشعر بنفسي إلا وأنا ملقىً في التابوت فاقداً السيطرة على كل شيء؛ أطرافي لم تعد تستجيب لي، لم أعد أرى شيئاً، لم أعد أقوى على الحراك، أحاول الكلام فلا أستطيع. فقط أسمع تكبيرات الإمام، ثم غمغمات المصلين، وبعدها بفترةٍ سمعتُ دعوات المشيعين، ثم صوت التراب ينهال عليّ، ثم قرع النعال مبتعدة. أدركت حينها أنها النهاية، ولربما البداية؛ بداية النهاية، هكذا بكل بساطةٍ ودون مقدمات! ما زال لدي الكثير من المواعيد، ما زال لدي الكثير من الأشغال، ما زال لدي الكثير من الديون التي لم أسددها ولم أوصِ بسدادها. أريد أن أوصي بفعل خيرٍ لطالما أجَّلْتُه، أريد أن أَنْهَىٰ عن منكرٍ لطالما رأيتُه. شغلتني الدنيا فكنتُ لا أواظب على الصلاة مواظبتي على مواعيد عملي التي لم أتأخر عنها يوماً واحداً. كنتُ أسمع المؤذن يردد في صلاة الفجر "الصلاة خيرٌ من النوم"، فيُزين لي الشيطان عكس ذلك ويقول لي: "أنت متعبٌ، وفي انتظارك يوم عملٍ طويلٍ، نم الآن ثم صلِ عندما تستيقظ، واللهُ رءوفٌ رحيم"، وكنت أسمع أذان الظهر فلا أذهب إلى المسجد ويقول لي الشيطان: "العمل من الإيمان، وأنت في عملك الآن تُثاب وتُؤْجر، وما يزال أمامك متسعٌ لصلاة الظهر، "، وكنت أسمع أذان العصر فيقول لي الشيطان: "جسمك يحتاج إلى راحةٍ، بعد يوم عملٍ مرهقٍ؛ ماذا لو ارتحتَ قليلاً ثم تصلي قبل صلاة المغرب؟"، وعندما أسمع أذان المغرب أو أذان العشاء كان شيطاني يقول لي: "هذا هو الوقت الوحيد المتاح لك للخروج ومجالسة الأصدقاء أو مشاهدة المسلسل أو برنامجك المفضل في التلفاز، يمكنك الصلاة قبل أن تنام"، مرةً تلو مرةٍ، ويوماً بعد يومٍ وجدت نفسي لا أواظب إلا على صلاة الجمعة. أما عن قيام الليل فهذا أمرٌ لم أعد أفكر فيه منذ همس شيطاني في أذني: "هذا ليس فرضاً، إنه مجرد سُنَّة"! تذكرتُ كل هذا حين أدركتُ أن وقت الحساب قد أزف. وشيئاً فشيئاً بدأتُ أختنق، ثم سمعتُ أصوات أقدامٍ تتجه إليَّ. يا ويلتى سيبدأ الحساب. لا، لا، لا، أنا لستُ مستعداً له! هذا ما كان يُقال لي في الدنيا؛ لابد أنهما الملاكان في طريقهما إليَّ للسؤال. أحسست وكأنني أصرخ في قبري: "ربِ ارجعونِ، ربِ ارجعونِ، ربِ ارجعونِ لعلي أعمل صالحاً فيما تركت!". فلا أسمع صدىً لصراخي سوى: "كلا، كلا، كلا".
لا زلتُ على هذه الحال حتى تدفق إلى مسامعي صوتٌ رقيقٌ يهمس في أذني: "أبي، أبي، الغداء يا أبي". ففتحتُ عينيَّ لأجد ابنتي وفلذة كبدي مبتسمةً كعادتها في وجهي وهي تقول: "هيا يا أبي؛ قبل أن يبرد الطعام"، احتضنتُها بلهفةٍ وقبَّلتُ جبينها ثم تركتُها تذهب، وجلستُ في فراشي برهةً وأنا أشعر بإرهاقٍ شديدٍ وأطرافي ترتعد وجسدي يتصبب عرقاً، لأخاطب نفسي قائلاً: "ها يا نفسُ قد عدتِ؛ فأريني أي عملٍ صالحٍ ستعملين قبل أن يأتي يومٌ تَسألين فيه الرجعى فلا يُستجاب لكِ".
كان ذلك حُلماً، وكم من حُلمٍ غير حياة صاحبه؟

أما هذه فقصةٌ حقيقيةٌ حدثت بالفعل نشرها أحدهم على موقعٍ من مواقع التواصل الاجتماعي، كتب يقول:
كنتُ أسير بسيارتي في أحد الطرق السريعة، رأيتُ عن بُعدٍ سيارةً منقلبةً وتجمعاً من عددٍ كبيرٍ من الناس، اقتربتُ منهم، فإذا بشابٍ عمره حوالي 25 سنةً تقريباً أنزلوه من السيارة. رأيتُه ملطخاً بالدماء وأجزاء من جسمه تقطعت، كان يصرخ ويرتجف بقوةٍ وينظر لشخصٍ أظن أنه أخوه ويقول له: "لا أريد أن أموت .. أخاف من دخول النار .. محمد .. محمد، أنا لا أصلي .. أنا خائف .. أتمنى أن أُشل وأُصبح مُعاقاً .. لكن لا أريد أن أموت .. سأصلي .. واللهِ سأصلي .. لا أريد أن أموت". تجمّع الناس، وكنتُ واقفاً معهم أراقب ما يحدث أمام عيني وأنا خائفٌ .. موقفٌ رهيبٌ ومرعب. نزف الشاب حتى توقف الدم عن النزيف فتحول لون جسمه إلى الأزرق، وصوت صراخه يتلاشى. مَن مع الشاب يبكي ويقول له: "تشهد .. تشهد" فلا يستطيع النطق؛ فلسانه صار ثقيلاً. اختفى صوته، وانتفض ما بقي من جسده بشدةٍ، ثم شهق ثم توقف عن الحركة تماماً وأصبح جثةً هامدةً. لاحول ولا قوة إلاّ بالله. هذه أول مرةٍ في حياتي أرى إنساناً يموت أمام عيني .. حتى الشهادة لم يستطع نطقها! لم أستطع النوم؛ بكيتُ مثل الطفل وأنا أتذكر كلامه قبل موته: "لا أريد أن أموت .. سأصلي .. واللهِ سأصلي .. لا أريد أن أموت".

أحبتي في الله .. الصلاة عمود الإسلام و(عماد الدين)، وهي أعظم الواجبات والفرائض بعد الشهادتين، وقد دلَّ على ذلك آياتٌ كثيراتٌ منها: قوله سبحانه وتعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ . أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ﴾، وغير ذلك من آيات.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [بَينَ العَبدِ وَبَينَ الكُفرِ تَركُ الصَّلاةِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [العَهدُ الذِي بَينَنَا وَبَينَهُمُ الصَّلاةُ، فَمَن تَرَكَهَا فَقَد كَفَرَ]، ورُويَ عنه صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلاةَ يَوْماً فَقَالَ: [مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلا بُرْهَانٌ وَلا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ].
وتوعد المولى سبحانه وتعالى تاركي الصلاة بقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾، وقال عمن أضاعها: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوفَ يَلقَونَ غَيًّا﴾، وقال عن المجرمين: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِيْ سَقَرَ، قَالُوْا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ﴾. إنها الصلاة (عماد الدين) من تركها فهو من أصحاب النار والعياذ بالله؛ فترك الصلاة، كما يقول أهل العلم، كُفْرٌ مُخرِجٌ من المِلة، إلا من تركها ناسياً أو نائماً.

أحبتي .. لنسارع بالطاعات والخيرات وبالأعمال الصالحات، وعلى رأسها الصلاة، من قبل أن يأتي الموت بغتةً ونحن لا نشعر؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿هَل يَنظُرونَ إِلَّا السّاعَةَ أَن تَأتِيَهُم بَغتَةً وَهُم لا يَشعُرونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. الموت يأتي فجأة؛ فلنحافظ على الصلاة ولا نُسَّوِف ولا نُؤجل ولا نقول غداً، فلا يدري أحدنا متى يحين أجله.
ليراجع كلٌ منا صلاته، هل يصليها على وقتها؟ هل يصليها في جماعة؟ هل يصليها في المسجد؟ هل يصليها بخشوع؟ هل يقضي الفوائت؟ هل يصلي الفروض والسنن الرواتب؟ هل يصلي الضحى؟ هل يصلي التهجد وقيام الليل؟ هل؟ وهل؟ وهل؟ الإجابة عن هذه الأسئلة يراها كل مسلمٍ في كتابٍ يقرأه يوم الحساب؛ يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ويقول: ﴿اقرَأ كِتابَكَ كَفى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ حَسيبًا﴾ فلنحسن كتابة ما سوف نقرأه أمام الله عزَّ وجلَّ يوم يقوم الأشهاد، وكما قيل: "يوم القيامة تتطاير الصحف لتأخذ كتابك بيمينك أو بشمالك؛ هذا الكتاب هو الوحيد الذي لا يشاركك أحدٌ في تأليفه وصياغته؛ كتابٌ يجمع لحظاتِ ولقطاتِ ومشاهدَ حياتِك التي ربما نسيتَها؛ فأحسِن صياغة محتواه ليومٍ لن تستطيع فيه إضافة جديدٍ ولا تبديل أو محو قديمٍ؛ يومٍ لا ينفع فيه ندمٌ فقد مضى وقت العمل وحان وقت الحساب".

اللهم يَسِّر لنا المحافظة على الصلاة التي هي (عماد الدين)، واجعلنا وذرياتنا ممن يقيمونها حق إقامتها، وممن يخشعون فيها، ربنا وتقبل دعاءنا، إنك أنت السميع العليم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/HEszN9