الجمعة، 30 يونيو 2023

يأتوك رجالاً

 خاطرة الجمعة /402

الجمعة 30 يونيو 2023م

(يأتوك رجالاً)

 

بمناسبة موسم الحج، وهذه الأيام المُباركة من شهر ذي الحجة، اخترتُ لكم قصة رحلة حجٍ مؤثرة، بدأت أحداثها في غرب «إفريقيا».

يقول راوي القصة: أحكي لكم عن أحد الحجاج الذين قاموا برحلة الحج مشياً على الأقدام، من غرب «إفريقيا» إلى الكعبة المُشرفة في «مكة المُكرمة»؛ إنه المرحوم بإذن الله الشيخ الحاجّ/ عُثمان دابو، من جمهورية «جامبيا» في أقصى الغرب الإفريقي، كان قد تجاوز الثمانين من عمره عندما حدَّثنا عن رحلته الطويلة قبل خمسين عاماً إلى البيت العتيق، ماشياً على قدميه مع أربعةٍ من صحبه من «بانجول» عاصمة بلدهم إلى «مكة المُكرمة»، قاطعين قارة «إفريقيا» من غربها إلى شرقها، لم يركبوا فيها إلا فتراتٍ يسيرةً مُتقطعةً على بعض الدّواب، إلى أنْ وصلوا إلى «البحر الأحمر»، حيث ركبوا السفينة إلى ميناء «جدة». كانت رحلةً مليئةً بالعجائب والمواقف الغريبة التي لو دُوّنت لكانت من أكثر كُتب الرحلات إثارةً. استمرَّت الرحلة أكثر من سنتين كاملتين، ينزل الحاج/ عُثمان وصحبه أحياناً في بعض المُدن للراحة وللتكسب والتَّزود لنفقات الرِّحلة، ثم يواصلون المسير. أصابَهم في طريقهم من المشقَة والضيق والكَرب ما الله به عليم؛ فكم من ليلةٍ باتوا فيها على الجوع حتَّى كادوا يهلكون؟! وكم من ليلةٍ طاردتهم السِّباعُ، وفارقهم لذيذ النوم؟ وكم من ليلةٍ أحاط بهم الخوف من كلِّ مكانٍ؛ فقطّاعُ الطّرق يَعرِضون للمسافرين في كلِّ وادٍ.

يقول الراوي: سألتُ الحاج/ عُثمان: "أليس حجُّ البيت الحرام فرضٌ على المُستطيع، وأنتم في ذلك الوقت غير مُستطيعين؟"، قال: "بلى، ولكننا تذكرنا سيدنا إبراهيم الخليل، عليه السلام، عندما ذهب بأهله إلى وادٍ غير ذي زرعٍ عند بيت الله المُحرَّم، فقال أحدنا: نحن الآن شبابٌ أَقوياء أصحاء؛ فما عُذرنا عند الله تعالى إنْ نحن قصَّرنا في المسير إلى بيته المحرَّم، خاصةً أننا نظن أنّ الأيام لن تُزيدنا إلا ضعفاً، فلماذا التأخير؟"، عندها خرجنا نحن الصحاب من بلدنا، ليس معنا من القُوت إلا ما يكفينا لأسبوعٍ واحدٍ فقط".

يُكمل الحاج/ عُثمان سرد ذكرياته فيقول: لُدغتُ ذات ليلةٍ في أثناء السَّفر، فأصابتني حمّى شديدة، وشممتُ رائحة الموت تسري في عُروقي، فكان أصحابي يَذهبون للعمل، وأمكثُ تحت ظلِّ شجرةٍ إلى أنْ يأتوا في آخر النَّهار؛ فكان الشيطانُ يوسوس في صدري: "أما كان الأولى لكَ أنْ تبقى في وطنك؟ لماذا تُكلّف نفسك ما لا تُطيق؟ ألم يَفرض اللهُ الحجَّ على المُستطيع فقط؟"، فثقلت نفسي وكِدتُ أضعف، فلمّا جاء أصحابي؛ نظرَ أحدهم إلى وجهي وسألني عن حالي، فالتفتُ عنهُ ومسحتُ دمعةً غلبتني، فكأنه أحسَّ بما بي؛ فقال: "قُم فتوضأ وصلِّ، ولن تجد إلا خيراً -بإذن الله- وذكرني بالآية الكريمة: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فانشرح صدري، وأذهب اللهُ عنّي الحُزن، ولله الحمد".

يقول راوي القصة: كان الشَّوقُ للوصول إلى الحرمين الشَّريفين يَحْدُوهم في كلِّ أحوالهم، ويُخفف عنهم آلام السفر ومشاقّ الطريق ومخاطِرَهُ، مات واحدٌ منهم في الطريق، ثم مات الثاني، أما الثالث فقد مات في عَرض البحر. واللطيفُ في أمر الحاج/ عُثمان أنّه كتب وصيةً لصاحبيه قال لهما فيها: "إذا وصلتما إلى المسجد الحرام، فأخبرا الله تعالى عن شوقي للقائه، واسألاه أنْ يجمعني ووالدتي في الجنَّة مع النبي صلى الله عليه وسلم".

يصف الحاج/ عُثمان ما حدث بعد وفاة ثالث أصحابه فيقول: "لمّا مات صاحبنا الثالث؛ نزَل بي همٌّ شديدٌ وغمٌّ عظيمٌ، وكان ذلك أشدّ ما لاقيتُ في رحلتي؛ فقد كان أكثرنا صبراً وقوّةً، وخشيتُ أنْ أموت قَبل أنْ أنعمَ بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنتُ أحسبُ الأيام والسّاعات على أحرِّ من الجمر؛ فلمّا وصلنا إلى «جدة» مرضتُ مَرضاً شديداً، وخشيتُ أنْ أموتَ قَبل أنْ أصل إلى «مكة المكرمة»، فأوصيتُ صاحبي إذا متُّ أنْ يُكفنني في إحرامي، ويُقرّبني قدْر طاقته إلى «مكة»، عسى الله أنْ يُضاعف لي الأجر، ويَقبلني في الصَّالحين". واستطرد قائلاً: "مكثنا في «جدّة» أياماً، ثم واصلنا طريقنا إلى «مكة»، كانت أنفاسي تتسارع والبِشرُ يملأ وجهي، والشّوقُ يَهُزّني ويَشُدّني، إلى أنْ وصلنا إلى المسجد الحرام". سكتَ الحاج/ عُثمان قليلاً، وأخذ يُكفكِفُ عَبَراتِهِ، وأَقسمَ بالله تعالى أنّه لم يرَ لذةً في حياته كتلك اللذّة التي غمرت قلبَهُ لما رأى الكعبة المشرَّفة، ووصف تلك اللحظة؛ فقال: "لما رأيتُ الكعبةَ سجدتُ لله شُكراً، وأخذتُ أبكي من شدّة الرَّهبة والهيبة؛ كما يَبكي الأطفالُ، فما أَشرَفَهُ من بيتٍ وأعظمه من مكانٍ، ثمّ تذكَّرتُ أصحابي الذين لم يَتيسر لهمُ الوصولَ إلى المسجد الحرام، فحمدتُ الله تعالى على نعمتهِ وفضلهِ عليَّ، ثم سألتُه ـ سبحانه ـ أنْ يَكتب خُطواتهم في موازين حسناتهم، وألا يَحرمهم الأجر، وأنْ يَجمعنا بهم في مقعد صِدْقٍ عند مَليكٍ مُقتدر".

 

أحبتي في الله.. إنهم رجالٌ تنطبق عليهم الآية الكريمة: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، أسألكم الدعاء لهم، ولأمثالهم، بالمغفرة والرحمة. كانوا فقراء بمقياس المال، أغنياء بمقياس الصدق مع النفس والإخلاص لله سبحانه وتعالى، بل ربما كانوا أكثر من حج البيت الحرام فقراً وأشدهم حاجةً.

فهل يا تُرى كتب التاريخ عن أغنى الحجاج وأكثرهم مالاً؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وقلتُ: "إن الفقراء (يأتون رجالاً) كما أشارت لهم الآية الكريمة: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾، فكيف تكون رحلة أغنى حاجٍ في التاريخ؟ هل أتى راكباً أفخر طائرة؟ أم أغلى سيارة؟ أم أفخم باخرة؟" لكن -وللعجب- فوجئتُ بأن أغنى من حج بيت الله الحرام كان هو الآخر ممن وصفت الآية الكريمة وسيلة انتقالهم من وطنهم إلى البيت المُشرَّف بعبارة (يأتوك رجالاً)!

إنه الحاج/ مانسا موسى الأول، الذي أجمع المؤرخون على أنه أغنى أغنياء البشر على مدى كُل العصور، وكان مَلِكاً مُسلماً من ملوك «أفريقيا»، قُدرت ثروته بما يُقارب 400 مليار دولار بمعيار وقتنا الحاضر. كان مانسا موسى المولود عام 1280م مَلِكاً لمملكة «مالي» وعاصمتها «نياني» في وسط غرب «أفريقيا» في الفترة (1312م - 1337م)، وكان عالِماً إلى جانب حِنكته السياسية، وكانت مملكة «مالي» في حِقبته مركزاً للازدهار والتجارة ومنارةً للعِلم في القارة الأفريقية، في الوقت الذي كانت «أوروبا» تغط في عصور الظلام. كانت «تمبكتو» في «مالي» حينها عاصمة التجارة الأفريقية ومُلتقى القوافل، اشتُهرت أسواقها بتجارة الذهب؛ حيث بلغت حصة «مالي» منها آنذاك ما يُقارب نصف إجمالي حجم سوق الذهب العالمي، كما كانت لأسواقها الحصة العُظمى أيضاً من تجارة المِلح؛ الذي كان من أغلى السلع في ذلك الوقت. أدى كل هذا لنهضةٍ حضاريةٍ وعِلميةٍ وإنسانيةٍ كُبرى، ومن الشواهد على ذلك إنشاء جامعة «سانكوري» كمركزٍ للعِلم في «أفريقيا» ومسجد «جنجو يريبر» الشهير، وكلاهما قائمٌ إلى وقتنا الحاضر، وقيل إن مانسا موسى كان يبني جامعاً كل جُمعة.

قام مانسا موسى برحلته التاريخية الشهيرة للحج سنة 1324م، في قافلةٍ مَلكيةٍ ضمت ما يُقارب المئة بعيرٍ مُحملةً بما يُقارب المئة وستةً وثلاثين كيلوغراماً من الذهب لكل بعيرٍ، وستين ألفاً من الحرس، واثني عشر ألفاً من العبيد، جميعهم يحملون عِصياً مصنوعةً من الذهب. قطع في رحلته أكثر من أربعة آلاف ميل، واستغرقت قُرابة العام، وعاد مُحملاً بالكُتب التي حولت «تمبكتو» إلى عاصمةٍ للفقه والثقافة والعِلم في غرب «أفريقيا». بدأ رحلته للحج من عاصمته «نياني» مُتجهاً إلى مدينة «ولاتا» في «موريتانيا»، ثم «توات» في «الجزائر»، ومن ثمَّ أكمل زيارته الشهيرة إلى «القاهرة» حيث استقبله فيها السُلطان المملوكي الملك الناصر بحفاوةٍ بالغةٍ، حتى وصل إلى «المدينة المنورة» ثم إلى «مكة المكرمة» حيث أتم فيها المناسك. وأغدق من الخيرات على أهالي المُدن التي زارها بإسهابٍ؛ لدرجة أن سعر الذهب بالعالم انخفض بسبب ما أُنفِقَ في رحلة الحج، ولكثرة ما وزع من ذهبٍ طول الرحلة، حتى أن ذلك أدخل اقتصاد العالم أجمع في حالةٍ من التضخم السريع، وحتى أن مانسا موسى اضُطر في نهاية رحلة الحج تلك للاقتراض لنفاد كمية الذهب التي كانت معه. قال أحد المؤرخين إنه وجد حين زار «القاهرة» بعد زيارة مانسا موسى باثني عشر عاماً أن القاهريين مازالوا يحكون عن تلك الزيارة، لما أغدق على فقرائهم ومُحتاجيهم من ذهبٍ وخيراتٍ وصدقات. توفي الملك مانسا موسى عام 1337م، بعد أن أصبحت العاصمة «تمبكتو» بجنوب غرب «النيجر» مركزاً لتجارة الذهب وتعليم الإسلام.

 

أحبتي.. كانت هاتان القصتان عن رجلين؛ أولهما ربما كان أفقر من حج بيت الله الحرام، والثاني كان يقيناً أغنى الحجاج مُنذ فُرض الحج على المسلمين إلى يومنا هذا. ورغم ذلك فقد انطبق على كلٍ منهما الوصف ذاته: (يأتوك رجالاً)، كما أن كلاً منهما أتى من ﴿فَجٍّ عَمِيقٍ﴾. أما الأول فهو أُسوةٌ حسنةٌ لكل فقيرٍ يحرص على أداء رُكنٍ مُهمٍ من أركان الإسلام؛ ألا وهو الحج، وأما الآخر فلسان حاله يقول لكل غنيٍ: بادِر إلى الحج قبل فوات الأوان، لا تؤجل أداء فريضة الله طالما كنتَ مُستطيعاً، أعد ترتيب أولوياتك واجعل أداء هذه الشعيرة العظيمة أولى الأولويات؛ فلا تعلم هل يُمهلك القدر لأداء هذا الفرض في المُستقبل أم لا؟

ومع وجود الطائرات والسفن والسيارات الحديثة لم تعد لأيٍ منا حُجةٌ لإتمام حِجةٍ مفروضةٍ على كل مُسلمٍ مُستطيعٍ فور توفر شرط الاستطاعة، دون إبطاءٍ أو تأجيلٍ أو تأخير.

اللهم ارحم الحُجاج الذين وردت الإشارة لهم في الآية الكريمة بعبارة (يأتوك رجالاً)؛ فكم تحملوا من صعوباتٍ ومشاق، ويسَّر لنا جميعاً حجاً مبروراً مقبولاً إلى بيتك الحرام.

https://bit.ly/3JG0wQp