الجمعة، 13 سبتمبر 2024

عسى أن تكرهوا شيئاً

 

خاطرة الجمعة /464

الجمعة 13 سبتمبر 2024م

(عسى أن تكرهوا شيئاً)

 

تقدَّم رجلٌ عاطلٌ عن العمل لشغل وظيفة منظف مراحيض في إحدى شركات الكومبيوتر الكبيرة، وأخذ موعداً لمقابلةٍ مع مدير الشركة، وأثناء المقابلة، قال المدير للعاطل عن العمل: "إنك قُبلت في الوظيفة، لكن نحتاج بريدك الإلكتروني لنرسل لك عقد العمل والشروط"، فردّ الرجل بأنه لا يملك بريداً إلكترونياً، وليس لديه جهاز كمبيوتر في البيت، فأجابه المدير: "ليس لديك جهاز كومبيوتر يعني أنك غير موجودٍ، وإن كنتَ غير موجودٍ يعني أنك لا تستطيع العمل عندنا".

خرج الرجل العاطل عن العمل كارهاً ما حصل معه، مستاءً مما وصل إليه بعد أن أُغلقت الأبواب في وجهه. في طريقه للعودة إلى بيته شاهد مُجمعاً سكنياً كبيراً؛ فخطر له أن يشترى بكل ما يملك وهو عشرة دولارات عشرة كيلو غرامات من الفراولة ويبيعها لسكان هذا المُجمع، قام بذلك بالفعل، وبدأ يطرق أبواب الشقق ويعرض على السكان ما معه من فراولة، في نهاية اليوم ربح الرجل عشرين دولاراً. أدرك الرجل أن العملية ليست صعبةً؛ فبدأ في اليوم التالي بتكرار العملية ثلاث مراتٍ، ثم بدأ بالخروج في الصباح الباكر ليشتري أربعة أضعاف كمية الفراولة. واستمر كذلك لفترةٍ، وبدأ دخله يزداد إلى أن استطاع شراء دراجةٍ هوائية. وبعد فترةٍ أخرى وبالعمل الجاد استطاع الرجل شراء شاحنةٍ صغيرةٍ، ثم صار الرجل يملك شركةً لبيع الفراولة، وبعد مرور خمس سنواتٍ، أصبح يملك أكبر شركةٍ للمواد الغذائية.

فكَّر الرجل بالمستقبل؛ فقرر أن يُسجل شركته بأسماء أبنائه، وفي مقابلةٍ مع الموظف المختص قال له الموظف بعد أن أنهى جميع الأوراق المطلوبة: "أحتاج الآن بريدك الإلكتروني لأرسل لك العقد الجديد"، فأجاب الرجل بأنه لا يملك بريداً إلكترونياً، بل إنه لا يملك كومبيوتر"، ردَّ الموظف مُستغرباً: "لقد أسستَ أكبر شركةٍ للمواد الغذائية في خمس سنواتٍ ولا تملك بريداً إلكترونياً، ماذا كان يحدث لو أنك كنتَ تملك بريداً إلكترونياً؟!"، رد الرجل عليه: "لو كنتُ أملك بريداً إلكترونياً قبل خمس سنواتٍ لكنتُ الآن عاملاً أُنظِف المراحيض بإحدى الشركات!!".

 

أحبتي في الله.. يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، يقول المفسرون إن هذه الآية نزلت لحث المسلمين على الجهاد وقتال الكفار والمشركين، إلا أن معناها عامٌ في أمور الدنيا؛ فقد تكرهون شيئاً وهو في حقيقته خيرٌ وفيه نفعٌ لكم، وقد تُحبون شيئاً لما فيه من الراحة أو اللذة العاجلة، وهو شرٌ لكم ووبالٌ عليكم، والله تعالى يعلم علماً تامّاً خير الأمور وشرها، ويعلم ما هو خيرٌ لكم، وأنتم لا تعلمون؛ ففي أحوال الدنيا، يكون الغالب على العبد أنه إذا أحب أمراً من الأمور، ثم قيَّض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه أن في ذلك خيرٌ له، فالأوفق له في ذلك أن يشكر الله؛ لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه، وأعلم بمصلحته منه؛ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي: هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأُخراكم؛ فاللائق بكم أن تستجيبوا له، وتنقادوا لأمره، وتقبلوا أقداره، سواءً سرتكم أو ساءتكم لعلكم ترشدون. وبذلك نرى أن القرآن الكريم لا يُنكر على الناس مشاعرهم الطبيعية، وأحاسيسهم الفطرية من كراهيةٍ لظاهر بعض الأمور، لكنه يُربى نفوسهم على الاستجابة لأوامر الله العليم بالغايات المطلع على العواقب، الخبير بما فيه خيرهم ومصلحتهم. وقيل في معنى الآية: لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرُبَّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولرُبَّ أمرٍ تُحبه فيه عطبك.

(عسى أن تكرهوا شيئاً) هي سُنةٌ من سُنن الله في خلقه، وهي حقيقةٌ مؤكدةٌ تُثبتها كثيرٌ من الأحداث والمواقف؛ منها مثلاً ما حدث لهذا الشاب الذي التحق بالعمل في ورشةٍ كبيرةٍ لنشر الأخشاب، قضى فيها أحلى سنوات عمره، حيث كان شاباً قوياً قادراً على الأعمال الخشنة الصعبة، وحين بلغ سن الأربعين وصار رجلاً في كامل قوته، وأصبح ذا شأنٍ في الورشة التي عمل بها لسنواتٍ طويلة، فوجئ برئيس العمال يُبلغه أنه مطرودٌ من الورشة، وعليه أن يُغادرها نهائياً بلا عودة! خرج الرجل إلى الشارع بلا هدفٍ وبلا أملٍ، وتتابعت في ذهنه صور الجهد الكبير الذي بذله على مدى سنوات عمره كله، فأحس بالأسف الشديد، وكَرِه ذلك، وأصابه الإحباط العميق؛ فقد أُغلق في وجهه باب الرزق الوحيد، خاصةً أنه ليس لديه ولدى زوجته شيءٌ من مصادر الرزق غير ما كان يتقاضاه من أجر العمل، ولم يكن يدري ماذا يفعل. عاد إلى البيت وأبلغ زوجته بما حدث، فقالت له زوجته: "ماذا نفعل الآن؟"، فقال: "سأرهن البيت الصغير الذي نعيش فيه، وسأعمل في مهنة البناء". وبالفعل كان المشروع الأول له هو بناء منزلين صغيرين بذل فيهما كل جهده، ثم توالت المشاريع الصغيرة وكثرت وأصبح مُتخصصاً في بناء المنازل الصغيرة، وفي خلال سنواتٍ قليلةٍ من الجهد المتواصل أصبح مليونيراً، وأنشأ عدداً من الفنادق والمستشفيات. يقول هذا الرجل في مُذكراته الشخصية: "لو علمتُ الآن أين يقيم رئيس العمال الذي طردني من ورشة الأخشاب، لتقدمتُ إليه بالشكر العميق لأجل ما صنعه لي؛ فعندما حدث هذا الموقف الصعب تألمتُ جداً ولم أفهم السبب، أما الآن فقد فهمتُ أن الله شاء أن يُغلق في وجهي باباً ليفتح أمامي طريقاً أفضل لي ولأسرتي".

 

وفي معنى (عسى أن تكرهوا شيئاً) قال الشاعر:

رُبَّ أَمْرٍ تَتَقِيه

جَرَّ أَمْرَاً تَرْتَضِيه

خَفِيَ الْمَحْبُوبُ مِنْهُ

وَبَدَا المَكْرُوهُ فِيه

 

أحبتي.. يقول ناشر القصة الأولى: أحياناً يمنع الله عنك أمراً تحسبه أنه الصالح لك، ولكنه سُبحانه وتعالى يُخبئ لك الأفضل، فإن أغلق الله أمامك باباً سيفتح باباً آخر خيراً من الأول، فاحمد الله على كل حالٍ، وارضَ بقضاء الله في كل الأحوال؛ فوالله مهما دبرنا لأنفسنا لن يكون أجمل وأكرم وأرحم من تدبير الله لنا. ويقول ناشر القصة الثانية: لا تظن أن أي فشلٍ يمر بحياتك هو نهايةٌ لك.. فقط فَكِّرْ جيداً وتعامل مع مُعطيات حياتك، وابدأ من جديدٍ بعد كل موقفٍ؛ لأن باستطاعتنا أن نكون أفضل بإيماننا بالله عزَّ وجلَّ، ويقيننا بأنه يعلم ما لا نعلم ويختار لنا ما فيه خيرنا.

اللهم ألهمنا الصبر عند حدوث المكاره، واجعلنا ممن يُحسنون الظن بك، ويوقنون بأن خياراتك لنا أفضل وأحسن مما نراه لأنفسنا.. وأمدِنا اللهم بالعزيمة لبدايةٍ جديدةٍ متوكلين فيها عليك، شاكرين دائماً لك في السراء والضراء.

 

https://bit.ly/3XH5VhD