الجمعة، 20 يوليو 2018

‏مُت فارغاً!


الجمعة 20 يوليو 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٤
(‏مُت فارغاً!)

‏اطلعت على عرضٍ مختصرٍ لكتابٍ شدني إليه غرابة عنوانه؛ فعنوان الكتاب (مُت فارغاً!) Die Empty، وهو كتابٌ صدرت طبعته الأولى عام 2013م، للمؤلف الأميركي تود هنري، الذي استلهم فكرة كتابه أثناء حضوره اجتماع عملٍ، عندما سأل مديرٌ أميركيٌ الحضور قائلاً: ما هي أغنى أرضٍ في العالم؟ فأجابه أحدهم قائلاً: بلاد الخليج الغنية بالنفط، وقال آخر: بل مناجم الألماس في إفريقيا. فعقب المدير قائلاً: بل هي المقابر! نعم، المقابر هي أغنى أرضٍ في العالم؛ لأن ملايين البشر دُفنوا فيها وهم يحملون الكثير من الأفكار القيّمة التي لم تخرج للنور، ولم يستفد منها أحدٌ.
ألهمت هذه الإجابة تود هنري لكتابة كتابه الرائع (مُت فارغاً!) والذي بذل فيه قُصارى جهده لتحفيز البشر بأن يفرّغوا ما لديهم من أفكارٍ وطاقاتٍ كامنةٍ في مجتمعاتهم وتحويلها إلى شيء ملموسٍ قبل فوات الأوان. وأجمل ما قاله تود هنري في كتابه: "لا تذهب إلى قبرك وأنت تحمل في داخلك أفضل ما لديك، اختر دائماً أن تموت فارغاً"!

أحبتي في الله .. بعد أن اطلعت على عرض الكتاب، انبهرت بعبقرية موضوعه، ثم ساءلت نفسي: هل لدينا في الإسلام ما كان يُغنيني عن الانبهار بهذا الموضوع؟

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾، يقول المفسرون أن قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ﴾ بمعنى التمس فيما آتاك الله من الأموال خيرات الآخرة، بالعمل فيها بطاعة الله في الدنيا، أما قوله: ﴿وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، فمعناه لا تترك نصيبك وحظك من الدنيا، أن تأخذ فيها بنصيبك من الآخرة، فتعمل فيها بما ينجيك غداً من عقاب الله.
ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: [إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا]، يقول شُرَّاح الأحاديث أن المراد بقيام الساعة حصول أشراطها الكبرى المؤذنة بقرب قيامها؛ فيكون المعنى لا يمنعكم قرب قيام الساعة من العمل والسعي في الأرض وعمارتها، وكأنه يقول: إذا يئست من ثمرة العمل أن تحصلها؛ فلا تترك العمل، عسى أن تنفع ثمرته غيرك، فلا يقتصر همك في الحياة على مجرد حاجاتك، ولكن اعمل لك ولمن بعدك.

ومن منا لا يحفظ القول المشهور : "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، وهو قولٌ يظن كثيرٌ من الناس أنه حديثٌ للرسول صلى الله عليه وسلم، لكن المتفق عليه أنه قولٌ لأحد الصحابة، يصح أن نستشهد به فهو قريب الصلة بموضوع كتاب (مُت فارغاً!)؛ يقول أحد العلماء: ليس معنى هذا القول هو ما يتبادر إلى أذهان كثيرٍ من الناس من العناية بأمور الدنيا والتهاون بأمور الآخرة، بل معناه على العكس، هو المبادرة والمسارعة في إنجاز أعمال الآخرة والتباطؤ في إنجاز أمور الدنيا؛ فعبارة "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً" تعني أن الشيء الذي لا ينقضي اليوم ينقضي غداً، والذي لا ينقضي غداً ينقضي بعد غدٍ، فاعمل بتمهلٍ وعدم تسرعٍ لو فات اليوم، فما يفوت اليوم يأتي غداً وهكذا. أما الآخرة فاعمل لها كأنك تموت غداً؛ أي بادر بالعمل ولا تتهاون وقَدِّر كأنك تموت غداً أو قبل غدٍ؛ لأن الإنسان لا يدري متى يأتيه الموت. فيكون المعنى الصحيح هو المبادرة في أعمال الآخرة وعدم التأخير والتساهل فيها، وأما أعمال الدنيا فالأمر فيها واسعٌ؛ ما لا ينقضي اليوم ينقضي غداً وهكذا.
ويقول أحد الصالحين: "أمَّا في الدنيا فَلِلْحثِّ على عِمارتها، وبقاء الناس فيها حتى يَسْكُن فيها، ويَنْتَفع بها من يَجيء بعدك، كما انْتَفَعْتَ أنت بعَمَل من كان قبلك، وسَكَنْتَ فيما عَمَّرَه، فإنّ الإنسان إذا عَلِم أنه يَطُول عُمْرُه أحْكَم ما يَعمَلُه، وحَرصَ على ما يَكْسِبُه، وأمَّا في جانِب الآخرة فإنه حَثٌّ على إخلاص العمل".
ويقول آخر: "هو شعور المؤمن في حياته يعمل فيها وكأنه سوف يلاقي ربه بين دقيقةٍ وأخرى؛ فيحاول الاستعداد لذلك بتقوى الله سبحانه وعمل الصالحات، ومع ذلك لا ينسى ما أحل الله سبحانه في الدنيا فهو يعمل ليكفي نفسه ومن يعول متوكلاً على الله عز وجل يمشي في مناكب الأرض ليأكل من رزق الله الحلال".
يقول ابن عمر رضى الله عنهما: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: [كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ]. وكان ابن عمر رضى الله عنهما يقول: "إذا أمسيـْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإذا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المساءَ، وخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حياتِكَ لِمَوْتِكَ".
ورُوي عن أبي عبد الرّحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: «ما نَدِمتُ على شيءٍ نَدَمِي على يومٍ غَرَبتْ شمسُه: نقَص فيه أجلي، ولم يزدَدْ فيه عملي».

بالعودة إلى كتاب (مُت فارغاً)؛ يقول ناشر الموضوع عن الكتاب أنه ظن للوهلة الأولى أن المعنى أن يموت الإنسان فارغاً من هموم الدنيا وآلامها وأحزانها ومن المعاصي والآثام، ولكنه تفاجأ بأن صاحب هذا التعبير الجديد البليغ والفريد يعنى أن يموت الإنسان فارغاً من كل الخير الذي في داخله؛ أي أن يُسَلِّمه قبل أن يرحل! وقال: إذا كنت تملك فكرةً نفذها، علماً بلّغه، هدفاً حققه، حباً انشره ووزّعه. لا تكتم الخير داخلك فتموت ممتلأً متخوماً وتصبح لقمةً سائغةً لذيذةً لدود الأرض. أن نموت فارغين يعني أن نعيش كل يومٍ كأنه آخر يومٍ؛ نعطي كل ما نملك، نبذل من الطاقة أقصاها، ومن العمل أفضله، ومن الإبداع أروعه، نكون ملهِمين فرحين متفائلين، نسعى أن نكون فارغين حتى تسمو أرواحنا وتحلّق عالياً. وأردف قائلاً: أعتقد أننا جميعاً نزن آلاف الأطنان من الخير والإبداع والحب والأمل، لم نعطِ إلا القليل، وما يزال الكثير في جعبتنا. كم أتمنى أن نشمر ونبدأ بالسباق، نستخرج كل ذرة خيرٍ داخلنا، ونبدأ في العطاء.

أحبتي .. كلنا سنموت، لكن متى ذلك؟ بعد خمسين سنة؟ بعد عشرين؟ بعد عشرة؟ أم بعد شهورٍ معدودة؟ أم بعد أسابيع أو أيامٍ؟ أم بعد ساعاتٍ قليلة؟ لا يعلم أيٌ منا متى ينتهي أجله، فلماذا لا نتصدق بعلمنا وخبراتنا في الحياة إلى غيرنا قبل أن يوافينا الأجل المحتوم؟ ولماذا لا نقدم كل ما نستطيع أن نقدمه من أعمال خيرٍ وبِرٍ دون إبطاءٍ قبل أن يأتينا الموت؛ فلا تدري نفسٌ متى تموت؟ عندما نستمع إلى الأخبار، هل الشخص الذي مات في حادثةٍ في طريقه إلى منزله من عمله كان يتوقع أن يموت؟ هل حقق كل ما كان يتمنى تحقيقه في الدنيا؟ هل قدم لآخرته ما كان يتمنى أن يقدمه؟ الشيئ المؤكد هو أنه كان لا يزال في جعبته أشياء كثيرةٌ لم يفعلها بعد. فلنتعظ ولنسارع بعمل ما في وسعنا في أسرع وقت وبأفضل مستوى ممكن، ولنبادر بالعطاء وبتقديم أعمال الخير والبر، ومساعدة الآخرين وتعليمهم ونقل خبراتنا إليهم، بكل طريقةٍ ممكنةٍ: بالعمل، بالقدوة، بالتدريب، بالكتابة، بالتسجيل الصوتي، بإعداد ونشر مقاطع الفيديو، بالتوجيه المباشر وغير المباشر، وبكل ما توفره لنا التقنيات الحديثة من أدواتٍ ووسائل. ولا ننس أننا ميتون، وأن العلم النافع الذي نتركه قبل موتنا سوف ينفعنا؛ يقول الرسول الكريم: [إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ].

هدانا الله وإياكم، وجعلنا ممن لا يبخلون بتقديم علمهم ونقل خبراتهم إلى غيرهم، راجين من الله القبول. اللهم تقبل منا أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم ولا تحرمنا أجرها، فما عملناها إلا ابتغاء مرضاتك؛ تصديقاً لقولك سبحانك: ﴿لا خَيرَ في كَثيرٍ مِن نَجواهُم إِلّا مَن أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَو مَعروفٍ أَو إِصلاحٍ بَينَ النّاسِ وَمَن يَفعَل ذلِكَ ابتِغاءَ مَرضاتِ اللَّهِ فَسَوفَ نُؤتيهِ أَجرًا عَظيمًا﴾.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/GEUR1o