الجمعة، 18 أكتوبر 2019

همة أحيت أمة


الجمعة 18 أكتوبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٩
(همة أحيت أمة)

عام 1906م في إحدى قرى صعيد مصر اشترى أحد الشيوخ البسطاء صحيفةً وعندما قرأها لفت انتباهه خبرٌ غريبٌ هو أن رئيس وزراء اليابان "كاتسورا" أرسل خطاباتٍ رسميةً إلى دول العالم ليرسلوا إليهم العلماء والفلاسفة والمشرعين وكل أصحاب الديانات لكي يجتمعوا في مدينة طوكيو في مؤتمرٍ عالميٍ يتحدث فيه أهل كل دينٍ عن قواعد دينهم وفلسفته، ومن ثَمَّ يختار اليابانيون بعد ذلك ما يناسبهم من هذه الأديان ليكون ديناً رسمياً للإمبراطورية اليابانية بأسرها؛ وسبب ذلك أن اليابانيين بعد انتصارهم المدوي على الروس في معركة تسوشيما عام 1905م رأوا أن معتقداتهم الأصلية لا تتفق مع تطورهم الحضاري وعقلهم الباهر ورقيهم المادي والأدبي الذي وصلوا إليه فأرادوا أن يختاروا ديناً جديداً للإمبراطورية الصاعدة يكون ملائماً لهذه المرحلة المتطورة من تاريخهم. وقيل إن المؤتمر كان للحوار والتعاون بين الأديان. على أية حال أسرع هذا الصعيدي البطل إلى شيوخ الأزهر يستحثهم للتحرك السريع لانتهاز هذه الفرصة الذهبية لنقل دين محمدٍ إلى أقصى بقاع الأرض، فلم يسمع الشيخ إلا عبارات "إن شاء الله"، و"ربنا يسهل"! فكتب الشيخ في صحيفته الخاصة "الإرشاد" نداءً عاماً لعلماء الأزهر لكي يسرعوا بالتحرك قبل أن يفوتهم موعد المؤتمر، وسعى حثيثاً إلى الدعوة لتشكيل وفدٍمن العلماء المصريين يكون له سبقٌ في تمثيل الدين الإسلامي بالمؤتمر، وكتب يقول: "إن مسلمي مصر أولى بأن يحوزوا هذه الفضيلة لوجود الأزهر بين ظهرانيهم"، ولكن لا حياة لمن تنادي. ورغم هذا الإحباط لم يستسلم هذا الصعيدي البطل فحمل هَمَّ أمةٍ كاملةٍ على كتفيه وانطلق إلى قريته الصغيرة ليبيع خمسة أفدنةٍ من الأرض لينفق من حسابه الخاص على تكاليف تلك المغامرة العجيبة التي انتقل فيها على متن باخرةٍ من الإسكندرية إلى إيطاليا ومنها إلى عدن في اليمن ومنها إلى بومباي في الهند ومنها إلى كولمبو في جزيرة سيلان "سيريلانكا حالياً"، ومن هناك استقل باخرةً لشركةٍ إنجليزيةٍ متجهةً لسنغافورة ثم إلى هونج كونج ثم إلى سايغون في الصين ليصل أخيراً إلى ميناء يوكوهاما الياباني بعد مغامرةٍ بحريةٍ لاقى فيها هذا الصعيدي البطل ما لاقاه من الأهوال والمصاعب. في الميناء تفاجأ بوجود شيخٍ هنديٍ وشيخٍ صينيٍ من التركستان الشرقية وشيخٍ قوقازيٍ من مسلمي روسيا، جاءوا مثله على نفقتهم الخاصة ليجدوا أن الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني أرسل وفداً كبيراً من العلماء الأتراك ليجتمع أولئك الدعاة جميعاً ويكونوا وفداً إسلامياً ضخماً مكوناً من مسلمين من أقطارٍ مختلفةٍ ليحمل كل واحدٍمنهم رسالة محمد بن عبد الله في وجدانه ليوصلها إلى إمبراطور اليابان شخصياً، في حين أرسلت بقية الدول وفوداً من كل المذاهب المسيحية. بدأ المؤتمر في الأول من مارس عام 1906م وانتهى دون الاستقرار على دينٍ بعينه؛ إذ إن كل مجموعةٍ من اليابانيين استحسنت ديناً دون الاتفاق على واحدٍمنها، وإن كانت غالبية من حضروا المؤتمر من اليابانيين وجدوا في أنفسهم ميلاً للإسلام الذي أحسن علماؤه بيان ما فيه من قواعد ومبادئ يتفق معها العقل والمنطق. وأعلن الإمبراطور الياباني "الماكيدو" أن حرية الأديان مكفولةٌ لجميع المواطنين، وكاد الإمبراطور نفسه أن يُسْلِم على يد ذلك الشيخ بعد أن أبدى إعجابه بالإسلام، لولا خوفه من انشقاق أمّته على بعضها. اشترك الشيخ مع ثلاثةٍ من الدعاة هُم: سليمان إمباركد من الصين، ومخلص محمود من روسيا، وحسين عبد المنعم من الهند، في تأسيس جمعيةٍ في طوكيو للدَّعوة الإسلاميَّة، وانطلقوا إلى شوارع طوكيو ومعهم مترجم، يدعون المواطنين اليابانيين إلى الإسلام؛ فأسلم على أيديهم اثنا عشر ألف ياباني، أسلم نصفهم في فترة وجود الشيخ في اليابان. عاد الشيخ بعدها إلى مصر، وأصدر في عام 1907م كتاباً أسماه “الرحلة اليابانية” عرض فيه تفاصيل رحلته إلى اليابان، وفي العام ذاته أسس جريدة "الأزهر المعمور" واستمر بالعمل بها حتى وافته المنية عام 1961م. وهو يُعد بذلك أول داعيةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث. قيل عنه: «لو ظل هذا الرجل في اليابان لاعتنق معظم أهلها الإسلام». هذا الشيخ اسمه: علي أحمد علي الجرجاوي، من قرية أم القرعان مركز جرجا محافظة سوهاج بصعيد مصر، فهل سمع أحدٌ منا عنه أو عرف قصته؟!

أحبتي في الله .. انظروا إلى همة هذا الرجل، إنها بحقٍ (همة أحيت أمة). لقد كانت همته في الدعوة إلى الله سبباً في تعريف أمةٍ كاملةٍ بدين الإسلام. لقد بادر الشيخ إلى تنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، وكان شعاره: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، فاستحق من الأجر بإذن الله ما لا يمكن إحصاؤه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: [مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]، وفاز بالخير كله مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ]،وذلك حينما حمل لواء: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً].
يقول أهل العلم إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من أعظم خصائص أمَّة الإسلام، فهي تهدي كلَّ أحدٍ إلى كل خيرٍ إلى قيام الساعة؛ فقد ختم الله بنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم الرسالات، وجعل دعوتَه عامةً إلى أمم الأرض كلها.
ودعوة الناس إلى الإسلام وهدايتهم إليه من أوجب الواجبات، لم يختلف العلماء قديماً وحديثاً في وجوبها؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾، أي أن تكون هناك فرقةٌ من الأمة تقوم بواجب الدعوة إلى الله، وإن كان ذلك واجباً على كل فردٍ من الأمة بحسب قدرته واستطاعته؛ فمن يقدر على الدعوة بنفسه يجب عليه القيام بها، ومن لا يقدر فإنه قادرٌ على إعانة القادرين عليها، وإذا كان العامة غير قادرين على الدعوة بالأسلوب النظري والمناهج الدعوية المدروسة، فهم قادرون على الدعوة بالأسلوب العملي بالتزامهم بتعاليم الإسلام؛ فقد اهتدى إلى الإسلام كثيرون بسبب المعاملة الحسنة والسلوك الحميد من خواص المسلمين وعوامهم، إضافةً إلى أن عوام المسلمين قادرون أيضاً على إعانة القادرين على الدعوة بأموالهم، وتيسير وسائل الدعوة لهم. وإذا كان عامة المسلمين يحصل لهم من الفضل ما يحصل لغيرهم إن قاموا بالدعوة بأية صورةٍ من صورها، فإن كل مسلمٍ عليه تبعةٌ مقابل ذلك، فأي إهمالٍ من المسلم لواجباته تجاه دينه يجلب المعاناةَ للمسلمين كافةً، ويُعِين كثيراً ممن يسعون إلى تشويه الإسلام، وكثيرون هم الذين صدَّهم عن الإسلام معاملةٌ سيئةٌ، أو هضمُ حقوقٍ، أو إغلاظٌ في المعاملة من بعض المنتسبين إلى الإسلام، فويلٌ للذين يصرفون الناس عن الإسلام، وينفرونهم عنه بسوء قولهم أو فعلهم.
إن كثيراً من الناس يجهل أهمية الدعوة الفردية رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم بها خاصةً في أول مراحل الدعوة؛ فقد وضع عن طريقها اللبنات الأساسية للدولة الإسلامية؛ فهي التي أثّرت في الناس أيما تأثيرٍ فجعلت الأفراد المتمسكين بهذا الدين مضَّحين له بالغالي والنفيس.
لن يستقيم لهذه الأمة أمرٌ، ولن تُحفظ هويتُها إلا بالدعوة إلى الله وإلى الإسلام الذي هو الدين عند الله؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾.
إن الدعوة إلى الله دعوةٌ مباركةٌ، طيبة الثمار، تُنتج أفراداً ملتزمين بالإسلام التزاماً صحيحاً، كما أنها من سُنن النبي صلى الله عليه وسلم يُثاب فاعلها.
يقول أحدهم ملخصاً موضوع الدعوة الفردية: "إن انتمائي إلى الإسلام يجب أن يجعل مني صاحب رسالةٍ في الحياة، ويفرض عليّ أن أعمل ليكون المجتمع الذي أعيش فيه مسلماً ملتزماً؛ فإنه لا يكفي أن أكون مسلماً وحدي دونما اهتمامٍ بمن حولي". وقال آخر: "أأسف كثيراً عندما أسمع من يستدل بضعفه وعجزه وتكاسله بقول الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وقد نسي أو تناسى أنه لم يبذل الوُسع بعد؛ فالآية تحث على البذل والعمل حسب الطاقة لا كما يظن، وكم منحنا الله من طاقاتِ مالٍ ووقتٍ وصحةٍ وعقلٍ نهدرها فيما لا يفيد، ثم نعتذر عن واجب الدعوة ونحن لم نبذل الوُسع الذي تفضل به الله علينا!".

أحبتي .. إن الشيخ علي الجرجاوي واحدٌ من الذين بادروا إلى رفع راية الدعوة إلى الله، والذين يصح القول في شأنهم إن رُبَّ (همة أحيت أمة). إن هؤلاء ينبغي أن تُدرَس قصصهم في المناهج الدراسية، وتُذاع حكاياتهم في وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، وتُسمى بأسمائهم الشوارع والمدارس؛ ليتعرف الناس على جهودهم، وليكونوا قدوةً صالحةً لشبابنا الذين يبحثون الآن عن قدوةٍ فلا يجدونها إلا في نماذج مريضةٍ معيبةٍ مشوهة. إذا أردنا العزة والتمكين وتغيير الأحوال إلى الأصلح علينا أن نبدأ بإصلاح أنفسنا وأبنائنا وأهلينا ومجتمعنا؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾. فلنبدأ بأنفسنا؛ ولنا في نبينا عليه الصلاة والسلام الأسوة الحسنة، أمَرَه ربُه تبارك وتعالى في بداية الدعوة بقوله: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾.
على كلٍ منا أن يحافظ على عباداته، ويسمو بأخلاقه، ويرتقي بمعاملاته، وأن ينوي أن يكون ذلك في سبيل الدعوة إلى الله والتعريف بدين الإسلام؛ فيؤجَر على كل عبادةٍ يلتزم بأدائها، وكل عملٍ حسنٍ يقوم به، وكل كلمةٍ طيبةٍ يتفوه بها، حيث يكون وقتها داعيةً إلى الله بالتزامه وأخلاقه وسلوكه.
اللهم أعنا لنكون خير سفراء لديننا، وخير نماذج لما ينبغي أن يكون عليه المسلم المعاصر المتمسك بوعيٍ بكتاب الله وسُنة رسوله الكريم.
http://bit.ly/35FfPTX