الجمعة، 4 يناير 2019

كما تَدين تُدان/2


الجمعة 4 يناير 2019م

خاطرة الجمعة /١٦٨
(كما تَدين تُدان)

كان هناك عجوزٌ يعيش مع ابنه وزوجة ابنه وحفيده، وعندما أصبح العجوز متقدماً بالسن، لم يعد يقوى على الأكل بشكلٍ طبيعي، حيث أصبحت يداه ترتجفان، ونظره الضعيف يؤدي إلى إسقاط الطعام من يده أحياناً. وذات يومٍ سقط طبق الطعام من يدي العجوز وانكسر؛ عندها غضبت زوجة ابنه من ذلك وطلبت من زوجها أن يجد حلاً لهذا الموضوع، فكر الزوج في الأمر وخطر له أن يصنع لوالده طبقاً من الخشب، وتجنباً لسكب الطعام على المائدة، تم إجبار العجوز على تناول طعامه وحيداً بعيداً عن العائلة. كلما وُضع الأكل للعجوز ووجد نفسه وحيداً كانت الدموع تسيل على وجنتيه، حيث كان يشعر أنه منبوذٌ في أيامه الأخيرة؛ حيث يُجبَر على الأكل وحيداً بينما يستمتع باقي أفراد الأسرة بتناول الطعام على المائدة، وكان حفيده ينظر إليه وسط صمتٍ مهيب، في الوقت الذي لم يعد ابنه وزوجة ابنه يطيقانه. بعد مرور عدة أشهرٍ على هذا الحال، تُوفي الرجل العجوز وأقيمت مراسم التشييع والدفن، وبعد الانتهاء من تلك المراسم أراد الابن وزوجته التخلص من الأغراض المتعلقة بالعجوز بإعطائها للفقراء أو إتلافها، فجأةً ركض حفيد العجوز وأخذ الطبق الخشبي، فسأله أبوه: "لماذا أخذتَ هذا الطبق؟ وماذا تريد أن تصنع به؟!"، عندها أجابه الطفل الصغير: "أريد أن أحتفظ به كي أطعمك أنت وأمي به عندما تكبران مثل جدي!".

وهذا رجلٌ فقيرٌ تقوم زوجته بصنع الزبدة ويقوم هو ببيعها في المدينة لأحد البقالات. كانت الزوجة تعمل الزبدة على شكل كرةٍ وزنها كيلو جرام، وهو يبيعها لصاحب البقالة ويشتري بثمنها حاجيات المنزل. في أحد الأيام شك صاحب البقالة في الوزن، فقام بوزن كرات الزبدة فوجد وزن كل واحدةٍ منها تسعمائة جرامٍ فقط؛ فغضب وعندما حضر الفقير في اليوم التالي قابله متجهماً وقال له: "لن أشتري منك يا غشاش؛ تبيعني كرة الزبدة على أنها كيلو جرام، وهي أقل من الكيلو بمائة جرام"، حزن الفقير ونكس رأسه ثم قال: "نحن يا سيدي لا نملك ميزاناً ولكني اشتريت منك كيلو من السكر وجعلته مثقالاً لنا نزن به الزبدة".

أحبتي في الله .. تيقنوا تماماً أن مكيالكم يُكال لكَم به. قال أهل العلم أنه وَرَدَ في الأثر "وقيل أنه حديثٌ شريف": [البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ]، والبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُق؛ فمن يعمل الخير فإن أجره يبقى محفوظاً عند الله ولا يضيع. أما الإثم الذي لا يُنسى فهو الخصال الشريرة وغير الحميدة التي تدفع الإنسان إلى القيام بالمعاصي، وهو كالبرّ لا يُنسى، إذ إنّ الله سبحانه وتعالى سيجازي الآثم، إمّا في الدنيا أو الآخرة. والديان لا يموت ولا ينام؛ فهو سبحانه لا يغفل عن أي دَيْنٍ لعباده، فهو الحق، العادل، الكريم، المعطاء، الجبار. فكن كما شئت؛ أي اختر بنفسك لنفسك الطريق، سواءً كانت خيراً أو شراً، فالله تعالى أعطى الإنسان العقل ووهبه الحرية، ولم يجبره على فعل أي شيء. و(كما تَدين تُدان) هي النتيجة النهائية؛ فأعمالك ستُرَد عليك، إذ أن الجزاء من جنس العمل، وهذا دليلٌ على عدل الله سبحانه وتعالى ورحمته.

(كما تَدين تُدان)، أو الجزاء من جنس العمل، حكمةٌ بليغةٌ تناقلها الناس قديماً، وجاءت الشواهد من الكتاب والسنة دالةً على صدقها؛ فقد عاقب الله تعالى المنافقين بجنس ما أذنبوا وارتكبوا، فقال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ فعاقبهم على استهزائهم بدين الله عقاباً من جنس عملهم، فقال سبحانه: ﴿اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ فقوله: ﴿سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ﴾ من باب المقابلة على سوء صنيعهم وسخريتهم من المؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل. وكذلك الحدود التي شرعها الله تعالى، كان الجزاء فيها من جنس العمل؛ يقول تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي مجازاةً على صنيعهما السيء في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب ذلك أن يُقطع ما استعانا به في السرقة.
ومما وعد الله به عباده المؤمنين قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾، لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن الله إليهم برحمته. كما رتب الله تعالى من الأجور والثواب على بعض الأعمال ما هو مناسبٌ للعمل نفسه، ومن ذلك:
قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾، وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
وفي الحديث القدسي ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى للرحم حين تعلقت به سبحانه: {أَمَا تَرضَينَ أَن أَصِلَ مَن وَصَلَكِ وَأَقطَعَ مَن قَطَعَكِ؟} قَالَت: بَلَى، قَالَ: {فَذَاكَ لَكِ}.
وفي السُنة أحاديث كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: [ارحَمُوا مَن فِيْ الأَرضِ يَرحَمْكُمْ مَن فِي السَّمَاءِ]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [احفَظِ اللَّهَ يَحفَظْكَ]، وقوله صلى الله عليه وسلم:
[المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ لا يَظلِمُهُ وَلا يُسْلِمُه، مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنهُ بِهَا كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ]. وقد جاء في السُنة من الوعيد على بعض الذنوب ما هو مناسبٌ لها؛ فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [مَن لَعَنَ شَيئًا لَيسَ لَهُ بِأَهلٍ رَجَعَتِ الَّلعنَةُ عَلَيهِ]، وقوله عليه الصلاة والسلام: [مَن ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَن شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيهِ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [مَن سُئِلَ عَن عِلمٍ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلجِمَ يَومَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نَارٍ].
فالجزاء من جنس العمل، و(كما تدين تدان)، ذلك من مقتضى عدل الله سبحانه وتعالى وحكمته؛ فمن عاقب بجنس الذنب لم يَظْلِم، ومن دانك بما دنته به لم يتجاوز.

أحبتي .. من الحكمة ألا تصنع الرمح لمنافقٍ؛ يوماً ما ستكون أنت الهدف الذي يرمي نحوه. ولا تكن مُعيناً لظالمٍ ولا شريكاً له في ظلمه؛ فسيبطش بك فور انتهاء دورك. وخاذل المظلوم شريكٌ مع الظالم؛ فأكثر الظالمين لولا السكوت ما ظلموا. ومن أيَّد ظالماً ودعمه وتغاضى عن ظلمه لغيره، وبرره له، وشجعه عليه، سيأتي، إن عاجلاً أو آجلاً، اليوم الذي يُظلم هو فيه، ثم يشعر بمرارة خذلان غيره له، وشماتتهم فيه.
تأكدوا أحبتي أن (كما تَدين تُدان) هو قانون العدل الإلهي، نشاهد آثاره كل يومٍ؛ ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ﴾. فإن كنا نعمل خيراً فسوف نلقى خيراً، وإن كنا نعمل غير ذلك، لا قدَّر الله، فسوف نُدان بجنس عملنا، إن لم يكن بنفس الموقف فحتماً سيكون بنفس الألم، ولنتذكر أن الله عزَّ وجلَّ عندما تُرفع إليه دعوة المظلوم فإنه يقول: {وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ}.

اللهم يسَّر لنا أعمال الخير والبر، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وجازنا اللهم برحمتك وفضلك وإحسانك من جنس أعمالنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.
https://goo.gl/XEd52j