الجمعة، 28 أبريل 2017

عسى أن تكون هي المنجية

الجمعة 28 إبريل 2017م

خاطرة الجمعة /٨١
(عسى أن تكون هي المنجية)

شهر رمضان الماضي كان مميزاً بشكل استثنائي بالنسبة لي لأسبابٍ كثيرة منها أني كُلفت من قبل فاعلي خيرٍ بإعداد حقائب تشتمل على بعض المواد الغذائية الضرورية مثل الأرز والزيت والسكر والسمن والصلصة، وتوزيعها على المحتاجين في هذا الشهر الكريم.
وإن أنسى لا أنسى موقفاً ترك في نفسي أثراً كبيراً .. في أحد أيام ذلك الشهر الكريم، توجهنا أنا وزوجتي إلى أحد محلات بيع المواد الغذائية لشراء الأغراض المطلوبة لتلك الحقائب، كنا في حاجةٍ إلى كميةٍ كبيرةٍ من الأرز، وكان المسموح ببيعه في ذلك المحل لكل فرد كمية صغيرة ومحدودة، سألنا عن مدير المحل وقابلناه وأخبرناه بما نعتزم عمله، فوافق فوراً على أن يبيع لنا كميةً كبيرةً من الأرز. لم نكن نتوقع منه هذه الاستجابة السريعة، وأحسسنا وقتها أنه يقول بينه وبين نفسه (عسى أن تكون هي المنجية).
وعند نقل ما اشتريناه من أغراضٍ كثيرةٍ إلى السيارة قام أحد الشباب العاملين بالمحل بمساعدتنا في نقلها رغم الصيام ورغم الحر، وعندما انتهى من ذلك حاولت زوجتي أن تعطيه إكراميةً بسيطةً، رفض بأدبٍ وقال لها: "أتريدين أن تحرميني من الثواب؟"، لقد كان لسان حاله يقول: (عسى أن تكون هي المنجية).

أحبتي في الله .. يقول أحد الصالحين: كل واحدٍ منا يسعى لنيل رضى الله بالتقرب منه سواءً بالعبادة التي نحن مأمورون بأدائها أو بفعل الخير والمعروف وذلك من أجل نيل الحسنات والأجر الوفير. يسعى كلٌ منا جاهداً لفعل الخيرات وأعمال البر في حياته لتكون شاهدةً له في آخرته ومنجيةً له من عذاب ربه. ولا ندري، أيُ هذه الأعمال تكون هي المنجية؟ من ذلك: إزالة الأذى عن الطريق، الابتسامة في وجه الجميع، توزيع مياه باردة على عمال يشتغلون تحت لهيب شمس الصيف، قيام الليل، قراءة القرآن، الاستغفار، ذكر الله، التبرع بمصاحف للمساجد، وضع ثلاجة للماء يشرب منها العطشى من الناس، وضع ماء وفتات الخبز أو الحبوب لتشرب منه الطيور والحيوانات وتأكل. أفكار كثيرة لأعمال بسيطة نقوم بها (عسى أن تكون هي المنجية).
يقول آخر مضيفاً إلى الأعمال السابقة: تقود سيارتك وحرارة الشمس تحرق الأخضر واليابس وتلمح أحدهم يمشي والعرق يغسل ثوبه لا تشمئز وافتح باب سيارتك ليركب معك. تأتي من العمل مرهقاً عائداً إلى بيتك تحمل الكثير من الأغراض المطلوبة منك وتسألك والدتك: "هل جلبت لي اللبن؟" ابتسم لها وقل: "لحظات" وأسرع لجلبه. يقول لك والدك: "تعال وصلني عندي موعد مع الطبيب" فتقول له: "أبشر". تُصلي وطفلك يلعب حولك وفجأة يقفز على ظهرك وأنت ساجد لا تغضب تحمَّل وأطل سجدتك. يشتمك البعض ويسبك فتقول: "سامحك الله". تقرأ آية من كتاب الله فتدمع عينك. تمر بشباب يعصون الله فتتوقف لكي تقدم لهم الموعظة والنصيحة. ترى امرأةً متبرجةً فتغض بصرك وتستغفر الله. يخطئ أحدٌ في حقك وتريد أن تشتمه وتضربه فتتذكر قوله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ فتكتم غيظك وتعفو عنه. تصلك فضيحة أحدهم فتقف عندك ولا تنتشر.
ردد دائماً قبل كل فكرة خير قبل أن تحولها لعمل: (عسى أن تكون هي المنجية).
ويقول ثالث: ليست الجنة بحاجةٍ إلى أعمالٍ تعجز الجبال عن حملها، استحضر النيّة، وأخلص في العمل، واجعل الجنّة نصب عينيك ستنالها بإذن الله.
لا يدري المسلم أي الأعمال هو المقبول وأي الحسنات هي المنجية: تتبرع بمدخراتك لبناء مسجد. تضع في جيبك حبّاتٍ من الحلوى توزعها على الأطفال بالمسجد. تعطي الأجير أجره قبل أن يجف عرقه تُكرمه وتُقدم له الطعام والشراب. تمسح على رأس يتيمٍ تعامله بلطفٍ وتشعره بالحنان. تساعد طالباً يحتاج إلى مصاريف للاستمرار في دراسته. تعود مريضاً في مشفىً تُدخل السرور على قلبه وتدعو له. تُفَّرج الضيق عن مكروب. تصلي ركعتين وقت الضحى. لا تدري أي هذه الأعمال قد لقى القبول من المولى عز وجل؛ فتقول في نفسك (عسى أن تكون هي المنجية).
 وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: [يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ]، قَالَ: "مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ".
وهذه امرأةٌ من بني إسرائيل كانت بَغِيَّاً {تحترف الزنا}، سقت كلباً فدخلت الجنّة. وهذا رجلٌ رآه رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يتقلب في أعلى الجنّة بغصنٍ قطعه من ظهر الطريق كان يؤذي المسلمين.

أحبتي .. يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ]، لا‌ تَحقرن أي: لا‌ تستقلنَّ من المعروف شيئًا، فتتركه لقلَّته؛ فقد يكون سبباً للوصول إلى مرضاة الله تعالى ولو كان هذا المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلقٍ؛ أي: بوجهٍ ضاحكٍ مُستبشر؛ وذلك لما فيه من إيناس الأخ المؤمن، ودَفع الوَحشة عنه، وجبْر خاطره، وبذلك يحصل التآلف المطلوب بين المؤمنين؛ فما أعظم ثواب هذا العمل رغم بساطته. يقول أهل العلم أنه يتعلق بهذا الحديث فوائد: الفائدة الأولى: أنه يدخل في عموم هذا الحديث ما لا يُحصى من الأعمال الصالحة التي ينبغي على المسلم أن يحرص على فعلها بنفسه، أو الإعانة على فعلها بنفسه أو بماله أو برأيه. الفائدة الثانية: ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم عن التقليل من شأن المعروف، أيًّا كان مقداره؛ فإن الله تعالى يحب المعروف كله قليله وكثيره؛ فلذلك ينبغي على المسلم أن يحرص على فعل المعروف بجميع أنواعه ولا يحتقر منه شيئًا، فلربما كانت نجاته في عملٍ يسير؛ فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ]. الفائدة الثالثة: العمل اليسير من المعروف قد يكون كبيراً عند الله عز وجل: فلربما عظُم العمل بسبب النية الصالحة فكما قيل: "رُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمه النية، ورُبَّ عملٍ كبيرٍ تصغِّره النية"، أو لأن ذلك غاية ما يستطيعه من قام بالعمل، أو لأنه آثر به غيره على نفسه مع حاجته، ولربما كان سبب التعظيم لشدة حاجة الشخص، أو بسبب قرابة محتاج ونحو ذلك؛ فإن العمل في مثل هذه الأحوال يتضاعف ويعظم أجره عند الله عز وجل؛ قال الله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾.
ويقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: [إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ]، مجرد كلمةٍ طيبةٍ لم يخطر ببال العبد أنها تبلغ به هذه الدرجات العالية، فما بال البعض منا ما زال يبخل، ليس بالمال فقط، وإنما بالعمل الصالح البسيط، أو بالمعاملة الحسنة، أو حتى بالابتسامة والكلمة الطيبة، ألم نقرأ قول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ﴾؟.

أحبتي .. حِرْصُنا على فضائل الأعمال من: صلة الرحم، حسن الخلق، طيب المعاملة، اللين والرفق، الأمانة، الصدق، الإخلاص، الوفاء بالعهد، إجادة العمل، الالتزام بالوعد، احترام الآخرين، الإيثار، القناعة، الكرم، شكر الناس، حفظ الحقوق لأصحابها، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، وغير ذلك من أعمال البر والتقوى، واهتمامنا بالنوافل من صلاةٍ وصيامٍ وصدقاتٍ، والتزامنا بأداء العبادات، هذه كلها هي التي تقودنا إلى مرضاة الله ورضوانه. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى﴾؛ فلنفعل ما استطعنا من خيرٍ مهما قلّ أو صغر، لا ندري فقد يكون عند الله عظيماً؛ يقول عز وجل: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾؛ فإذا مر على قلبنا مثل هذا الخاطر فلنتذكر عبارة: (عسى أن تكون هي المنجية)، بذلك ننفع أنفسنا، ونكون قدوةً لغيرنا، ومثالاً مشرفاً لأعظم دينٍ ارتضاه الله لنا وختم به رسالاته للبشرية وكلفنا بأمانة تبليغه للناس، فلنبلغه للناس بتصرفاتنا ومعاملاتنا وأخلاقنا، تماماً مثلما فعل السلف الصالح عندما فتحوا بلاد العالم شرقاً وغرباً، لم يفتحوها بسيوفهم، وإنما بحسن أخلاقهم وطيب معاملاتهم.

اللهم اجعلنا من الناجين من عذابك، الفائزين برضاك ورضوانك وجنات نعيمك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.