الجمعة، 24 مايو 2024

إن ربك لبالمرصاد

 

خاطرة الجمعة /448

الجمعة 24 مايو 2024م

(إن ربك لبالمرصاد)

 

يَحكي هذه القصة قاضٍ كان يرأس محكمة الجنايات في إحدى المدن المصرية قبل أكثر من خمسين عاماً، كتب يقول: ما من جريمةٍ تُرتكب إلا يُقابلها قصاصٌ عادلٌ، إن لم يكن من وحي التشريع الوضعي فمن وحي السماء التي لا تُفلت المجرم أبداً. والأصل في هذا مرجعه إلى المبدأ العام الذي يقول: "إن الجزاء من جنس العمل". وقد شَهدتُ قضيةَ قتلٍ تؤكد هذا المعنى؛ كان المجني عليه فيها قروياً بسيطاً غادر داره وقت الغُروب ليودع ضيفاً كان عنده حتى محطة السكة الحديد، وفيما هو عائدٌ إلى منزله بعد أن استقل ضيفه القطار أُطلقت عليه رصاصةٌ استقرت في صدره فسقط على الأرض جثةً هامدةً، ولم ينطق بكلمةٍ واحدةٍ تُنير السبيل أمام العدالة لمعرفة قاتله. اتهمت أسرة القتيل رجلاً من أهل بلدته كانت بينهما شراكةٌ في بقرةٍ اشترياها معاً واتفقا على أن تبقى عند كلٍ منهما شهراً، يتولى فيه إطعامها واستغلالها، ثم نفقت البقرة أثناء وجودها عند القتيل؛ فطالبه شريكه المُتهم بأن يرد إليه ما دفعه من ثمنها، وبنى مُطالبته هذه على أساس أن هذا الشريك أساء استخدام البقرة حتى نفقت بسبب ذلك، ولكن الشريك القتيل أصر على أنه غير مسئولٍ عن نفوق البقرة عنده، وأبى لذلك أن يدفع له مليماً واحداً من المبلغ الذي طالبه به!

قُبض على المُتهم، وكان رجلاً قد جاوز الخمسين من عمره، ضعيف البصر حتى لا يكاد يُبصر، ولما سُئل في التحقيق أنكر التُهمة المنسوبة إليه؛ واستند في دفاعه عن نفسه إلى أنه لا يُمكن أن يرتكب الجريمة المنسوبة إليه؛ لأن ضعف بصره يجعله غير قادرٍ على رؤية المجني عليه، فضلاً عن تسديد رصاصةٍ قاتلةٍ إليه، كما ذَكر أن الخلاف بينه وبين القتيل على البقرة مضى عليه نحو عامٍ ولو أنه أراد الانتقام منه ما انتظر كل هذه المدة الطويلة. لم تأخذ النيابة بهذا الدفاع؛ وجمعت بعض الأدلة والقرائن ضد المُتهم، ثم قدمته إلى محكمة الجنايات التي كنتُ أرأسها، فلما عُرضت القضية على المحكمة رأت أن تستكمل كل عناصر الدفاع في القضية؛ فانتقلت هيئتها مع المُتهم والطبيب الشرعي إلى مكان الحادث في مثل الوقت الذي وقع فيه كما أثبت التحقيق، وهناك دلت المُعاينة والتجربة على أن المُتهم ضعيف البصر إلى حد أنه لا يستطيع حقاً أن يُميز أي شخصٍ أمامه عند الغروب، فضلاً عن عدم استطاعته تصويب المقذوف الناري إلى صدره؛ وعلى ذلك قضت المحكمة ببراءة المتهم مما نُسب إليه. لم يكد ذلك المُتهم يُغادر السجن بعد أن مكث فيه قرابة ثلاثة أشهرٍ حتى كان القدر له بالمرصاد؛ فلم تمضِ عَشرة أيامٍ على حُكم البراءة الصادر عن المحكمة حتى أصدر القَدر حُكمه العاجل ضده، فانطلقت في وضح النهار رصاصةٌ قاتلةٌ استقرت في صدره وأردته قتيلاً لساعته، ولم يُحاول قاتله الفرار؛ فأطبق الناس عليه وقبضوا عليه مُتلبساً بجريمته! وقف هذا القاتل يروي للمُحقق الأسباب التي دعته إلى قتل القروي ضعيف البصر، فاعترف بأن القتيل كان قد اتفق معه على أن يقتل شريكه المجني عليه في القضية الأولى وذلك نظير ثلاثين جنيهاً، دفع له منها عشرة جنيهاتٍ مُقدماً، ووعد بدفع الباقي بعد قتل ذلك الشريك، وتمت الجريمة، ثم قُبض على مُحرضه رهن التحقيق فانتظر حتى أُفرج عنه، وذهب إليه مُطالباً ببقية أتعابه فأبى أن يدفع له شيئاً منها بحُجة أن الأشهر الثلاثة التي قضاها في السجن قد أبرأت ذمته من المبلغ المطلوب! ومضى القاتل المُتهم في اعترافه الخطير؛ فذكر أنه حاول عبثاً إقناع مُحرضه بإعطائه بقية الأتعاب المُتفق عليها، ثم أعطاه مُهلةً قدرها عَشرة أيامٍ ليُفكر فيها ويُراجع نفسه فإن لم يدفع له بعدها بقية المبلغ كان في حلٍ من أن يسفك دمه، وكان رد الرجل على هذا الإنذار أن رفضه في سخريةٍ وعناد، ثم مضت الأيام العشرة وهو ماضٍ في سخريته وعناده، فلم يسع المُتهم إلا أن قتله في وضح النهار إمعاناً في الانتقام منه! وجيء بالقاتل إلى محكمة الجنايات التي أرأسها، وبسط أمام المحكمة كل شيءٍ، ولم يُنكر شيئاً من اعترافه أمام النيابة، وفي غرفة المُداولة جلسنا نتداول في القضية ونستذكر العبرة السماوية في القضية الأولى والقضية الثانية؛ فقد كانت الدلالة فيهما أن عدالة السماء أقوى من كل شيءٍ، كانت العبرة فيهما أن الشيخ الذي حرّض على القتل واتُهم بالقتل لم يستطع القضاء أن يُدينه لاعتباراتٍ تتصل برعاية العدالة وأسبابها، وهي استحالة ارتكابه الجريمة بالصورة التي قدمته النيابة بها إلى محكمة الجنايات، وقد قدّر الله عزَّ وجلَّ ألا يُفلت القاتل ومُحرضه من العقاب، وقضت محكمة الجنايات بإعدام القاتل في الحادثين شنقاً!

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ﴾، والمعنى كما قال المُفسرون: إن الله سُبحانه وتعالى يرى ويُبصر ويسمع، لا يخفى عليه ولا يفوته شيءٌ في الأرض ولا في السماء، يرصد أعمال الناس ويُراقبها، ويُحصيها عليهم، ليُجازي كلاً بسعيه في الدُنيا والآخرة، فيحكم فيهم بعدله، ويُقابل كلاً بما يستحقه، وهو المُنزه عن الظُلم والجوْر، وهو عزَّ وجلَّ بالمرصاد لمن يعصيه، ولكل مَن طغى واعتدى وتكبّر، يُعاقبه ويؤاخذه، يُمهله قليلاً ثم يُنزل به عقابه الأليم؛ يقول تعالى: ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾.

إنها سُنة الله في خَلقه فُرادى كانوا أو جماعاتٍ أو أقواماً (إن ربك لبالمرصاد)؛ يقول تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً﴾ أي بسبب ذنوبهم أُغرقوا، ويقول سُبحانه: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.

 

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ]. إن الظلم مرتعه وخيمٌ، ودعاء المظلومين مُستجابٌ ولو بعد حينٍ؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ]، ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

(إن ربك لبالمرصاد) يُمهل ولا يهمل، ومن لُطف الله بعبده الظالم أن يُمهله لعله يتوب؛ ويؤخره لعله يُقلع، فإذا ما تمادى في ظُلمه فربما أخَّره ليزداد في الإثم؛ ثم يأخذه أخذ عزيزٍ مُقتدرٍ؛ فمن يستطيع أن يُفلت من قبضة الله جلَّ وعلا إن أخذه؟

 

يقول أهل العلم إن الظالم قد يغتر بظُلمه سنواتٍ، يظلم عباد الله، والله يُمهله بحلمه عليه، ويستره بستره له، يتمادى الظالم في غيه وجبروته، وينسى أن الله يُمهل ولا يُهمل، كما ينسى الآية الكريمة: (إن ربك لبالمرصاد).

 

أما الشاعر فيقول:

لا تظلمنَ إذا ما كُنتَ مُقتدراً

فالظلمُ مَرتعهُ يُفضي إلى النَدمِ

تنامُ عَينُكَ والمَظلومُ مُنتبهٌ

يَدعو عَليكَ وعَينُ الله لَمْ تَنمِ

 

أحبتي.. الحذرَ الحذرَ من الظُلم، أياً كان كبيراً أو صغيراً، مع الأغراب أو مع الأقارب؛ فالظُلم وبالٌ على صاحبه، وعلى كل من عاونه فيه وساعده، بل وعلى كل من رضي بظلم الظالم؛ فعاقبتهم كلهم جميعاً سيئةٌ في الدُنيا وفي الآخرة. وإن كان بعضنا قد وقع في الظُلم فليُسرع بتوبةٍ نصوحٍ إلى الله تعالى ويعود إليه. وإن كان بعضنا لم يظلم لكنه وافق الظالمين، ولو بقلبه، فليتذكر قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾، فليبادر بالامتناع عن الركون إلى الذين ظلموا حتى لا تمسه النار. وعلينا كلنا جميعاً أن ننتبه دائماً إلى الآية الكريمة (إن ربك لبالمرصاد)، مع حُسن الظن بالله، واليقين بمغفرته ورحمته؛ يقول تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ فمغفرة الله للتائبين توبةً نصوحاً لا يتعاظمها ذنبٌ، ولو كان الشرك بالله، فمن تاب صادقاً، فإن ذنبه مغفورٌ مهما كان ذلك الذنب عظيماً؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

والله نسأل أن يتوب علينا، وأن يغفر لنا، ويرحمنا؛ فلا يؤاخذنا بسوء أفعالنا، ولا يُعاملنا بما نحن أهله، وإنما بما هو أهله؛ فهو عزَّ وجلَّ ﴿أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾.

اللهم آتِ قلوبنا تقواها، وزكِّهَا أنت خير من زَكَّاهَا، أنت وَلِيُّهَا ومولاها.

https://bit.ly/4bxPKaI