الجمعة، 3 يناير 2020

الصبر وقت الشدة/1


الجمعة 3 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٠
(الصبر وقت الشدة)

هل كنت معزيةً اليوم؟! تحت هذا العنوان كتبتْ أختٌ فاضلةٌ عن موقفٍ أثر فيها كثيراً، كتبتْ تقول:
ذهبتُ اليوم معزيةً أم الطالب الذي توفاه الله قبل يومين في حادث سيارة، دخلتُ عليها -وهي صديقةٌ قديمةٌ- معزيةً؛ فاستقبلتني استقبالها الذي لم تُطفئ حرارته عشر سنواتٍ فرقتنا، ولم تخبته لوعتها على ابنها الأوسط، درة عِقْد حياتها، الذي فارق الحياة في الأمس القريب! احتضنتني مبتسمةً ابتسامة الرضى التي ما فارقت مُحياها أبداً، ورددتْ بصوتٍ عالٍ سمعَته كل مَن كنّ في مجلس العزاء، وكأنها تُسمعنا جميعاً: "لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيءٍ عنده بمقدار، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها"! ثم رافقتني أنا وزميلتي إلى صدر المجلس، وأجلستنا في وسطه! لم تُفقدها المصيبة التي حلّت بها أن تقوم بواجب استقبالنا على أكمل وجه، ولم تُنسها الفاجعة أن تحافظ على ابتسامة الرضى التي عرفتُها بها دوماً يوم كنا زميلاتٍ في العمل! ثم ابتدأت فصلا آخر من فصول صبرها واحتسابها! جلستْ لتعطينا درساً واقعياً في الصبر عند الابتلاء! وأي ابتلاءٍ؟! ابتلاء فقد الابن! بدأتْ بذِكر الله، بنفسٍ راضيةٍ محبةٍ، ثم قامت تصف لنا مشهد تلقيها خبر الوفاة عن طريق الهاتف، فكانت كلمتها التي صدحت بها: "إنا لله وإنا إليه راجعون"! كلنا يقولها ويرددها، لكنها كانت تقولها بقلبٍ راضٍ مستسلمٍ لقضاء الله وقدره! وأخذتْ تصف مناقب الابن البار الذي لم يكن من أهل الدنيا -على حد تعبيرها- فقد كان من أهل الآخرة! وبذلك شهد كل من عرفه من أصدقائه وأساتذته! ثم أخذتْ تصف اللحظات الأخيرة، قبل خروجه من المنزل، وكيف كان يرد الأمانات التي أخذها، وقبل أن يودعها بَشَّرها بأنه سينجح بامتيازٍ في مادتين! تقولها الأم وهي فخورةٌ بابنها الذي لم يُمهله الأجل أن يرى نتائج اختباراته لهذا الفصل! ثم انتقلتْ لتصف لنا لحظة وداعها له في المستشفى وصفاً أبكى كل من كُن في المجلس إلا هي! ظلت مبتسمةً راضيةً وكأن الله أنزل سكينته على قلبها، وربط عليه! وبعدها أردفتْ تصف السماء يوم خروجها من المسجد بعد الصلاة عليه، تقول: "كانت السماء مليئةً بالغيوم، ونسمات الهواء تهب باردةً عليلةً، فرفعتُ يديَّ للسماء وقلتُ ما أجمل يومك يا بني! ثم أمطرتْ في تلك الليلة فابتسمتُ وقلتُ ما أجمل ليلتك الأولى في قبرك يا بني"! تقولها بإحساس المؤمن الذي يعلم أنَّ له رباً رحيماً! تقولها بقلب المؤمن ويقينه بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى، وأننا وإنْ فرقتنا الدروب إلا أنَّ إيماننا يقينٌ بأن لقاءنا الأبدي سيكون هناك عند رب العزة! ثم ختمتْ قولها البليغ بعبارة: "أحتسبه عند الله شهيداً"! وقبل أن نقوم من مجلسنا ذكرتْ أن رفاقه أخبروها بأنه وصديقه الذي تُوفيَ معه -رحمة الله عليهما- كان آخر عملٍ لهما قبل الحادث أنهما حجزا للعمرة يوم الخميس! تقول: "اشتاق ابني حبيبي لزيارة بيت الله فأكرمه الله بالجنة"!
لا أخفيكم أنني شعرتُ بضآلتي أمام إيمانها بالله! وشعرتُ بتقصيري تجاه ربي أمام صبرها، وسألتُ الله أن يُسبغ على قلبي الراحة التي يجدها أولياؤه وأصفياؤه! الإيمان ليس ادعاءً ندعيه، ثم نرتدّ عند أول ابتلاء! الإيمان ليس هيئةً نرتديها، ثم نجحد على محكّ الأزمات! إنما الإيمان ثباتٌ في المحن، ويقينٌ بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى!
لم تنتهِ قصتي مع أم الفقيد، فقد أصرتْ أن ترافقنا مودعةً حتى باب الخيمة، وكأنها أم العريس الذي زُفّ بالأمس إلى السماء! ودَّعَتْنا بابتسامتها المعهودة وهي تقول: "زورونا دايماً"! ودَّعْتُها - بعينيَّ اللتين لم يجف دمعهما - على وعدٍ بدخول بيتها مهنئةً في المرة القادمة!! وهل كنت معزيةً اليوم؟!

أحبتي في الله .. هذه الأم نموذجٌ للصبر عند الابتلاء، و(الصبر وقت الشدة) وأي صبرٍ؟ إنه الصبر عند فقدان الابن، ويا له من صبر، لربما كان من أعلى درجات الصبر؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ "قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي" فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ "قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ" فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ "مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟" فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ اللَّهُ "ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ"]، ويقول سبحانه وتعالى في الحديث القدسيّ: {ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ، إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إلَّا الجَنَّةُ}. وكأني بأم الفقيد تسترشد بقول نبينا الكريم: [إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى].
فالصبر من عزم الأمور؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. وهو من صفات الصادقين المتقين؛ يقول تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾. والصبر سبيل الفلاح؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. والصابرون لهم أجرٌ عظيم؛ يقول تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾. ويبشر الله تعالى الصابرين بقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، ويعدهم عُقبى الدار؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾، ويقول: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾، وهم الفائزون بالجنة؛ يقول تعالى: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾، ويقول: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾، ويقول: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾، ويقول: ﴿ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾، ويقول: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، ويقول: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. والصابرون والصابرات يشملهم قوله تعالى: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾، وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾
لكل ما سبق يأمرنا الله بالاستعانة بالصبر؛ يقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾، ويقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
يكفي الصابرين أنهم في معية الله؛ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وأنه يحبهم؛ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾.

إن للصبر على البلاء جزاءٌ عظيم؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَا يَزَال الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمؤمِنَةِ في نَفْسِهِ وَولَدِهِ ومَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّه تَعَالَى وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ]، ويقول: [إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلاَهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ]. والصبر- خاصةً (الصبر وقت الشدة) - دليلٌ على قوة وصدق الإيمان؛ يقول النبي صلّى الله عليه وسلم: [عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له]، ويقول: [وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ].

يقول أهل العلم إنّ الصبر على المصائب والشدائد من أبرز الصّفات التي دعا الإسلام للالتزام بها، وبيّن النبي عليه الصلاة والسلام أنّ الصبر إنما يكون في ابتداء المصيبة، ويكون (الصبر وقت الشدة)، فهو ابتلاءٌ، والابتلاء سُنَّة الله في خلقه، وهي سُنةٌ لا تتغيّر ولا تتبدل، فالعاقل من يَصبر وينتظر الفرج من الله ولا يطلبه من غيره، وهو يعي أن أصل البلاء إنّما أراده الله سبحانه وتعالى له ليختبر صبره وشكره من جحوده وكفره.

أحبتي .. الدنيا دار ابتلاء؛ لا يوجد منا من لا يُبتلى، والفائزون هم الصابرون. فلنصبر على كل ابتلاءٍ صبراً جميلاً؛ وهو الصبر بغير شكوى ولا جَزع. اللهم ألهمنا (الصبر وقت الشدة) وثبتنا عند الصدمة الأولى، واجعلنا من المحتسبين الذين يقولون عند نزول المصائب: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾. اللهم ﴿تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ وأدخلنا الفردوس الأعلى من الجنة من باب الصبر، بغير حسابٍ ولا سابقة عذاب. واحفظ اللهم أبناءنا واكلأهم بعنايتك، وابعد عنا وعنهم وعن كل مسلمٍ السوء والأذى.

http://bit.ly/36jqQKA