الجمعة، 26 فبراير 2016

نقطة مهمة


26 فبراير، 2016م
خاطرة الجمعة /٢٠

(نقطة مهمة)

يستوقفني في شريط الذكريات موقف من تلك التي لا تُنسى في حياة الإنسان ..
كان بيت العائلة في منطقة سراي القبة بالقاهرة، وكنا من أوائل الأسر التي أدخلت خط هاتف أرضي بالمنزل .. وكم كان رائعاً أن تربط الأسلاك بيننا وبين أقربائنا وأحبابنا فنسمع أصواتهم وكلماتهم تنساب عبر تلك الأسلاك كأنهم معنا أو كأننا معهم في مكان واحد رغم بُعد المسافات!
كان رقم هاتفنا، باستئذان وبغير استئذان، منتشراً بين الجيران وجيران الجيران وحتى سابع أو ربما عاشر جار، كرقم هاتف طوارئ لا يُستخدم -عادةً- إلا وقت الضرورة .. في أحد أيام الصيف، وكنت في العاشرة من عمري آنذاك، دق هاتف المنزل، رفعت السماعة فإذا بامرأة تبكي، قالت: "بلغوا الحاج سيد ..... أن جمال ابنه مات"، وأنهت المكالمة على الفور. قمت بإبلاغ والدتي، رحمة الله عليها، فسألتني من التي اتصلت؟ قلت لها: لا أدري، قالت: ومن هو الذي مات جمال أم ابنه؟ قلت: لم تعطني المتصلة فرصة للاستفسار .. أوقعتنا المكالمة الهاتفية في حيرة وأصبحنا في موقف لا نُحسد عليه؛ ماذا نفعل؟ موقف صعب .. لا نستطيع تجاهل إبلاغ الرسالة، وليست لدينا معلومة دقيقة نبلغها لجارنا الحاج سيد .. طلبت مني والدتي أن أذهب إلى منزل أسرة الحاج سيد وأخبرهم بنص الرسالة الهاتفية كما تلقيتها بالضبط .. لا أكثر ولا أقل .. كم كنت أحب هذه المشاوير وأذهب إليها مسرعاً؛ فقد كنت أسعد بامتنان الناس عندما أنقل إليهم رسائل مهمة أو عاجلة وإذا كانت الرسالة سارة ربما أعطوني بعض الحلوى! .. إلا هذه المرة .. تثاقلت قدماي ووددت لو لم أتلق تلك المكالمة أو أُكلف بنقل محتواها .. ذهبت متخوفاً قلقاً لا أدري ما ينتظرني .. ترددت قليلاً قبل أن أضغط بإصبعي المرتعش على جرس الشقة، فتحت لي امرأة كبيرة في السن، لعلها زوجة الحاج سيد، شراعة الباب، فلما عرفتني فتحت الباب مرحبةً بي، قلت لها: "تلقينا منذ قليل مكالمة هاتفية من الإسكندرية، لم تعرفنا المتحدثة بنفسها، وطلبت منا إبلاغ الحاج سيد أن جمال ابنه مات". شهقت وسألتني بانفعال: "من الذي مات؟ جمال أم ابنه؟"، قلت: "لا أعرف، هكذا تلقيت الرسالة" .. لم أكد أدير ظهري لها في طريق عودتي إلى البيت، إلا وأصوات الصراخ والعويل من شدتها أحسست أنها قد ملأت الكون كله خلفي .. كلما علت تلك الأصوات كلما أسرعت العدْو كأنما أسابقها أو أسابق ضربات قلبي المتلاحقة كأنفاسي عائداً للبيت أحتمي به خوفاً وهلعاً ..
لا أتذكر الآن من الذي مات: جمال أم ابن جمال، رحمة الله على الذي مات منهما .. لكني لا أنسى هذا الموقف أبداً ما حييت ..
كلما تذكرت هذا الموقف كلما زاد إعجابي بعبقرية علامات الترقيم وأهميتها في الكلام المكتوب، وتساءلت بيني وبين نفسي ألا توجد علامات ترقيم للكلام المنطوق؟ فازداد قناعة بأنه يلزم أن نتعلم استخدام "نقطة الكلام" [الوقفات والسكتات] في أحاديثنا الشفوية، تماماً كما نستخدم "نقطة الكتابة" للفصل بين جملتين اكتمل معنى الأولى وانتهى، ثم بدأت جملة جديدة بمعنى جديد؛ ضماناً لعدم تداخل المعاني أو سوء الفهم. فلو كانت المتصلة قالت: جمال، ثم سكتت، ثم قالت: ابنه مات؛ لعلمنا أن الذي مات هو ابن جمال. ولو أنها قالت: جمال ابنه، ثم سكتت، ثم قالت: مات؛ لعلمنا أن الذي مات هو جمال.
أحبتي في الله .. "نقطة الكلام" بالوقفات والسكتات في الموضع الصحيح (نقطة مهمة) كأهمية "نقطة الكتابة" تلك التي فصلت بين الموت والحياة كما في الأسطورة حين كتب قاضٍ حكماً بإعدام أحد المتهمين نصه: [الإفراج عنه مستحيل يُنقل إلى السجن ويُعدم]، لم يخطر ببال القاضي أن المتهم عندما أضاف النقطة بعد كلمة "عنه" تغير الحكم وصار [الإفراج عنه. مستحيل يُنقل إلى السجن ويُعدم] فكأن حكم القاضي هو الإفراج عن المتهم، وتأتي الجملة التالية مؤكدةً قرار الإفراج!. هكذا الأمر، لو أجدنا استخدام "نقطة الكلام" أثناء الحديث الشفوي كما نجيد استخدام "نقطة الكتابة" في النص المكتوب، لأصبح للكلام معنىً أكثر وضوحاً.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.