الجمعة، 20 يناير 2023

إذا أحبك الله استعملك

                                                       خاطرة الجمعة /379


الجمعة 20 يناير 2023م

(إذا أحبك الله استعملك)

 

هذه القصة من «القاهرة» يرويها لنا صاحبها؛ كتب يقول:

قبل عدة أيامٍ قررتُ النزول إلى منطقة وسط البلد لشراء بعض اللوازم الكهربائية التي لا تتوفر إلا هناك. هذه هي المرة الأولى التي أقوم فيها بجولةٍ في وسط البلد منذ زمنٍ بعيد. كان صباح يوم جمعةٍ، الشوارع هادئةٌ، تركتُ سيارتي بعد منزل كوبري «رمسيس» على اليمين وقررتُ أن أتمشى إلى منطقة «باب اللوق» والشوارع المحيطة بها. بدأتُ أستعيد ذكرياتي القديمة مُروراً بشوارع وتقاطعات وسط البلد؛ وجدتُ بعض المحلات الجديدة والأسماء الجديدة، ولكن لا تزال هناك الكثير من الأماكن القديمة مُحتفظةً بعبق وسط البلد، والتي لها أجمل ذكرياتٍ في وجداني. لم أدرِ في أي اتجاهٍ أذهب؛ فتركتُ نفسي سائراً على غير هُدىً مُستمتعاً بالتمشية والفُرجة، وتيقنتُ أني تُهتُ تماماً في هذه الشوارع العتيقة.

فجأةً وجدتُ نفسي أمام محل أحذيةٍ قديمٍ جداً، وكان شبه مُظلمٍ من الداخل، وقفتُ مُتكاسلاً بلا هدفٍ مُعينٍ أمام الواجهة الزجاجية للمحل، وبدون سببٍ وجدتُ نفسي أدخل المحل لأجد رجلاً في نهاية السبعينات من عُمره، نهض مُتهللاً للترحيب بي وسألني عن طلبي، في حقيقة الأمر لم يكن هناك أي شيءٍ مُحددٍ في ذهني، ولم تكن عندي أية نيةٍ لشراء حذاءٍ، ولكني كنتُ مُستسلماً للأمور بشكلٍ عجيبٍ، طلبتُ منه على سبيل الاسترسال أن يُريني بعض الأحذية الجلد أو الشمواه من اللونين الأسود والبني، ولكن لم يكن في داخلي أية نيةٍ للشراء، لم أكن أعرف لماذا أفعل ذلك! بدأ الرجل في استعراض كل ما عنده من أحذيةٍ، ولم أجد في النهاية مقاسي ولا ألواني المفضًلة. وبدلاً من أن أشكر الرجل على تعبه وأُغادر المحل وجدتُ نفسي أقول للرجل: "سأشتري هذه الأحذية الثلاثة"، ووجدتُ نفسي أدفع للرجل كل ما طلبه من مالٍ دون مُساومةٍ، راضياً! كيف؟ ولماذا؟ لا أدري، لكن هذا ما فعلتُ! ربما بسبب نظرات الرجل اليائس من أن أشتري منه أي حذاءٍ، وربما لأنه كان يشكو لي أنه من أسابيع لم يبع حذاءً واحداً. تركتُ الرجل وهو يشكر الله على ما جاءه من رزقٍ من حيث لا يحتسب، وخرجتُ مُسرعاً وأنا لا أفهم ماذا فعلتُ، ولكن كانت بداخلي سعادةٌ لا توصف أنني كنتُ سبباً في جبر خاطر هذا الرجل البسيط، وإحساسٌ بأن الله سُبحانه وتعالى استعملني للخير ويسَّر لي أداءه. الغريب أنني لو سُئلتُ أين هذا المحل؟ وما هو اسمه؟ ستكون إجابتي "لا أعرف!"، ولو حاولتُ الذهاب إليه مرةً أخرى لن أعرف!

رجعتُ إلى سيارتي بعد جهدٍ جهيدٍ وأنا أحمل هذه الأحذية، والتي سوف تذهب لأصحاب نصيبها بإذن الله، وقدتُ سيارتي راجعاً وأنا أفكر في رحمة ربنا وترتيباته العجيبة -سُبحانه وتعالى- في أرزاق البشر، كنتُ ذاهباً لشراء لوازم كهربائية فساقتني الأقدار ليصل المال إلى هذا الرجل، وأكملتُ في نفسي مُبتسماً: "اليوم كان يوماً من ترتيب المولى عزَّ وجلَّ ساقني إلى عمل الخير سَوْقاً".

 

أحبتي في الله.. يقول تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾، قال المُفسرون لهذه الآية الكريمة إن تسخير الله سبحانه للخلق بعضهم لبعضٍ آيةٌ من آيات الله، تحار فيها العقول ويقصر عنها الإدراك؛ تحتاج مساعدةً في أمرٍ ما فيُسخِّر لك ربك من يكفيك أمرك ويُعينك فوق ما كنتَ تأمل، لا تدري من أين جاء وكيف جاء، لا تدري كيف ساقه الله إليك.

هذا ما حدث مع الرجل كبير السن صاحب محل الأحذية، ساق الله له من يشتري منه بأكثر مما كان يتوقع. أما الرجل الذي اشترى من غير وجود نيةٍ للشراء، ولا معرفةٍ سابقةٍ بهذا المحل بالذات، فقد انطبق عليه قول القائل: (إذا أحبك الله استعملك)؛ اختاره المولى عزَّ وجلَّ ليكون سبباً في سعادة غيره وجبر خواطرهم وإغنائهم عن السؤال، سواءً في ذلك صاحب المحل، وهؤلاء الذين سيكون من نصيب كلٍ منهم حذاءٌ جديدٌ اشتراه لهم وحمله إليهم من لم يكن يُخطط لذلك أبداً!

 

إن الله سُبحانه وتعالى إذا أحب عبداً عسَّله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ]، قيل: وما عسَّله؟ قال: [يَفْتَحُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ]. «عسَّله» أي جعل له من العمل الصالح ثناءً طيباً كالعسل، كما يُعسَّل الطعام إذا جُعل فيه العسل.

وفي روايةٍ: [إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ]، قيل: وما استعمله؟ قال: [يُفْتَحُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ مَنْ حَوْلَهُ]. وفي معنى «استعمله» يقول أحد العُلماء: على ظهر هذه البسيطة التي نعيش عليها أكثر من سبعة آلاف مليون من البشر يعيشون، كُلهم ذوو اتجاهاتٍ شتى، وأهدافٍ مُختلفةٍ، واتجاهاتٍ مُتعددةٍ، فمن منهم موفقٌ في عمله يسعى لما ينبغي أن يسعى إليه من رضا الله؟ قليلٌ ما هُم! ماذا لو أحبك الله من بين هذه المليارات السبعة؟ (إذا أحبك الله استعملك)؛ فيربط همتك بمطمحٍ كبيرٍ تنشغل في تحصيله، فيصرفك عن فنون اللهو وأنواع الملذات الرخيصة؛ لتقوم بعملٍ أجلَّ وأعظم، إنه يستعملك لما فيه رضاه، وما فيه نفع نفسك وقضاء حوائجها، ثم نفع الآخرين من بعد. إنه يستعملك في عملٍ يوصلك إلى الدار الآخرة مُطمئناً آمناً من كل فزعٍ أو خوفٍ.

قال أحد التابعين: “وإذا أحب الله عبداً أكثر حوائج الخلق إليه"، وقال آخر: “إذا أحب الله عبداً اصطنعه لنفسه، واجتباه لمحبته، واستخلصه لعبادته، فشغل همه به، ولسانه بذِكره، وجوارحه بخدمته”. وقال ثالثٌ: "إذا أردتَ أن تعرف مقامك عند الله، فانظر فيمَ استعمَلكَ؟ فإذا أحبَّ الله عبداً استعمله في الخير، وجعل حوائج الناس إليه، وفتح على يديه باب الأعمال الصالحة، وجعله أداة خيرٍ للناس"؛ فأن يكون لك عَشرة إخوةٍ، وتختارك أمُّكَ أنتَ لتقضي لها حاجتها، فهذا من استعمال الله لك، وأن يقف بجوارك رجلٌ كبيرٌ على الرصيف لتأخذ بيده ليعبر إلى الجانب الآخر من الطريق، فهذا من استعمال الله لك. فربما يصطفيك من بين عباده، ويسوقك بلطفه الخفي العجيب إلى طاعةٍ أنت غافلٌ عنها، يختارك من بين خَلْقه -على كثرتهم- لتُغيث عبداً ملهوفاً ضاقت عليه الحيلة، فيرحمك كما رحمته، ويكون هذا المُحتاج رحمةً لك وبركةً عليك من حيث لا تدري.

 

إذا عسَّلك الله جلَّ جلاله أو استعملك لعمل خيرٍ، فما ذلك إلا ليدَّبر لمُحتاجٍ ما يحتاج إليه بكرامةٍ وعزة نفسٍ، كما أن في تدبيره -سُبحانه- حباً لك؛ إذ ساقك سَوْقاً إلى هذا المُحتاج، لتعمل عملاً صالحاً، تؤجر عليه في الدنيا بحُب الناس لك وذِكرك بالخير، وفي الآخرة بالثواب العظيم.

وفي ذلك قال الشاعر:

وَاشكُر فَضَائِلَ صُنعِ اللَّهِ إِذ جُعِلَت  إِلَيكَ، لَا لَكَ عِندَ النَّاسِ حَاجَاتُ

قَد مَاتَ قَومٌ وَمَا مَاتَت فَضَائِلُهُم   وَعَاشَ قَومٌ وَهُم فِي النَّاسِ أَموَاتُ

 

أحبتي.. لا شكَّ أن من علامات توفيق الله للعبد تيسيره للعمل الصالح؛ فإذا أراد بعبده خيراً، حبَّب إليه الخير وهيَّأ له أسبابه، مثل هذا العبد اختار مقعده في الجنة وهو ما زال في الدنيا.

اللهم اجعلنا ممن أحببتهم فاستعملتهم. اللهم استعمِلنا ولا تستبدلنا، ووفِّقنا للسعي إلى ما يُرضيك. اللهم افتح لنا أبواب الخير، واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، ووفقنا للعمل الصالح، واستعملنا في طاعتك، وأحسن لنا الختام، واقبضنا على أحبّ الأعمال والأحوال إليك.

 

                                                          https://bit.ly/3J2kbKM